«أسفي .. التاريخ والثقافة وقضايا التنمية»

مقومات الهوية المحلية وخصائص التنظيم الترابي

 

إضاءات جديدة حول تاريخ مدينة أسفي العريقة حملها كتاب اختارت له جمعية ذاكرة آسفي عنوان « أسفي .. التاريخ والحضارة وقضايا التنمية «..الكتاب قامت بتنسيق فقراته الباحثة والأكاديمية الأستاذة نفيسة الذهبي .. وهو إصدار ينضاف إلى لائحة الكتب التي اشتغلت على تاريخ مدينة أسفي، يتميز باستحضاره للأبعاد المجالية والتاريخية إلى جانب الموروث اللامادي الثقافي والفني بكل تجلياته الأنتروبولوجية التي تستشرف العمق الحضاري، و تسهم في إثراء الحصيلة المصدرية والرصيد الأثري لأسفي حاضرة المحيط كما سماها بن خلدون . فقد كانت أسفي، كما أوردت ذلك الأستاذة نفيسة الذهبي في تقديمها للكتاب، محطة استقبال أثناء رحلة حانون منذ منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، أي أن التفاعل الحضاري يمكن أن يقترن بالعهدين الفينيقي والقرطاجني قبل أن تنكشف مجاهل المحيط البعيدة وتغدو أسفي بوابة لاستقبال السفن الأوربية، ويصبح لها دورها الدبلوماسي عند استقبال القناصل، ودروها التجاري الذي أسهم في تلبية حاجتها وحاجة العاصمة مراكش التي عززت أسفي وظائفها الاقتصادية و السياسية .
ففي محيط أسفي تم اكتشاف إنسان إيغود الذي أكد حقيقة قيام حياة بشرية منذ العصر الحجري الوسيط. وبعيدا عن التقديرات الأركيولوجية، فإن المصادر التاريخية تصف لنا البيئة الامازيغية التي استقبلت الفاتحين الأولين من المسلمين، كما استقبلت الهجرات العربية الوافدة ، كما تشير إلى المؤثرات التي بلغت مجال أسفي بعد استقرار المجاهد العربي شاكر بن عبد الله الأزدي صاحب الرباط المعروف على وادي نفيس بحوز مراكش، ومدى تأثيره في توجيه القبائل والحواضر . ولعل رباط الشيخ أبي محمد صالح – تضيف الأستاذة نفيسة الذهبي – خير شاهد على التجاوب الروحي الكبير في المنطقة مما أهله لتكوين أكبر طائفة صوفية في العصر الوسيط، وبذلك تكون أسفي أول موئل لتنامي الدور الصوفي الوظيفي، وأحد المراكز الحضرية التي تفاعلت مع جل الطرق الصوفية التي غذت ثقافة الصلاح، وبلورت حركة صوفية ممتدة مع كل حلقات تاريخ المغرب .
أما عن التعايش، تؤكد منسقة الكتاب، فإن آسفي استقبلت عددا من الجاليات اليهودية، وانتصر مجتمعها للتساكن الحضري بين المسلمين واليهود. ومع ثراء مجالها البدوي ومقومات التبادل التجاري مع الأجانب، يمكن القول بسيادة التكامل، و هي مؤشرات يمكن أن نستدل بها على عنفوان الماضي، وعلى توجيه العناية إلى الاشتغال على المبشرات التي يمكن أن تخدم واقع المدينة، و العمل على تنميتها في الحاضر والمستقبل .
لقد أسهمت في هذا العمل الجاد مجموعة من الكفاءات المرتبطة بالموضوع علميا ووجدانيا رامت، بالإضافة إلى اعتماد أساليب البحث الجامعي والتوثيقي، تعزيز سعي جمعية ذاكرة آسفي في تجديد حلقات الكتابة حول أسفي، وقدمت حصيلة أغنت هذا الكتاب الذي يتضمن خمس عشرة مساهمة باللغة العربية توزعت على ثلاثة محاور.
