قراءة في ديوان «جناح الليل» للشاعر عبدو سلطان كاسمي

 

سأتوقف عند العنوان باعتباره عتبة الولوج إلى دروب الديوان وباحاته، وقد جرت العادة أن نؤول هذا المركب الإسنادي على أنه جملة اسمية حذف مسندها، وتقديرها: (هذا جناح الليل). لكن برياضة تأويلية أخرى، ارتأيت أن أقرأه هكذا: «نحن تحت جناح الليل». على اعتبار أن ضمير الجمع (نحن) هو صوت الشاعر عندما يتحلل من الفردانية ليتكلم باسم الذات الجماعية التي ترزأ تحت وطأة ليل له دلالات تتمظهر من خلال المتون. فظرف المكان (تحت) يومئ إلى تموضع الذات تحت جبروت هذا الليل، وقد استعمل الشاعر المجاز المرسل في هذا العنوان للتعبير بالجزء عن الكل، فالجزئية كامنة في الجناح، والكلية في ظلام الليل الموحش وما يكتنفه من رمزية وإيحاء.فالليل هو سادن كعبة المخاوف والظنون، والليل مفتاح الإحساس بالغربة والاستلاب، وتحت جناح الليل تبرم الصفقات الأكثر شبهة، وتحاك الدسائس، وفي الليل تستيقظ الأوجاع والآلام.
وفي الموروث يُرمز بالليل إلى عصور الانحطاط وإلى فصول الظلم في حياة الشعوب وإلى الجهل عندما يستشري فيكون أصل الآفات التي تعاني منها البشرية.
والشاعر هُنا خصّص عدداً من القصائد لهموم الإنسانية والوطن بمعناه الشاسع، مُعـبِّراً في أكثر من موضع عن ضمير الجمع، وما يعانيه في عالم يغرق في المتناقضات.
تستقبلنا الأضمومة بنص موسوم بسؤال الشك والرجحان وهو (يمكن)، لكنه ليس شكّاً عـقيماً بل هو ذلك الشك الذي يفتح بوابة السؤال على درب البحث عن الحقيقة.ويتكرر لفظ ( يمكن ) 19 مرة كجرس يوقع سخرية الشاعر من تلك الصور السلبية التي يعاني منها هو كذات مبدعة ويشاركه فيها الآخرون، يقول: لقيت / شلا ناس تعاني / منهم كبار وصغار / ومنهم حتى كراني / ما دايرينهاش اهبل تربح / ما دايرينهاش بلعاني.

