قبل حوالي 63 سنة من الآن، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعا مهولا في معدل التضخم، سببه الإفراط في الانفاق الحكومي وأزمة النفط الدولية، ما أدى لأزمة عصفت بالمواطن الأمريكي وسوت بقدرته الشرائية الأرض في موجة من الغلاء لم يشهد مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية (زيادة في أسعار المنتجات بلغت 14%)… ليتعهد حينها «بول فولكر» رئيس الاحتياطي الأمريكي ب»رفع أسعار الفائدة (لحدود 20 %) ما بين 1980 – 1981 تجنبا للتضخم»، إلا أن هذه الحركة الذكية – الاقتصادية، لم ترق لبقية دول العالم التي بدأت عملاتها تنهار في مواجهة الدولار الأمريكي وقوته بعد زيادة قيمته السوقية بنسبة 47 %، ما أدى بها للمطالبة بالاجتماع بالمسؤولين الأمريكيين في مناسبتين نتجت عنهما اتفاقيات كل من «فندق بلازا 1985» و«اللوفر 1987» بغية كبح جماح الدولار الأمريكي أما العملات الأخرى، وتفادي انهيار عملاتها أمامه.
وبعد كل تلك السنوات، ها نحن اليوم نعيش نفس الظروف التي أدت لتطبيق تلك الاتفاقيتين، نقصد تحديدا «الحرب الروسية – الأوكرانية»، التي تبشر بعودة تلك المأساة الاقتصادية من جديد، لاسيما مع ارتفاع معدل أو نسبة التضخم لأرقام فلكية (في بعض الدول)، جاعلة من الفدرالي الأمريكي (كما اعتاد منذ زمن) يرفع أسعار الفائدة بوتيرة عنيفة (حتى السنة المقبلة).. وما زاد الطين بلة، عدم التدخل الحكومي في وتيرة الزيادة التي وصفها البعض ب»الجنونية»، معجلة بدخول العالم في «حرب العملات النقدية العكسية» بدلا من تلك التقليدية.
n إذن، ما المقصود ب»حرب العملات التقليدية» و»العكسية»؟
pp يقصد بهذا المصطلح في حالته التقليدية، تنافس الدول فيما بينها لإكتساب «ميزات إقتصادية» لصادراتها نحو الخارج من خلال تخفيض قيمة عملاتها، من قبيل ما ندد به وزير المالية البرازيلي «غ. مينتيغا» سنة 2010 وشنه لهجوم قوي ضد دول ك»سويسرا» و«اليابان»، متهما إياها ب»تعمد إضعاف عملاتهم المحلية لتقوية و زيادة و تحفيز إقتصاداتهم على حساب الأسواق والإقتصادات الناشئة، و هذا ليس إلا حرب عملات» كما وصفها.
في نفس السياق، تعتبر الحرب الأمريكية – الصينية الاقتصادية في عهد «دونالد ترامب»حرب عملات أيضا، ذلك بسبب رفض الصين زيادة قيمة «اليوان» الصيني لضمان أن «منتجاتها الأرخص» من حيث القيمة، ستكتسح العالم، وهو ما ساهم في الطفرة الاقتصادية لديهم، واتساع «فجوة العجز التجاري» بين البلدين، ما أوصلها لحربها الاقتصادية الشهيرة، وجعل الصين تحصل على تصنيف «المتلاعب بالعملة» من لدن الخزانة الأمريكية.
إذن، وعلى العموم، تلجأ الدول لتكتيك «حرب العملات» من أجل تعزيز اقتصاداتها، بيد أن انخفاض قيمة عملاتها سيساهم في رخص صادراتها مقارنة بالمنافسين (قيمة نفس السلع والخدمات) ولزيادة الطلب عليها، ويؤدي في نفس الوقت لانخفاض قيمة العملة وإلى ارتفاع وارداتها، مما يحفز الاستهلاك المحلي صوب السلع والخدمات، بشكل يخدم المنتجين المحليين ويرفع من النمو الاقتصادي للبلد المعني، وهذا هو الهدف الأخير من هذا التكتيك الاقتصادي.
