حكاية ملحونيات : كيف حول مهرجان ثقافي مدينة آزمور إلى حاضرة للإحتفاء بتراث الملحون المغربي

لم يكن ليتبادر إلى دهن أحد من المهتمين بتراث الملحون المغربي من باحثين وشيوخ؛ شعراء ومنشدين، من هواة ومولعين، بل حتى المؤسسات ذات الصلة، أن تلك المدينة الجميلة الصغيرة الهادئة؛ رغم أمجادها التاريخية وحضارتها الضاربة في القدم والعراقة؛ يمكن أن تكون حاضنة لأهم مهرجان تراثي لفن الملحون.
ولم يكن ليفطن أي متخصص في صناعة التنشيط الثقافي قبل سنة 2011 أن مدينة آزمور التي كانت لا تزال تتلمس خطاها الأولى لاسترجاع توهج تاريخها الزاخر في فن الملحون شعرا وتغنيا واحتفالا، قادرة على خلق حدث ثقافي تراثي بأبعاد دولية وتحقيق نجاح غير مسبوق وطنيا بل وضمان استمراريته.
تساءلنا وجميع المتتبعين لفسيفساء المهرجانات خاصة التراثية منها؛ منذ الدورة الأولى سنة 2011 حول فرص وإمكانيات نجاح وإنجاح ملحونيات آزمور؛ في مقابل تظاهرات عديدة بكل المراكز وعواصم الملحون بالمغرب، تافيلالت، مكناس، فاس، سلا ومراكش، والتي كانت كلها يطبعها من وجهة نظرنا انسداد الأفق ومحدودية التصور ونمطية المقاربة ما جعلها نسخ متكررة لبعضها ونتاج لنفس الأفق والتصور، فكانت النتيجة موت بطيء واندثار حتمي ساهم بشكل وافر في تراجع الإهتمام بتراث الأمة وضياعه وتطاول أعداء الأمة عليه بالسرقة والتزوير.
كان من الضروري في البداية القيام بقراءة نقدية واعية لواقع هذه المهرجانات وأسباب اخفاقاتها، وكانت الملاحظة البارزة هي اعتماد مقاربة الانزواء والاعتزال عن التلقي الشعبي لهذا التراث. فلا تقام له حفلات عامة جماهيرية ولا خوض لتجارب متجددة موسيقية وإيقاعية، ولا مناقشة لقضايا راهنية تُسائل تراث الملحون وأثره في إذكاء هوية الشخصية المغربية، بدريعة أن تراث الأمة له هواته ومحبيه من الخاصة الذين يعرفون قيمته الحضارية، ولعمري أن هذا التصور هو الذي ساهم في توسيع الهوة بين عامة الشعب وتراث الملحون، إذ تناسى هؤلاء أن التراث يسكن ذوات الشعوب ويتربع في لاوعيها الجماعي ومنه تتشكل هوية الأمم، ومهما باعدت بينهما تفاصيل الحياة؛ تجده ينبعث كلما ساد الإحساس بالغربة والإغتراب.
كما كان من الضروري استحضار تاريخ آزمور الذي امتد عبر قرون قبل دخول الإسلام وبعده؛ بكل أبعاد هذا التاريخ الحضارية والدينية والإجتماعية والسياسية؛ حيث أتثبت المدينة عبر العصور قدرتها على فرض شخصيتها ومواقفها والدود عن حوزتها، وانفتاحها على حضارات وثقافات متنوعة ومختلفة سواء بسبب الرحلات؛ وأبرزها ركب الحجاج؛ والتجارة والجهاد أو الإحتلال أحيانا.