المحور الأول: التناص
في جناح الليل

التناص ظاهرة قديمة في الأدب لفتت إليها انتباه النقاد القدامى والمحدثين، واليوم تجد القراءة الاسترجاعية ( التي تهتم بالتناص) شرعيتها لأنها تبدأ بقراءة النص ثم ترتد عنه في وعي إلى الروافد السابقة عليه، قديمها وجديدها، مع ملازمة القراءة المرجعية مع القراءة التأويلية التي تلاحق المفردات والمركبات والنص الكامل، لأن ظواهر التناص تزخم النص بكم هائل من الرموز والأساطير والاستدعاءات.والتناص في هذا الديوان يؤدي وظيفته كاملة لأنه من جهة أعطى شاعرنا اطمئناناً وثقة في قدراته وإمكانياته الثقافية، ومن جهة أخرى يؤشر للقارئ، بشهادة صريحة، على تشبع المبدع عبدو سلطان بالمثاقفة. وتتنوع مصادر التناص أو مصادر الثرات وتتعدد في هاته الأضمومة لتشمل الموروث الديني والأسطورة والحدث التاريخي والتراث الشعبي.
ونرصد هيمنة الأحداث التاريخية على النص، إما عن طريق التصريح أو الإضمار، فهناك استلهام لشخصية هولاكو في إشارة الى غارات المغول على بغداد، وقد جعل الشاعر الحدث معادلاً موضوعياً للقهر الذي تعيشه الشعوب في ظل الاستبداد والعولمة.
وفي نص «حلم قديم « إشارة صريحة إلى النكبة الفلسطينية، ثم وبالطريقة الثورية يشير الشاعر إلى فشل المؤتمرات العربية في إيجاد مخرج للأزمة التي حلت بأرض الأنبياء، يقول:
يا قدس / يا قدس امْقَدّس/ ف عز غيامك / بكات الشمس / ودابت ساعة الغروب / عام النكبة لمدنس..
ثم يواصل: يغيضني الحال / ملي نشوف الخرفان / ف سكاتها امخبية / انفرش لحلام / ف سرير البحر..
وينتهي النص باستدعاء شخصية صلاح الدين الأيوبي كرمز خالد للمحرر المنتظر والذي يجب الاقتداء ببطولاته يقول: واااهلي امِّي / وشكون فيك يا أمة؟ / شكون فيك… / خليفة صلاح الدين الأيوبي؟
وفي نص «العشق الخاين» يستلهم الشاعر من قصص القرآن شخصية يوسف النبي وزليخة، في إبداعٍ يُعانق الخُطاطة السردية في النص الأصلي، وذلك بهدف تقريب النص الحاضر من منطقة القداسة أو يُحوّله إلى عالم أرضي مُوازٍ للعالم السماوي.. ولعل الهاجس الذي يتملك شاعرنا مثل كل المبدعين هو الحرص على إبلاغ مقصدية النص. وإلى هذا يذهب ( توماس اليوت) في دراسة نقدية بعنوان ( التراث والموهبة الفردية) يؤكد فيها «أنه ليس من شاعر أو فنان يستطيع إيصال معناه بمفرده لأن الأجزاء المنفردة في شعر الشاعر هي التي يتأكد فيها خلود الموتى من شعراء أسلافه».وفي هذا الصدد نجد عبدو سلطان گاسمي يستدعي الشخصيات الإنسانية بما هي رموز تجدرت دلالتها في ذاكرة التاريخ والجماعة من قبيل قيس وعنترة بن شداد ونوستراداموس وميخالوس اليوناني، كما دون فترة وباء كوفيد19 ، مُبرزا تداعياته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية على البشرية ودرجة تضرر الفئات الهشة.
وتحتل الأسطورة حيّزاً ليس بالهـيّن في (جناح الليل ) وظفها الشاعر بحنكة وذكاء، وعياً منه بأن حفر النص في الذاكرة الشعبية الجماعية يعطيه أجنحة للتحليق والوصول.
ففي نص ( هولاكو القهرة ) نقرأ:
اشحال من سيزيف / يصارع هولاكو القهرة / بلا موجب اشرع، / والسكة راشية / من واهلي مُدّة / ياك مشينا بلا قنديل / ومشات بينا الماشينة.
وتجتمع هُنا الأسطورة مع الحدث التاريخي لبناء نسق عبتي يضخم هذا التقابل بين معاناة سيزيف ( إنسان الألفية الثالثة المهضومة حقوقه) وبين قهرة لا تقهر.
ويُلقي السؤال الوجودي بظلاله الثقيلة على نصوص الأضمومة، وينبثق من ضجر الحياة سؤال الموت والانبعاث، فيجد الشاعر أسطورة الفينيق والعنقاء وأبولو مجالاً خصباً لنسج مادة شعرية طافحة بالثابت، وهو الأسطورة لكنها تنهد إلى المتحول وهو ذاك الحب الذي يموت ثم ينبعث من رماده. والمؤشر على هذا كثير، أذكر منه على سبيل المثال قصيدة (حروف السر) وهي بمثابة لغز يضمر لفظ الحب الحاضر الغائب أو الخيالي الموازي في كينونته للعنقاء. والقارئ يتوصل بعد فك أزرار القصيدة إلى أن المقصود هو «حب فينيق».
يقول عبدو سلطان: كانت رحبة الواد/ شرابة لطير العنقاء/ وملوك المداد،/ تبعثها بعد الموت/ تخلّي السكات ساهي/ والكلمة راكبة هودج / فوق ظهر الحاجب، / امخبّية المكشوف. (حروف السر).
وهذا في حد ذاته تناص مع قول الشاعر: حواجبنا تقضي الحوائج بيننا / ونحن سكوت والهوى يتكلم.
إشاراتنا في الحب رمز عيوننا / وكل لبيب بالإشارة يفهم ( الكلام تناوله شعراء كثر من العباس بن الأحنف الى معروف الرصافي.
ويبدو ملمح الثقافة الشعبية واضحاً في (جناح الليل) فقد تضمنت النصوص ظلالاً لِفَنّ العيطة مثـل:
خطوات الشوفة: حاجتي فيك يا اگرينتي / انقرّبو كل ما بعَّدْ… ص52.
مشموم الروح: ها ضَيمي… ها ضَيمي… ص55.
العشق الخاين: نحاسبك بذنوبي… ص64.
كما نلاحظ استدعاء الأمثال الشعبية من قبيل: هبل تربح / الليالي حياني/ يدك منك ولو تكون مجذامة، وهي أقوال وظفها الشاعر للسخرية من بعض الممارسات المتعلقة بالشعوذة ( نطلبك تزور الشيخ الكافر) (ملقاك حرمل وشبة).

