الوقوف الطويل أمام الأبواب المغلقة
لإنجاح عملية الكاستينغ، يُشترط في المكلف بها أن تكون بحوزته مسبقا لائحة مهمة تشتمل على أكبر عدد ممكن
من الممثلين، سواء أكانوا مغاربة أم أجانب أم أفارقة، وفقا لما يفرضه العمل من بروفيلات/ ملامح، وكل المعلومات
التي يمكنها أن تسهل عملية الوصول إلى الممثل، كما يقوم بالإعلان عن أيام الكاستينغ، وعن الشروط اللازم توفرها
في المتنافسين على الدور المطلوب تأديته أمام الكاميرا، ناهيك عن ضرورة المعرفة الدقيقة والمفصلة بما يحتاجه العمل الفني تبعا للميزانية المخصصة له والحرص على الالتزام بها، ووفقه يتم اختيار الممثلين الأقرب لما يستشرفه المخرج..
يشكل الكاستينغ (اختيار الممثلين) حلقة محورية في صناعة الفيلم، وهو أساس نجاح أي عمل درامي. ذلك أنه إذا افتقد شرط الجدية والمهنية، سينساق العمل ككل نحو الفشل، «لهذا وجب على المخرج أن يكون حريصا على اختيار الممثلين على الوجه الذي يخدم المسار الدرامي للفيلم»، حسب ما أوضحه المخرج سعيد خلاف، مخرج فيلم «مسافة ميل بحذائي».
ويضيف خلاف أن «العمل الفني انعكاس مباشر لاسم المخرح، ولصورته ومساره الإبداعي؛ ووفقا لهذا، أحاول ما أمكنني ذلك أن أكون مهنيا وجديا ودقيقا في اختياري للشخصيات، حسب ما يتطلبه السيناريو، في ظل غياب الإمكانيات التي تخول تغيير الممثل في حالة عدم تمكنه من تشخيص دوره بطريقة مقنعة للمخرج ولكاتب السيناريو أتناء التصوير،الشيء الذي يضع المخرج في مأزق يلزمه بالتنازل عن رؤيته للشخصية، محاولا تعديلها أو تغييرها لإتمام عملية التصوير».
يتضح، إذن، أن وراء كل عمل فني ناجح، سواء أكان عملا مسرحيا أم تلفزيونيا أم سينمائيا، مدير كاستينغ Casting Director قادر على استيعاب ما ينشده المخرج، وترجمة تصوره للشخصيات، كل واحدة على حدة، على النحو يخدم رؤيته الإخراجية. وتأسيسا على ذلك، فإن مهمة الكاستينغ لا يمكن إسنادها كيفما اتفق لأي كان، كما لا يمكنها أن تتأسس على المحسوبية والزبونية، وإدارة العلاقات الخاصة بناء على الأهواء أو الصداقات أو تشغيل الأقارب. إنها مهمة من المفترض أن يسندها مسار من التكوين المعمق في أحد المعاهد أو الأكاديميات أو المؤسسات الفنية التي تتيح دراسة هذا التخصص، كما من المفترض أن تسندها الخبرة بالمجال، والمعرفة الدقيقة بـ»الوجوه الفنية»، أي الإلمام الدقيق بآليات «الاختيار» على النحو الذي يجعل العمل الفني قطعة واحدة تتميز بالانسجام والدقة والإخلاص للشخصية كما تم تقييدها في السيناريو على المستويين السلوكي والسيكولوجي.
وحسب الممثل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، علاء الدين الحواص، فإن «الكاستينغ كان في السابق يتم وفقا للنص الحكائي /السيناريو، وذلك راجع لعدة أسباب من بينها قلة الممثلين، الشيء الذي يلزم كاتب السيناريو في تخييله للشخصية بممثل معين، فيحاول ما أمكن أن يوائم صفاتها وطباعها مع هذا الأخير، فكما جرت العادة تمر عملية اختيار الممثلين في شركة إنتاج معروفة، والمخرج هو من يتولى القيام بها. ومع التحولات والتطورات التي عرفها مجال صناعة الأفلام والمسلسلات في العالم، فمن البديهي أن يزداد الاهتمام بهذا المجال في المغرب أيضا، ليتضاعف بذلك عدد شركات الإنتاج والمخرجين، ويتزايد معه عددالممثلين. ولهذا، بات من الضروري البحث عن طريقة لتيسير اختيار الممثلين، في ظل التنافس الشديد الذي أمسى يعيشه القطاع». وتابع الحواص أنه في ظل وفرة الوجوه الفنية: «برزت مهمة مدير الكاستينغ، الذي يُشترط، لإنجاح مهمته، أن تكون بحوزته مسبقا لائحة مهمة تشتمل على أكبر عدد ممكن من الممثلين، سواء أكانوا مغاربة أم أجانب أم أفارقة، وفقا لما يفرضه العمل من بروفيلات/ ملامح، وكل المعلومات التي يمكنها أن تسهل عملية الوصول إلى الممثل، كما يقوم بالإعلان عن أيام الكاستينغ، وعن الشروط اللازم توفرها في المتنافسين على الدور المطلوب تأديته أمام الكاميرا، ناهيك عن ضرورة المعرفة الدقيقة والمفصلة بما يحتاجه العمل الفني تبعا للميزانية المخصصة له والحرص على الالتزام بها، ووفقه يتم اختيار الممثلين الأقرب لما يستشرفه المخرج». وفي هذا الصدد يقول كين دانسايجر، في كتابه «فكرة الإخراج السينمائي»، «إن نصف عمل المخرج يتحقق عندما يختار أفضل الممثلين الملائمين لشخصيات الفيلم»، وذلك بناء على مظهر الممثل وما إذا كان تكوينه الجسماني يتلاءم مع رؤية المخرج للشخصية أم لا، بالإضافة إلى قدرته على التحكم في مستوى انفعالاته وحركاته وتعابير وجهه الشيء الذي يجعل من عملية تجسيده للمظاهر الفيزيولوجية والاجتماعية والنفسية للشخصية مقنعا نوعا ما».
