النحّات

يشترك مع الآخرين في قضايا الأرض، حرثًا وحصادًا وجنْيًا للغِلالِ والثِّمار. يشترك معهم في كل ما يتعلق بالماشية، ماعِزَا وشياهًا وبقرًا، كما يعرف طلباتها سواء كانت في المراعي حرةً طليقةً، أو في الحظيرة، يعرف كي يتدخل كلما أَلَمَّ داء برأس من رؤوسها. يعرف أيضا متى يشتري في السوق البعيد، ومتى يبيع، إلا أنه يتميز عن أبناء عشيرته بمشاغل أخرى. فهو يحمل في دواخله رغبة في تشكيل العالم الذي حوله من خلال إضفاء المعنى على الأشياء.
كلما مرَّ بصخرة، بدت له واعدة بما يتوق ويشتاق إليه، تأملها طويلا، قبل أن يشرع في تلمُّسها بيديه برفق وحُنُوٍ كما لو أنها جسد أنثوي حي. يجس، كالطبيب، نبضها، ويستطلع إمكانياتها المتاحة. يدرك بحدسه أنها كتلة صلبة، وليست بداخلها كسور أو تشققات، وأنه ساعة الحسم، حين يهوي عليها بالمطرقة، كي يشكل منها دائرة كبيرة، كبداية أولى لرحى معصرة الزيتون، لن تتفتت، وتنشطر إلى أجزاء. حين يعلم، علم اليقين، أنها لن تخون يسمح لقامته الفارعة أن تنحني، كي تبارك الصخرة الواعدة بقُبلةٍ من أعماق الغبطة والسرور عربون رِباطٍ ومحبةٍ.
هذه المهمة الصعبة وحده يتقنها، وكم من صعود إلى الجبل يلزمه لأن مواصفات الصخرة المناسبة لا توجد إلا في الجبل، حيث بقايا الصخور البركانية الصلبة كالفولاذ. يلزمه أيضا كثير من الوقت والصبر لأنه ينحت في الحجر.
بعد أن خبر الصخرة المنتقاة بالضربات القوية التي رددت أصداءها المغاور والحافَّات، وبعد التأكد من سلامتها من الشقوق الداخلية، وأنها كتلة واحدة، يعمل على تشكيل تلك الدائرة الصخرية الكبيرة، والتي بدونها لن تُطحن حبة واحدة من الزيتون.
الآن بعد أن أفصحت له، وكشفت له عن مباهجها ، يعاملها بلين ورفق ويضرب ضربات متقاربة وأقل حِدَّة. ضربات دقيقة تحرص على عدم الخروج عن الخط الدائري الوهمي الذي رسمه في مخيلته الخلاقة. كلما تقدم في العمل استشعر غبطة في السريرة تجعله يتوقف قليلا، كي يرى قدرة الإنسان على ترويض الصخر الأصم، وجعله يُعرِب عن مكنونه كمادة حية حين يصبح له معنى من خلال وظيفة تسند له بدل حالة الجمود الأبدي التي كان عليها منذ انطفاء البراكين الأولى في الأزل البعيد.
يتطلع من أعلى وتبدو له سطوح المنازل رُقعا صغيرة متباينة الأحجام والأشكال. تبدو له القطعان العائدة من المراعي، ويدرك أن وقت النزول حان قبل أن يدركه الليل في الأعالي.
أثناء الانحدار من الجبل يرى كيف أن الطير يسابق الظلال الزاحفة، ويحلق أسرابا أو فرادى إلى أعشاشه وأوكاره في الحافات الصخرية المنيعة والأشجار السامقة.
يغفو في نوم عميق بمجرد تناول العشاء، لكي يصحو باكرا ويصعد إلى ذات الصَّخرة. لن يهدأ له البال حتى يفرغ من هذه المهمة ويسلم منحوتته إلى الأهالي، ويأخذ أجره الزهيد لأنه لا يقاس بكل ذلك العناء ذهابا وإيابا وطرقا.
كانت المدة تستغرق شهرين أو يزيد مع الحرص على العمل الدؤوب. أما أصحاب المعصرة فهم بدورهم لن يهنأ لهم البال حتى يروا الرَّحى الكبيرة في المكان المخصص لها تدور وتدر المطلوب المشتهى.
هاهي الآن اكتملت أو قاب قوسين من ذلك. قطرها حوالي متر ونصف، وعرضها يناهز خمسة وعشرين سنتمترا. لم يبق غير الثقب الذي يتوسطها، وعليه أن يحدده بدقة متناهية، وحِرفيَّة كبيرة. لا يُسمح بأي خلل في هذا الشأن، لأن أي ضربة غير محسوبة العواقب يمكن أن تؤدي إلى نتيجة وخيمة، فأي شق مهما دقَّ وصَغُر يهدد المنحوتة بالانشطار خاصة عندما يعملون على جرها من مكانها باتجاه المعصرة. النحات حريص على إتمام هذه المهمة الصعبة، وكلما صلى رفع أكفه إلى السماء متوسلا الله أن يمده بالعون والتوفيق.