أما بالنسبة لوجه العملة الثاني، نقصد «حرب العملات العكسية»، فإنها ترمي إلى تحويل عملة الدولة الرئيسية ل»عملة قوية» من خلال الرفع من قيمتها السوقية ولكي تتمكن من السيطرة على التضخم، كما فعلت الولايات المتحدة في مناسبات عدة، آخرها قبل 6 أشهر من الآن، حيث ارتفع الدولار بنسبة 7% مقارنة بالعملات الأخرى (من دجنبر 2021 إلى يونيو 2022).كمقارنة مع اليورو، فقد انتقل من 88 سنت/للدولار الواحد إلى 95 سنت/للدولار الواحد–»الين الياباني» كان في حدود 115ين/للدولار الواحد ثم بلغ 136 ين/للدولار الواحد –»اليوان الصيني» فقد كان في حدود 6.3 يوان/للدولار الواحد ثم بلغ 6.7 يوان/للدولار الواحد. لهذا، عادة ما لا تفصح الدول ذات الاقتصادات الكبرى أو «لا تصرح بعملها على رفع عملتها خوفا من محاسبة الدول الأخرى، ومخافة الاتهام ب»التلاعب في قيمة العملة» وتوضح أن عملتها هذه قوية بشكل غير مقصود».
ولهذا، وتفاديا لمحاسبة الدول الأخرى للولايات المتحدة بسبب رفعها لقيمة الدولار مجابهة منها للتضخم، اضطرت وزيرة الخزانة الأمريكية «جانيت يليين» لتقديم تصريح في (18 من ماي في ألمانيا) مفاده : «من الطبيعي أن يرتفع الدولار بالتزامن مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية.. إذ نعلم أن هذه المكاسب قد شكلت مصدر قلق لبعض الدول الأخرى.. ونحن ملتزمون بسعر الصرف الذي تحدده الأسواق الدولية»، كما صرح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بأن : «الهدف من رفع أسعار الفائدة كان لمحاربة التضخم و ليس لدعم الدولار»، تصريحات قوبلت بالترحيب كما الاستهزاء من لدن سيناتورات أمريكيين ومحللين اقتصاديين دوليين.
n قوة العملة ومكافحة التضخم، كيف يجتمعان؟
pp إن الجزء الأكبر من ارتفاع التضخم سواء لدى الولايات المتحدة أو الدول الأخرى، يعود سببه الرئيسي لعوامل خارجية أبرزها «التضخم المستورد»، وأخرى من قبيل :»ارتفاع أسعار الطعام والغاز والنفط بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية»، يليها «حملة الإغلاق الصيني الجديدة لاحتواء فيروس كورونا»، ثم «النقص العالمي في أشباه الموصلات الإلكترونية»، وأخيرا «الاضطرابات المتعددة في سلاسل الإمداد والشحن». أي أن شحن السلع المستوردة أصبح يضيف عليها قيمة مالية تزيد من ثمنها، ما يغذي الارتفاع المستمر في معدل التضخم ويجبر الحكومات على رفع قيمة العملة الخاصة بها لتقليل الواردات. ما نعنيه، أن «العملة الأقوى تعني واردات رخيصة نسبيا وسيطرة على معدل التضخم تساهم في تعزيز القدرة الشرائية الداخلية».
كمثال بسيط، لنقل إن الولايات المتحدة ستستورد من الاتحاد الأوروبي سلعة «السيارات» (بسعر الصرف لدجنبر 2021)، أي أن السيارة المستوردة بقيمة 1000 دولار من الاتحاد الأوروبي ستكلف الولايات المتحدة 1136 دولارا مثلا. وكمقارنة، لنقل إن سعر صرف العملتين هو بنسبة»1 :1» (بسعر الصرف ليونيو 2022)، أي أن سيارة بقيمة 1000 دولار ستستورد بنفس المبلغ. ما يعني أن قيمة الواردات ستقل وستهدد بتضخم محترم في الداخل، بحسب ما يستند إليه الاقتصاديون من نتيجة «معدل المرور» أو «التمرير» الذي يحدد قوة العملة (الدولار الأمريكي) وتأثيرها على معدل التضخم ككل.