وكان من الأساسي كذلك وضع تصور دقيق منفتح وأصيل في نفس الآن يتماهى مع كل تلك الأبعاد والمعطيات المستنبطة من قراءتنا لواقع التعامل مع تراث الملحون بالمغرب. تصور يؤمن أولا بالتعالقات الغنية والمتنوعة التي يخلقها فن الملحون مع مجموعة من الفنون والأنواع الغنائية المغربية: كالزجل والتواشيح والعيطة ونوبات وميازين طرب الآلة والترانيم الصوفية والسماع والمديح والفن الكناوي والعيساوي وموسيقى الروايس …. ويؤمن ثانيا بأن تراث الملحون كفن إنساني يشترك في عدة عناصر مع فنون إنسانية أخرى سواء من حيث التيمات التي تعبر عن الإنسان وحياته والطبيعة والحياة أو من حيث الإيقاعات والأنغام المرتبطة بوجدان الإنسان دون اعتبارات جغرافية. وثالثا يثق بقناعة راسخة أن المدينة وساكنتها مسكونون ومهووسون حتى الثمالة بتراث الأمة المادي واللامادي؛ ولم يكن لفن الملحون أن يُشكل الإستثناء في ذلك. ومن هنا كان أساس تصور ملحونيات هو الاشتغال على أرضية أصيلة صلبة تحفظ لتراث الملحون جوهره وطقوسه مع البحث في عناصره الكونية.
لم يكن الأمر هينا؛ ليس فقط في وضع لمسات المقاربة والتصور وتجميع الإمكانات المالية منها والتقنية واللوجستيكية، بل صعوبة الأمر والتحدي الكبير كان يكمن في اختراق حياة مدينة آزمور الهادئة حد الرتابة واحتلال موقع وحيز زمني في شهر رمضان الكريم الزاخر بالعبادات والطقوس والعادات التي تحافظ عليها ساكنة المدينة وتوليها مكانة عَلِيَّة.
*********
راهن كل المتدخلون في التحضير للمهرجان الدولي لفن الملحون «ملحونيات» آزمور في دورته الأولى سنة 2011، على تفاعل مدينة آزمور وساكنتها في مقام أول مع حدث من هذا الحجم ثقافيا وفنيا وتقنيا وفي شهر رمضان الأبرك، وفي مقام ثاني مع الإحتفاليات والليالي الساهرة التي ميزتها اختيارات فنية تراثية غنية ومتنوعة تلامس جميع الأذواق والأعمار وتتناغم مع الفضاء الذي تم اختياره بعناية.
وتميزت هذه المرحلة بتوتر غير مؤثر وقلق محفز من خوض تجربة مهرجان تراثي يشرئب ويتطلع للتماهي مع تجارب دولية في سابقة من نوعها في التعاطي مع فن الملحون بالمغرب؛ رغم ما وفرت له المؤسسات الترابية والإقتصادية من ظروف للنجاح، بالإضافة إلى استشراف ردود أفعال كل الفاعلين المهتمين بتراث الملحون بالمغرب حول تجربة اتخذت الإختلاف أساسا لتصورها.
وبين الدورة الأولى والدورة التاسعة اتسع حضن ملحونيات في فناء ساحة التعايش «بالملاح» داخل أسوار المدينة العتيقة وعلى جنبات نهر أم الربيع الخالد، لاحتفاليات من عمق تراثنا الوطني، لسيل دافق من شيوخ «الْكْرِيحَة» الملحونية شيبهم وشبابهم من مختلف مناطق المغرب على أنغام وإيقاعات جوقة من أمهر عازفي فن الملحون بالمغرب، إلى طرب الآلة وجوق عبد الكريم الرايس العريق، إلى صوت شريفة الجبلي الصادح من منابع أم الربيع بالأطلس المتوسط، إلى الطرب الحساني مع شريفة المرواني، إلى فن المطروز مع فرانسواز أطلون ومواويلها العبرية، إلى «اَلطْوَايَفْ» العيساوية والحمدوشية الفاسية والمكناسية والسلاوية وعبيدات الرمى، إلى العيطة المرساوية والزعرية، إلى الدقة الرودانية، إلى الغرناطي ونبراته «اَلشْكُورِيَّة»، إلى السماع والمديح وشطحاته الصوفية. وكان تراث الملحون في كل ذلك الخيط الناظم الناسج لتعالقات شعرية ونغمية إيقاعية مبدعة وجدابة في تناغم بديع وتماهي خلاق.
وامتد سَفر ملحونيات الروحي إلى لبنان مع فرقة طرابلس للإنشاد والفتلة المولوية إلى الحضرة التونسية مع الفنانين عبد الله الذواذي وسفيان سيالة وعلام عون، إلى المالوف مع الطروب عباس الريغي والفن الشعبي الجزائري مع مختلف رواده من عبد القادر شاعو إلى ريم حقيقي ومريم بن علال والقبايلي نسيم ثابث، إلى الفلامينكو الإسباني مع ماريبال راموس، إلى تجارب ملتقى سلام مع علي علوي من تولوز الفرنسية، إلى صعيد مصر مع شيخ المداحين ياسين التهامي، إلى أمريكا مع فرقة جامعة ميري أند ويليام البارعة في أداء قصائد الملحون المغربي بكل إتقان وتميز.