على مهل، وبما يكفي من أناة، يضرب بمطرقة صغيرة على وتد من حديد في مركز الدائرة. يتصبب عرقا من شدة الخوف من أن يخترقها كسر ويذهب كل الذي شقي من أجله سدى.
استطاع، برغم حنكتة وتجربته، أن يجتاز هذا الامتحان العسير، ولم يبق غير بعض اللمسات الأخيرة. عليه أن يحولها من شكلها الخشن المسنن إلى جسم أملس. هذا الأمر لايستدعي قلقا ولا يُضمر أية خطورة. بحجر في حجم قبضة اليد يحك الرحى ثم يعيد إلى أن بدت بهيجة للعين. يمرِّر بتؤدة يده ولا يكاد يحس إلا بنتوءات ضئيلة وناعمة تدغدغ راحة كفِّه، فتمنحه إحساسا بفرح عارم.
لقد أنهى عمله، وهو سعيد بذلك لأن الأجيال ستتذكره وتدعو له بالرحمة والغفران بعد رحيله من هذا العالم.
زفَّ الخبر السعيد لأهل القبيلة، فسارعوا إلى تهنئته على منجزه العظيم. لم يبق الآن غير نقلها من حيث هي(تاغْروطْ) إلى المعصرة. مهمة أخرى لا تخلو من خطورة، فجرُّها من الجبل ليس بالأمر البسيط الهين.
بعد صلاة الجمعة اجتمع أعيان القوم، وظلوا يتطارحون الكلام في شأن الرَّحى إلى أن نادى المؤذِّن لصلاة العصر. قرَّروا أن الأمر يهم كل أفراد القبيلة، وعلى كافة الناس أن يساهموا ويساعدوا على جرِّ الرَّحى المباركة من مكانها حيث نُحتت إلى المعصرة.
كان ذلك اليوم يوما مشهودا كأنه عيد. قدم الرجال والفحول الأقوياء من الشباب بحبال شديدة الفتل تتبعهم النساء والعذارى بالزغاريد. وفي الصعود إلى المكان حيث توجد الرَّحى رسموا طريق النزول، وأزاحوا كل ما من شأنه أن يعوق عملية الجَّر.
كان المشهد مؤثرا ومثيرا في نفس الآن. سواعد قوية زادها الهتاف والصلاة على النبي والزغاريد قوة خرافية فَلانَ الحجر وطاوعهم.
قضوا نصف يوم بكامله إلى أن أنزلوها بما يكفي من حذر، ولما همُّوا بالدخول بها إلى المعصرة أوقفوها بجهد جهيد، فبدت لهم بهية كاملة الأوصاف: زرقة يشوبها بياض وملمس ناعم ودقة في شكلها الدائري.
وضعوها في المكان المخصص لها، وربطوها بالجدع الخشبي الذي يتوسط دائرة قطرها حوالي مترين مُسوَّرة بسور علوه قرابة نصف متر. هذه الدائرة الشبيهة بحفرة كبيرة هي الإقامة النهائية لهذه الرحى التي ستعود بالنفع على القبيلة كلها كلما دارت دورة من دوراتها.
انفض الجمع وذهب كل واحد ليغتسل، من العرق والأتربة العالقة بالجباه وأطراف الجسد، ويلبِس أزهى ما يملك من الثياب ليلتحق بمنزل أصحاب المعصرة الذين أولموا وليمة كبيرة احتفاء بالنحات وبالرحى المباركة الميمونة.
هذا النحات ذاته هو الذي صاغ من جذوع الشجر العظيم مسقاة «أَغْبالو» (العين أو النبع) المطل على المكان المعروف ب « أَلْمو» في الجبل، وهي عبارة عن جذوع طويلة مجوفة بإتقان ثَمَّ وضعها بشكل متدرج لأن ينبوع الماء يوجد في منحدر، وبهذه الطريقة الذكية يصب الماء في المسقاة الطويلة الأولى ثم يصب أسفلا في المِسْقاة الثانية والثالثة.
هذا التخطيط هو الذي يسمح لقطيع الماشية أن يروي ظمأه دفعة واحدة، ثم يفسح المجال لقطيع آخر.أما قبل فقد كان التدافع بين رؤوس القطعان ولا يظفر بالماء غير القوي، كما أن الشنآن لا يكاد ينقطع بين الرعاة، لأن كل واحد منهم يحرص على الأسبقية.
هو الذي نحت من الشجر المحراث، وهوى على الحديد إلى أن لان بالنار والضرب فصاغ منه سِكَّةَ الحرث، وألجمة وصفائح المطايا من الدواب.
هو الذي صنع من أعمدة الدفلى الطويلة واللينة شباكا عملاقة يكدسون فيها التبن، ثم يحملونها على أكتافهم باتجاه مكان التخزين. هو الصانع للرَّحى الصغيرة التي تُدار باليد، والتي لا يخلو منها بيت. تطحن بها الأمهات القمح والشَّعير قبل مجيء المطاحن العصرية في القرى البعيدة.
هو الآن في الأعالي يجوس من جديد نبض صخرة أخرى، ويتمنى ألا تخون.


الكاتب : محمد بوجبيري

  

بتاريخ : 08/07/2022