ووفقا للدراسات التي أجريت إبان الزيادة في معدل التضخم، نجدها تذكر أن المعدل السابق كان «بسيطا»، غير أن الاقتصاديين يذكرون أن»معدل التمرير» سيزيد أثناء فترات التضخم العليا (كما الآن)، على غرار قول «نثان شيتس» كبير الاقتصاديين لدى العملاق الأمريكي «سيتي غروب» : «خلال عصر التضخم المتفشي يلعب معدل المرور أو التمرير دورا مهما، حيث أن له فائدة كبيرة تكمن في خفض مستويات التضخم، ولأن ارتفاعا بنسبة 10% في قيمة الدولار سيساهم في انخفاض لنسبة التضخم بحوالي 0.5%، وقد تبلغ 1 نقطة مئوية كاملة»، هذا التصريح فتح أعين الدول الأخرى وبنوكها المركزية تحديدا.
n وبالنسبة للدول الأخرى (خاصة الأوروبية منها)؟
pp سعت سويسرا، وتحديدا البنك السويسري ورئيسه «توماس غوردن»، إلى تقوية العملة السويسرية في وجه ارتفاع قيمة الدولار عالميا، مصرحا ب : «نرغب في أن تكون عملتنا أقوى أيضا..» وأضاف «.. لقد سمحنا للفرنك السويسري بالارتفاع، ما خفض حجم التضخم مقارنة بمنطقة اليورو والولايات المتحدة»، ومع رغبته في أن يصبح الفرنك السويسري أقوى، قام في 16 من يونيو المنصرم برفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ 15 سنة !، مبررا ذلك: «بكونها محاولة لمواجهة الضغوط التضخمية بسبب ارتفاع أسعار الوقود والغذاء في كل أنحاء العالم»…
أدت تحركات رئيس البنك السويسري لارتفاع الفرنك السويسري لأعلى مستوى له منذ 7 سنوات، ولتعقبها بعد بضع ساعات بريطانيا على نفس النهج، مدركة بأنها :»سنستمر في رفع أسعار الفائدة في بريطانيا في المستقبل». قبل كل هذه التحركات، قام محافظ البنك الكندي المركزي «تيف ماكليم» (بعد تحسره على انخفاض قيمة الدولار الكندي أمام الأمريكي) بعد تصريحه بشهر، برفع سعر الفائدة (من 1% الى 1.5%) ليزيد من قوة الدولار الكندي أمام نظيره الأمريكي.
أصبح المسؤولون في البنك المركزي الأوروبي غير قادرين على إخفاء تخوفهم من «غلبة قيمة الدولار الأمريكي على عملة الاتحاد الأوروبي»، و»مخاطر ضعف اليورو أمام الدولار»، حيث صرح محافظ بنك فرنسا وعضو البنك المركزي الأوروبي «فرونسوا فيليروي غالهو» في 16 من ماي 2022، بأن : «ضعف اليورو في أسواق العملات يهدد جهود البنك المركزي الأوروبي في السيطرة على التضخم».. ما يعنيه بكلامه، أن ضعف اليورو سيزيد من سعر السلع المستوردة المقومة أو المرتبطة بالدولار من قبيل النفط لتكون أكثر تكلفة، وسيغذي التضخم في منطقة اليورو ذي المستويات القياسية.
لهذا، سيعلن صناع السياسة في البنك المركزي الأوروبي، خلال اجتماع السياسة النقدية القادم (21 يوليوز)، بكل صراحة، عن نيتهم في «الرفع من سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة» لأول مرة منذ 10 سنوات، بغرض السيطرة على التضخم وتقوية قيمة اليورو أمام الدولار الأمريكي.