يتضمن المحور الأول خصوصية المجال والتاريخ افتتحه الباحث الدكتور محمد الأسعد بمقدمة منهجية بغاية التوطين، ورسم معالم الشخصية الإقليمية لآسفي وعبدة في تحليل مستفيض لكل مقومات الهوية المحلية وخصائص التنظيم الترابي، وكل ما يبرز الطبيعة والخصوصية المجالية، يليه موضوع الباحث خالد سرتي الذي خص الفضاء البحري الأطلنتيكي للمغرب بمحاولة لقراءة شاملة لطبيعة المجال الجغرافي والنشاط الفلاحي ، قبل أن يقدم مدينة آسفي في حلتها البحرية كمحطة كتب لها الاستمرار في بناء هذا الفضاء ، أما الباحثة البيضاوية بلكامل فقد نقلتنا في جولة بحرية أيضا في مجال المدينة الشمالي حيث يقع رأس سولوييس أو رأس الشمس من خلال الأدبيات القديمة والدراسات المعاصرة التي تحيلنا على ما أورده المؤرخون والرحالة، وما ظل عالقا في الذهنيات المحلية حول قدسية بعض المزارات .
وينتهي بنا هذا المحور مع الباحث مصطفى حمزة إلى الحديث عن جانب من سيرة عيسى بن عمر العبدي القائد الوزير ، الذي شكل قوة سياسية أثرت في تدبير شؤون القبائل المجاورة للمدينة وخاصة قبيلة احمر ومحيطها الذي يتناوله هذا البحث من زوايا الصراع المحلي، وأنواع التمردات والصعوبات التي جعلته يقيم عددا من التحالفات مع القبائل المجاورة، ومنها قبيلة احمر .
أما المحور الثاني، فقد كان للثقافة الصوفية فيه نصيب خاص من خلال موضوعين، أولهما عرض الباحث مراد جدي الذي سعى للتعمق في طريقة الشيخ أبي محمد صالح الماجري عن طريق توسيع الرؤيا العاملة لطائفة الحجاج والماجريين، وامتدادات التصوف الماجري إلى بلاد المغارب خلال العصر الوسيط، لتكون تجربة التصوف الصالحي مثار تساؤل منهجي في إمكانيات إسهامها في البناء المذهبي و الفكري للتصوف المغاربي.وثانيهما للباحث أحمد الوارث الذي خاض في موضوع صوفي خاص بالزاوية الوزانية في أسفي، وتتبع مراحل تأسيسها منذ القرن الثامن عشر للميلاد، وكيف تصدر الوزانيون للتربية الصوفية، وأصبح لزاويتهم مقر في المدينة العتيقة، وآخر بالزاوية الواصلية، و لم يغفل عن تأثير الشرف ودار الضمانة وكيف اكتسب شيوخها شعبية واسعة في آسفي .
و في إطار الثقافة المادية والثرات الأثري للمدينة ، يعبر بنا قلم الباحث أبو القاسم الشبري نحو المآثر العمرانية التي رصعت معالم آسفي خلال الفترات التاريخية وكيف اندرس منها جزء من المعمار بما يكتنفه من أسرار الماضي الذي ما وصلنا منه هو موضوع حديثه عن الإكراهات الخاصة بالترميم والتثمين وخاصة قصر البحر الذي يحتاج إلى الإنقاذ ، لأن اندثاره يعني زوال معلمة برتغالية شاهدة على زمنها .
وضمن النسق الأثري المتلاشي، تعرفنا الباحثة نعيمة كدان على قصبة ابن حميدوش الواقعة جنوب آسفي في مجال مشرف على المحيط الاطلسي وعلى واد تانسيفت، وهي من بين القصبات الإسماعيلية التي شيدها السلطان في إطار سياسته العسكرية لحراسة الطرق واستغلالها لحراسة القبائل المحلية كما تدل على ذلك التحصينات والأسوار والتهيئة الداخلية .
ويأتي ضمن عنصر الثقافة الخزفية، موضوع الباحث التهامي الوزاني، حيث اعتمدت الأستاذة نفيسة الذهبي على أعماله التوثيقية وشهاداته الخاصة بتطور صناعة الفخار بآسفي، اختارت لها عنوان «فخاريات وخزفيات أسفي وناحيتها «، وقد نقلت من إشاراته الدقيقة، واستلهمت من حديثه عن مدرسة المعلم بوجمعة العملي، ودروها في بلورة هذه الصناعة وتجديد تقنياتها ما جعلها تختار لقرائنا عنوانا جامعا بين امتداد الأصالة وجماليات الزخرف.