كما كان لتجارب المبدعين الشباب الذين حققوا ألمعية في الغناء والتوزيع الموسيقي في تعاملهم الحداثي مع تراث الملحون حضورا متميزا وبنكهة خاصة زاد المهرجان توهجا وتألقا. فاحتضن الفنانة كريمة الصقلي والرائع عصام كمال وأمير علي والفنان المتميز رضوان الأسمر بهوسه بقصائد الملحون و الفنانة بيان بلعياشي وعبير العابد ونبيلة معان. فكانت مشاركاتهم في حلم ملحونيات بداية لترسيخ قيم المهرجان وأهدافه وتصوراته.
ما كان لملحونيات أن تقطع كل تلك الأشواط بثبات دون خلفية ثقافية رصينة تقف سدا منيعا للدفاع والرد على ردود الأفعال المتعلقة بالإختيارات والمقاربات التي آمن بها المهرجان. فكانت الندوات العلمية المصاحبة لكل الدورات جزء لا يتجزأ من التصور العام بمقاربتها لمواضيع ترتبط بالقضايا الراهنية لفن الملحون وساهمت في إطلاق نقاش كبير من خلال طرح أسئلة جوهرية ومصيرية، كان أهمها سؤال الشرعية التاريخية والمسؤولية المؤسساتية الثقافية والعلمية وسؤال الهوية الأدبية لشعر الملحون وتموقعه كإبداع ضمن فسيفساء التاريخ الثقافي المغربي وكذا قضية صون هذا التراث المغربي الأصيل بكل تشكلاته وامتداداته، وتنزيهه من العبث والسرقة.
كما انخرط المهرجان بكل ثقله في الدينامية التي أطلقتها أكاديمية المملكة المغربية ووزارة الثقافة في 9 يناير 2018 لتقديم طلب تسجيل فن الملحون ضمن التراث اللامادي لدى منظمة اليونسكو التي صادفت الدورة الثامنة لملحونيات، حيث ساهمت مدينة آزمور وما راكمه المهرجان من زخم وتجارب وعطاءات طيلة تسع سنوات في إذكاء وترسيخ الأبعاد الإنسانية والمكامن الكونية لتراث الملحون المغربي وامكانيات اقتسامها ومشاركتها مع الآخر بعيدا عن كل اعتبارات عرقية أو دينية أو جغرافية.
*********
عرفت مدينة آزمور فن الملحون في زمن متقدم حيث اعتبرت مركزا من أهم المراكز التي ساهمت في إغناء تراث الملحون المغربي بمجموعة مهمة من الأشعار خلفها شعراء يعتبرون من أعمدة القول في الشعر الملحون كالشاعر أحمد بنرقية، ومحمد بن مسعود والمختار بلمطحن والمكي واجو، واسماعيل الشوفاني وادريس ولد لبصير… فكانت قصائدهم متميزة تعبر عن الحياة اليومية للإنسان الآزموري في تفاعله مع المجتمع و الطبيعة فكانت متنفسا لما يعْتريهم من شعور وما يخْتلج في صدورهم من مشاعر، فتحول الملحون من مجرد شعر وأدب إلى ثقافة تؤطر وتوجه وتجمع وتحمس كل فئات المجتمع .
إن عدم استقرار شعراء الملحون المتأخرون بالمدينة لأسباب متعددة، وكذا التحولات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للمجتمع الآزموري ساهم في خفوت إشعاعها وبريقها، فلا أعيان مولعين وهواة ولا فضاءات رحبة وواسعة ولا حرفيين متقنين بارعين بفضاءاتهم الجامعة، ولا ملاذ للهواة الراغبين في النهل من معين الفطاحل من الشعراء والمنشدين. ولا بديل لكل ذلك يشفي الغليل.