من جهتها، توضح الممثلة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية كنزة فريدو، أن السينما تعيش، منذ انطلاقها، دينامية متطورة تبرز لنا مهنا جديدة باستمرار، تزداد قيمتها وفاعليتها في صناعة الفيلم يوما بعد يوم. ففي أواخر سبعينات القرن الـ 20، على سبيل المثال، لم تكن مهنة «السكريبت» (متابعة تفاصيل العملية الإخراجية، فضلا عن إعداد تقارير مفصلة تشمل الجانب الإداري والفني والتقني) معروفة في المغرب، وبالتالي لم تعط لها أي قيمة، وبالرغم من أنني زاولتها بناء عن تكوين أكاديمي، لكني سرعان ما أصابني الذهول حين تبدّت لي النظرة الدونية لهذه المهنة في المجال الفني، حيث يعتبرها الكل مهنة زائدة (سخارة) في بلاطو التصوير، فعزفت عن مزاولتها، أما اليوم فهي مهنة قائمة الذات، وتتوحد وباقي المهن الفنية الأخرى، كذلك الأمر بالنسبة لمهنة مدير الكاستينغ. فمن وجهة نظري، وإلى حدود الساعة، لم تحظى هذه المهنة بالمنزلة التي تستحقها حتى من طرف مزاوليها أنفسهم، وهذا أمر خطير للغاية، وله تبعاته التي تنعكس سلبا على الفنان المغربي، وعلى جودة المنتوج الفني المحلي ليذهب ضحيتها الجمهور المغربي، كونه المتضرر الأكبر».
وبخصوص غياب الجدية في الكاستينع، تقول الممثلة كنزة فريدو إن «من علامات ذلك أن تلك الوجوه التي بدأت تكتسح الشاشة الصغيرة سرعان ما تختفي دون أن يظهر لها أثر بعد ذلك، لتظل مجهولة الهوية الفنية، وذلك مقابل تهميش الفنانين الذين حفروا بجديتهم والتزامهم بقضايا الفن والمجتمع ذاكرة الفرجة المغربية. حيث يجري إقصاؤهم على نحو ممنهج، علما أنه مازال في جعبتهم الكثير ليقدموه للفن المغربي».
وتضيف الفنانة نفسها أن «الكاستينغ هو اختصاص مهم لا غنى عنه في كل الفنون البصرية الحية، فالمخرج يتعذر عليه القيام بكل المهام، ولابد أن يستند إلى خبرة وكفاءة مدير الكاستينغ في إيجاد الممثلين، من خلال اقتراحه لثلاثة ممثلين مثلا لدور معين، والمخرج في نهاية الأمر هو الذي يختار الممثل الذي يناسب تصوره الإخراجي ومزاجه الفني، لهذا لا يمكن أن نقول إن دور مدير الكاستينغ يمحو دور المخرج وفاعليته أبدا، بل هي أدوار متكاملة ومتوافقة تُبنى أساسا على الثقة المتبادلة بين الطرفين. لكن، وللأسف، مخرجون يمنحون صلاحية اختيار الممثلين بالكامل لمدير الكاستينغ، مكتفين بعملية الإخراج فقط، مما أفسح المجال أمام سماسرة الكاستينغ، إلى درجة أن الممثل المغربي اليوم أصبح مجبرا على تقاسم أجره مع بعض المتطفلين على هذه المهنة، خاصة Des rôles de figuration، الشيء الذي جعل كثيرا من الفنانين المغاربة يمتنعون عن الذهاب إلى الكاستينغ بسبب كل المزايدات والاستفزاز الذي غالبا ما يتعرضون له».
إلى ذلك، يشير الممثل ومدير الكاستينغ محمد الرداني، ورئيس شركة الإنتاج «REDANI PROD»، إلى أن الحديث عن مهمة مدير الكاستينغ هو حديث عن منظومة فنية مترابطة لا يمكن عزل أحد عناصرها عن الآخر، بحكم العلاقة السببية التي تحكمها، ولا يمكن بأي وجه من الأوجه أن نتغافل عن العطب الكبير الذي يعانيه قطاع صناعة الفنون البصرية بالمغرب، حيث أضحى الإسهاب في شرحه و توضيحه من المفضحات. وبالرجوع إلى مهمة مدير الكاستينغ التي تعتبر حلقة مهمة تجعله يتربع بجانب المنتج والمخرج على قمة هرم صناعة الفيلم؛ فهي مهمة تحول بندولها في الآونة الأخيرة من طابعه الوظيفي (اختيار الممثلين) كما سبق الذكر، إلى طابع نفعي/ ذاتي، يستغله معظم المسؤولين على الكاستينغ لإشباع نزواتهم الشخصية على حساب شباب حالمين بفرصة تعبد لهم الطريق للوصول إلى الشاشة، وتنتشلهم من ذلك الوقوف الطويل أمام الأبواب المسدودة، رغم ما تلقوه من تكوين في مجال الفن. عوض إلزامية الانبطاح أمام البعض ممن ينتحلون صفة مدير أو مساعد الكاستينغ، فالمركز السينمائي اليوم أصبح ملزما في ظل هذه العشوائية التي اكتسحت القطاع أن يكون أكثر صرامة في مراقبة وتتبع العاملين في هذا القطاع بدون بطاقة تثبت صفته المهنية».