وتأتي آخر مشاركة في هذا المحور كنوع من التحسيس بقيمة الموارد الثقافية لإقليم آسفي، فقد بذلت الباحثة فتيحة موفق والباحث فؤاد غفران جهودا جديرة بالعناية لرصد المؤهلات، وتثمين الرأسمال الترابي وتقدير أنواع المعيقات، وذلك في سرد منهجي تركيبي اعتمد مقاربة نسقية تمكن من تحقيق رؤية شاملة متكاملة، شملت التعريف بالمجال والتنمية والبعد الثقافي مع الدعوة إلى ضرورة إيجاد وسائل التأهيل التي ترقى بمواقع المدينة.
أما المحور الثالث فقد شكل عنصرا من مقومات التراث اللامادي، وما تحفل به الذاكرة الفنية من تنوع وتناغم مع كل التطورات التاريخية التي عرفتها المدينة. فقد كانت الهجرات متنوعة والأصول الفنية حاضنة لذاكرة مشتركة برز فيها كل لون من الألوان الموسيقية في شكل إثراء للعشق اللحني، وكل الأنماط المعروفة بدءا من موسيقى الزوايا التي ارتبطت أثناء إحياء المناسبات الدينية، وهو ما يقدمه عرض الباحث عبد القادر البوكيلي من خلال نموذج الزاوية الحمدوشية بآسفي .
ونقف مع الباحث منير البصكري الفيلالي، وهو من أهل الاختصاص، فقد كتب ووثق وعرف بالمبدعين، كما أورد نصوصا طافحة بعذوبة الذوق اللغوي في اللهجة المغربية الدراجة، ومكامن القوة التي جعلت لهذا الأدب مقاما رائدا في الخصوصية الفنية المغربية .
وبعد فن الملحون يقربنا الباحث حسن بحراوي الذي يولي ضمن أبحاثه الجامعية وإسهاماته الأدبية للفنون الشعبية قسطا من اهتماماته ومن بينها فن العيطة ، وخاصة العيطة الحصباوية التي قدمها لنا في عرض تاريخي وسياق علمي، مؤكدا على عناية رواد هذا الفن المرساوي بالحفاظ على أصالة هذه العيطة التي تجمع بين اللون العاطفي والصور الناقلة للأوضاع السياسية و الاجتماعية .
وضمن الألوان الفنية المتداولة في مدينة أسفي، يأتي ذكر طرب الآلة بقلم الباحث منير البصكري الفيلالي أيضا، فقد أضاف صفحات من عنايته الشديدة بالتأريخ الفني وجمع الروايات الشفوية التي جعلته يتتبع في خط توثيقي مؤثرات المهاجرين من الأندلس، ويعرف بالمجالس التي كانت تقام بين مهرة العازفين والهواة الذين أقبلوا على هذا النمط في محاكاة لباقي المدن المغربية.
ونأتي لآخر عرض في هذا المحور و هو عرض الباحث امحمد مضمون حول الفن الكناوي، ووصف ليلة الدردبة في أسفي، فقد تناول الباحث موضوعا خاصا باندماج فئة ما كان يعرف ضمن سياق تاريخي ب «العبيد « المغاربة، وكيفية امتهانهم لهذه الصناعة الفنية جاعلين منها مصدرا لعيشهم ولونا من ألوان الفرجة، وقد خص الباحث كناوة أسفي بما يليق بتاريخ الاستمرارية التي حققها النمط البامبراوي .
للتذكير كتاب « أسفي .. التاريخ والحضارة وقضايا التنمية « الذي قامت جمعية ذاكرة آسفي بتقديمه للقراء وعموم المهتمين في حفل ترأسته الأستاذة نفيسة الذهبي، قام بتقديمه العلامة المؤرخ والأديب الأستاذ عباس الجراري عضو أكاديمية المملكة، كما دبج تصديره الباحث المختص في جغرافية التنمية، الدكتور محمد الأسعد .


الكاتب : منير الشرقي

  

بتاريخ : 16/07/2022