غير أن بريقا من الأمل لاح في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بمبادرات شخصية ومؤسساتية محلية؛ فجر الرغبة في استرجاع وَهَج تراث المدينة الذي توارى خلف زخم الحياة. فانبعثت قصائد الرواد وانطلقت الإحتفاليات على أيادي أبناء المدينة وبناتها في دفق وهاج من مشاعر إحياء موروث آزمور «الَحْضَرْ» واسترجاع لحظات الإبداع الخلاق لشعراء أفذاذ ومنشدين رواد ومولعين وهواة وهبوا الغالي والنفيس لديمومة سيل الملحون الجارف.
وفي ظرف وجيز تربع أطفال وشباب آزمور على عرش الإنشاد والتغني بتراث الأجداد في كل مبارزات الإنشاد بالمغرب؛ واصلين الماضي بالحاضر بارِّينَ بالشيوخ الفطاحل وقصائدهم التي لعلعت بذوي عذب من تافيلالت وأسمعت صداها في كل مراكز الملحون بالمغرب.
كانت تلك جزء من الضمانات التي فسحت المجال لتنظيم ملحونيات آزمور، وبعثت الطمأنينة على إمكانيات التفاعل الإيجابي مع حدث ذو أبعاد وطنية ودولية ومقاربة مختلفة عن المألوف.
غير أن ما حدث لم يكن متوقعا مع أول ليلة من ليالي صيف ملحونيات، الخميس 11 غشت 2011، وكأن المدينة خرجت عن بكرة أبيها بشبابها وشيبها، رجالها ونسائها وأخرجوا ما حَسُن من ملبسهم المُطَرَّز بِحِرَفية صناع المدينة العتيقة ليلجوا حضن ملحونيات بساحة التسامح المزدان بأكثر من ألفي كرسي والمجهز لتقاسم أريج تاريخ المدينة. لم تكن الإحتفالية الحقيقة ساعتها تنجز على فضاء منصة العرض، بل الإحتفالية الحقيقة وقَّعَ عليها التفاعل المبهر بين مكونات ليالي ملحونيات فنانين وجماهير شغوفة متلهفة لمعانقة تراث الأمة.
وطيلة تلك التِّسعِ سنوات تحولت آزمور إلى منارة وطنية ودولية يشع من خلالها عبق تراث الملحون وقبلة يحج إليها كل عاشق ولهان بحثا عن مشاركة أحلام مدينة تساهم بمهرجانها لِلَمْلَمة هوية الأمة، ويخطب فيها رواد التراث والفن وعشاق النغم والبوح من كل حذب وصوب داخل وخارج الوطن لما عُرف عن المدينة وملحونيات من حفظ للكرامة وحسن الإستقبال وكرم الضيافة.
حققت المدينة جزء مهما من شخصيتها الثقافية من خلال ملحونيات واسترجعت صيتها المجلجل داخل كل المحافل الثقافية ومراكز الملحون، وأحرز أطفالها قَصَبَ السَّبق سنويا في رهانات الإنشاد الوطنية بتافيلالت، وأُحدثت «دار الملحون» كأول مؤسسة علمية وفنية مختصة كبديل لمؤسسة «دَارَتْ» التي كانت ضامنة لاستمرارية وسريان فن الملحون في المجتمع، واختيرت المدينة من بين ثلاث مراكز بالمغرب لاحتضان الورشات الجهوية للمناقشة والمصادقة على تقديم طلب تسجيل تراث الملحون ضمن التراث اللامادي لدى منظمة اليونسكو.
لا ينازع أحد اليوم في أن مدينة آزمور أضحت عاصمة من عواصم الملحون بالمغرب وعنصرا فاعلا ومؤثرا في الفعل الثقافي التراثي بالمغرب سواء من خلال نهج مقاربة وتصور جريئين للتعامل مع تراث الملحون، أو من خلال طرح قضايا ذات راهنية تتعلق بصون تراث الأمة والحفاظ عليه من الضياع والتلاعب والسرقة. كما أن مسيرة المهرجان الدولي لفن الملحون «ملحونيات آزمور» تبرهن بما لا يدع مجالا للشك على قدرة الفعل الثقافي على تحويل مدينة صغيرة هادئة إلى منارة وطنية ودولية للإحتفاء بالتراث والتأثير في الفاعلين فيه.

آزمور في 09 يوليوز 2022
باحث في شعر الملحون


الكاتب : عبد الإله جنان

  

بتاريخ : 15/07/2022