n هل لارتفاع قيمة العملة تأثير على صادرات أي دولة لأنها ستصبح أغلى في الأسواق الدولية؟ وما الذي يدفع أمريكا لرفع قيمة الدولار بالرغم من ضرر ذلك على كبار المصدرين؟
pp لنكون صريحين، سوف تصعد القيمة المالية للصادرات، لأن الرفع من قيمة العملة سيعمل لا محالة على الزيادة في أثمنة السلع المصدرة على الصعيد الدولي. لنأخذ الولايات المتحدة كمثال، حيث يعيش المصدرون الأمريكيون على توتر مستمر ومعاناة دائمة بسبب الزيادة في قيمة الدولار، كما الشركات المعتمدة في أرباحها على المبيعات الخارجية والضربات الموجعة لأرباحها النهائية، وذلك لسببين : أولا، لأن الدولار القوي سيقلل من أرباحهم الخارجية عند تحويلها للدولار، ثانيا، سيجعل من منتجاتهم في الأسواق الدولية أقل منافسة بسبب سعرها المبالغ فيه، ما سيؤدي إلى تراجع الطلب عليها.
تقول «جينا مارتن أدامز»، مديرة استراتيجية الأسهم في وحدة الأبحاث المتقدمة لدى «بلومبرغ أنتيليجنس»، إن : « حوالي 35% من الشركات الأمريكية، تتلقى جزءا كبيرا من إيراداتها المالية من الخارج، وبالتالي فإن الدولار القوي سيضر ماديا بالأسهم الخاصة بها..كما أن أكبر المتضررين سيكونون من الشركات التكنولوجية الأمريكية، لكونها تعمل من خلال «العمليات العالمية المعقدة» والتي تحقق منها أكثر من ثلث مبيعاتها خارج الولايات المتحدة، والانتفاض في وجه الدولار، من بينها «مايكروسوفت» و»بايوجين» (شركة للتكنولوجيا الحيوية) و»كوستكو» (عملاق مبيعات التجزئة)…».
تكمن الإجابة على السؤال الثاني، ببساطة، في أن للدولة مصلحة أكبر وأكثر أهمية من مصلحة المصدرين تكمن في «تعزيز القوة الشرائية للشعب على العموم» في ظل الارتفاع الواضح لتكاليف كل ما يمسهم، ناهيك عن «الاضطرابات في سلاسل الامداد وصعوبة تصدير المنتجات كلها»، ما يجبر الدول على التبرير ب :»عليكم بالصبر قليلا إلى أن تنفرج الأزمة أيها المصدرون !»، كما يبدو أن البنوك المركزية للاقتصادات الكبرى قد دخلت في حرب عكسية تنافسية في ما بينها. كل هذا وذاك، ستكون نتيجته تقلبات عنيفة في قيمة العملات المهيمنة، ووضعا لأعباء التضخم على أكتاف دول أخرى غير قادرة على اللعب مع الكبار.
n في الأخير .. ما موقف الاقتصادات الناشئة والنامية بما في ذلك الدول العربية من حرب العملات؟
pp للأسف الشديد، ستكون الاقتصادات الناشئة والنامية الحلقة الأكثر ضعفا وتضررا من حرب العملات بين الاقتصادات الكبرى، لسبب أولي يتمثل في «الديون السيادية بالعملات الأجنبية» على غرار الدولار واليورو وغيرها، ما سيوقعها في خطر ما يدعوه الاقتصاديون ب»عدم تطابق العملة».
كمثال، لنفترض أن شركة في دولة نامية – ناشئة أو صاعدة ما، اقترضت من أحد البنوك المركزية ما قيمته 1000 دولار مثلا، وستغيره مجبرة لسعر الصرف التابع لدولتها (لنقل 1 دولار لكل 10 دراهم مغربية)… مع وصول «موعد الاستحقاق»، سيكون على الشركة ومع ارتفاع قيمة الدولار، تسديد 15 ألف درهم بدلا من 10 آلاف درهم، أي أنها ستسدد مبلغا أكبر وسيعرضها هذا لخطر الإفلاس، كما أن نفس الأمر ينطبق على حكومات الأسواق النامية ذات الديون المتراكمة والمرتفعة المقومة بالدولار التي ستتعرض بدورها لمخاطر مالية جمة، حالها كحال حكومات الدول العربية التي سينطبق عليها ما ستعيشه الدول الأخرى.
(المصدر: قناة المخبر الاقتصادي)