المحور الثاني: المرأة
في جناح الليل

إن إطلالة أولية على هذا الديوان، تعلن عن حضور المراة بشكل مكثف في الخطاب الشعري للشاعر عبدو سلطان، سنحاول رصد هذا الحضور في بنية النص وفي خرائطية الديوان.
فعلى مستوى الكلم، خصّص الشاعر 12 نصّاً للاحتفال بالمرأة ومناجاتها، والعدد هنا ليس صدفة ولا اعتباطاً، بل يشير إلى شهور السنة وبالتالي إلى سرمدية هذه العلاقة التي تربط الذات الشاعرة بالمحتفى بها، وتعبر عن ماهية ذلك الحب الذي يقر الشاعر أنه أزلي وأنه أسطورة.
لكن السؤال الذي يتبرج الآن هو: ما هي طبيعة وماهية هاته المرأة ؟
يأتيك الجواب بعد سياحة متأنية في منادح الديوان لنجد أن المرأة تتمظهر في هيأتين:
المرأة كمستعار منه أو مشبه به
المرأة كعنصر فاعل في حياة الشاعر الفكرية والوجدانية
أما النوع الأول فنجده في وطنيات الشاعر الموسومة بالعناوين التالية: نفحة العشق // مقام النخوة // حلم قديم.
وفيها تتمدد المرأة/الرمز من المحيط إلى الخليج لتشمل الوطن الأم وكل الأوطان العربية وعلى رأسها فلسطين وعاصمتها القدس.
وفي هاته النصوص يؤنسن الشاعر البلاد ويناجيها في صورة أنثى فيقول في قصيدة نفحة العشق: «يا الغالية عندي…/ ف عطش الغيبة / بان خيالك ف شريبة».
ثم يقول: «بالله عليك يا مجاورة / جوج بحور».. وهي إشارة الى المغرب طبعاً.
ونفحة العشق هي قصيدة بنفس طويل له دلالته الوجدانية الواضحة لا يفصح الشاعر عن المخاطَب فيها إلا في نهاية النصّ، لكن قراءة ثانية تبين ذلك من خلال القرينة: ( بالله عليك يا الساكنة جوج بحور) و (ضارب السلام / لنجمة ضاوية / ماتطفاش على الدوام، / وامگرضف لْعْلام / لونو لون دمّي) وهي إشارة للعلم الوطني.
وفي نص مقام النخوة، نقرأ: يا ساكنة ف الگلب / كون عندي جوج گلوب / نعطيك لاخر / ونعيش بهذا / اللي انتي مُولاتو/ وقيمتو بقيمتك ساوية… ص 28.
وحتى عندما يُناجي القدس يجعلها امرأة تَمّ اغتصابها، ويتحسر بمرارة على أهلها الذين وقفوا مكتوفي الأيدي واستغنوا عن الثأر بالمؤتمرات، يقول: عام النكبة لمدنّس / بلا فرحة بلا عرس / ضاع رواحك مغصوب… ص32.
والشاعر عبدو سلطان، باطلاعه الثقافي الواسع استطاع أن يسافر بنا في رحلة عشق ظاهرها مادي جسدي، وباطنها هيام المبدع بالمعرفة، وكَلَفُه بالحقيقة التي كلما مددنا لها يد الوصل تناءت وتمنعت ، لنغرق نحن والشاعر في لجة السؤال.


الكاتب : ذ. جواد مرزوق

  

بتاريخ : 09/07/2022