حديث محبرة … الإيقـاع

ليس الإيقاع ـ كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ـ مفهوما فلسفيا أو جماليا، إنه ـ بالأحرى ـ ما نصوغه ونبنيه انطلاقا من الإيقاعات المختلفة التي نعثر عليها هنا وهناك، وبشكل فعلي محسوس في هذا المجال أو ذاك.
فكل الفنانين ـ من دون استثناء ـ وفي كل اللغات أو جلها على الأقل، يتحدثون عن الإيقاع، كلٌّ ضمن دائرته ومجاله، وفي نطاق عمله واشتغاله؛ يستوي في ذلك الموسيقي والشاعر بطبيعة الحال، بل وأيضا: الكوريغرافي والراقص، والمخرج، والممثل .. الخ. فالكلمة ذاتها لا تعني بالضرورة الشيء نفسه، والاستعمال المشترك والموطوء للمفهوم كلعب لغوي، يمكن أن يكون فخا ميتودولوجيا. ذلك أن إيقاع لوحة فنية ليس هو إيقاع معزوفة موسيقية. وإيقاع الموسيقا ليس هو، بحال، إيقاع نص شعري. ومع ذلك، ولئن لم تحمل الكلمة في طياتها ما يمكن تسميته ب «التراسل» حسب المفكر إيتيانْ سوريو، ضمن اختلاف تلك الإيقاعات نفسها، فليس من شك في أنه يوجد ـ في أقل تقدير ـ تعالقٌ ما، وتصاقب معين بينهما.
أليس للإستيطيقا ( علم الجمال ) شيء تفكر فيه بما يليق بمجالها وطبيعتها وموضوعها؟. علينا ـ أولا ـ أن نعود إلى مصطلح « ريتموسْ « الإغريقي لنفهم بأن التمظهرات الخاصة للحركة حسب اللساني الكبير إيميل بنفينستْ، لم تُحِلْ أبدا على العنصر الموسيقي، بل أحالت إلى مختلف أنواع الوقائع الخاصة في الفضاء كما في الزمان بين شكل ودَفْق: جَزْرٍ ومَدّ، ك: إيقاع الذرات بحسب الفيلسوف ديموقريطْس، و( اللايقاع ) وَفْق الفيلسوف أنتيبونْ، و( نظام الحركة ) في نظر أفلاطون، ثم ( إيقاع الوجود نفسه ) كما رأى شاعر المراثي الإغريقية: أرْشيلوكْ، في بعده الأخلاقي والأدبي.
ثمةَ ما يدعونا إلى طرح السؤال حول مشروعية توسيع ميتافيزيقا للخطاب، بعيدا عن « نقد « أولي في اعتبار الشاعر واللساني الفرنسي: ميشونيكْ. هنا، أيضا، يتبدى أن الإيقاعات الأنتربولوجية تختلف عن الإيقاعات البيولوجية؛ كما أن الإيقاعات البيولوجية تختلف عن الإيقاعات الكونية، وهكذا. ومع ذلك، مع هذا كله، وما لم يكن موجودا أو حاضرا أو متلامحا، ما يمكن نعته تجاوزا ب ( الإيقاعات المتداخلة ) التي استحدثها الموسيقي العربي العبقري زمن المعتصم: صفي الدين الأرْمَوي، فعلينا أن نفكر جديا في علاقة الإستيطيقا بمجالات فلسفية أخرى، أو بمجالات العلوم الإنسانية. وبناء عليه، فإن تسمية أخرى للإيقاع، ينبغي أن تُقْتَرَحَ وتُطْرَحَ. أما أصالتها وجِدَّتها، فتكمن في عملها ووظيفتها بدمج ومزج ثلاث مفهومات من بينها اثنتان مركزيتان بالضرورة: البنية، والتكرارية، والحركة. وبالإمكان انطباقها على مختلف المظاهر الإيقاعية وبالأخص: الجمالية، انطلاقا من أمثلة مضبوطة ك: ( بولْ كْلي في الرسم، صافي الدين الأرِموي في الموسيقا، وهنري ميشو في الشعر وفي الرسم والموسيقا كذلك.) وهكذا، وبحسب التحديد ذاك، لا يكون الإيقاع موضوعا (شيئا ) أبدا، بل يستمر ظاهرة حية حيث إن المنطق يحاول، فقط، أن يعيد له « منطقه « و» طبيعته «. لأن الإيقاع هو ـ في الآن عينه ـ قابل للخضوع وللقياس، أي للمنطق والعقلنة في إطار حصيصته وقسمته الكمية. من هنا نظريات التنسيب، والرقم الذهبي المسمى أيضا ب» النسبة الإلهية»، وهو ما يتَفَلَّت أكثر الوقت، من قبضة المنطق، ويجافي صرامة العقل ك: ( الحدث ـ والغَشْي ـ واللامتوقع بامتياز ). بل أكثر من هذا، ما يجعل المنطق ينفلت من المنطق نفسه كما في حال ومقام: الحضرة الروحية، والغياب الحسي، والانخطاف الجسدي، والجدبة.
وأخيرا، وليس آخرا ـ فإن استمرار العمل، والنبش في الموضوع إياه، ينحو منحى الإقرار بأن الإيقاع وعلم الجمال ظلا مرتبطين ـ منذ البدء ـ كما يقول الفيلسوف البْروسي بومْكارْتْن، وأن طرح سؤال الإيقاع سيكون، أيضا، وبشكل موسع، مساءلة الإمكان ذاته في ما يخص تفكير الحساس والهش.

إحالات:

ـــ صاحب المقالة المعنونة ب ( الإيقاع )، هو بييرْ سوفاني: أستاذ محاضر في علم الجمال بجامعة بوردو الثالثة / شعبة الفنون التشكيلية، وعازف إيقاع وملحن موسيقي.
ــ المرجع: مجلة/ عدد 414 خاص حول فلسفة الفن / نوفمبر 2002 / ص 47: magazine .littéraire
ــ تعريف الأعلام الواردة أسماؤهم بالمقالة، من عندي.


الكاتب : بقلم: بييرْ سوفاني ترجمة ( بتصرف ): محمد بودويك

  

بتاريخ : 10/06/2022