من قال إنّها ناقصة؟: روايات غسّان الأخيرة (2/2)

خلوّ الحكايات من الأسماء أو عدم اكتراث الراوي لها يفترض ضمنًا إيجاد حيويّة أخرى تُبقي السرد حيًا. وبما أنّ الأسماء تفرض على السّرد سُلطةً خارجيّة، بات السّرد بحاجة إلى سُلطة داخليّة تصون التّوازن كيلا ينفرط عقد الحكاية فتتلاشى وتُنسى. كان الحل الوحيد أمام غسّان تنويع السّرد بين الوعي واللاوعي، بين المنطوق والمُضمَر. غير أنّ المغامرة كانت تتمثّل في التخلّي عن اختلاف بنط الطّباعة كما درجت العادة في روايات تيّار الوعي، وكما استخدمها غسّان نفسه مُضطرًا في ما تبقّى لكم، وكأنّه يومئ إلى أن الحكاية ستحافظ على پوليفونيّتها مع صون الصوت الواحد في آن: أن تصبح الأصوات المتعدّدة صدى لصوت أوحد ليس هو صوت الراوي أو الكاتب بالضّرورة مع أنّنا نستشعر حضور غسّان بقوّة، للمرة الأولى ربّما بهذا الوضوح. ليست سيرة ذاتيّة بقدر ما هي سيرة أفكار، سيرة تداعي الوعي واللاوعي داخل ذهن غسّان قُبيل الهزيمة وبعدها، مع ملاحظة تزايد دفقة التّجريب مع تقدّم السنوات ومع تجذّر الهزيمة.
كان التّجريب في أبسط حالاته في العاشق، ولكنّه شكَّل – برغم هذه البساطة الظاهريّة – نقلةً كبرى في روايات الستينيّات، إذ أزال غسّان الفواصل بين وعي الشخصيات وباتت الانتقالات بينهم أسرع وأعقد في آن. ما عاد هناك فاصل (أو فارق) بين السارد العليم وضمائر سُلطته كليّة القدرة، وبين أنا كلّ شخصيّة من الشخصيّات، بحيث بات علينا إبطاء قراءتنا كيلا نتوه في عالم الأصوات المتداخلة التي تحكي قصّة ذلك «العاشق»، وتُمثّل في الآن ذاته أصداءً لصوته الأوحد، مثل ألسنة لهب تُحرِق وتحترق بفعل جذوةٍ متّقدةٍ واحدة. ومع انتقال الكونشرتو من الحركة الأولى المتمحورة حول صولو الآلة المنفردة، صارت الحركة الثانية قائمةً على آلتين تتبادلان دوريهما في البوح، وتتداخلان ببراعة بحيث تمسيان صوتًا واحدًا في مشهد الدعاء الجميل الذي وحَّد صوتَيْ الأعمى والأطرش إلى أن باتا فرعين لغصن واحد يشتركان في الحكاية، أيًا يكن بوح أزهار كلٍّ منهما على حدة. استغلّ غسّان الظروف الخاصة لبطليه كي يُدخلنا إلى متاهة بديعة تتوه فيها الأصوات إلى حدّ تلاشي الحوارات. وكأنّ كلّ شخصيّة عالمٌ مستقلٌّ يُناجي ذاته ويحاور العالم المُتاخِم في آن. الحوارات عبثيّة في دنيا الأعمى والأطرش التي يدرك كلا بطليها بأنّها «غابةٌ كثيفةٌ من علامات الاستفهام». ما من ردود لأنّ الحوارات أسئلة كلّها؛ ما من حوار لأنّ الكلام استحال مناجاة مفردة لكلّ شخصيّة من الشخصيّات. وفي دنيا الأسئلة تلك، تحدث لحظة الانكشاف حين يدرك كلٌّ منهما أنّ حياته بأكملها كانت محض عمليّة تنفّس ميكانيكيّ؛ محض أوهام ومعارك تندلع وتنطفئ في الذهن من دون أن تخرج، أو يجسر أيٌّ منهما على إخراجها. وحين خرجت إثر لقاء البطلين اندلقتْ مثل قيح دمّل كان ينتظر لحظة النضج كي ينفجر: يدرك الأعمى أنّ حياته ليست إلا تكملةً لشقاء أمّه حيث انتقلَ عَرَق القهر من الجبين إلى الأصابع؛ ويدرك الأطرش أنّ العالم الصامت الغاطس في حوضٍ زجاجيّ تفجَّر أخيرًا بحيث تمكَّن من سماعه، لا بالأذنين بل بالقلب والوعي فكان الصوت مؤلمًا مُفجعًا.
بعد تشظّي عالم الأعمى والأطرش ما عاد ممكنًا لغسّان أن يكرّر لعبة توحيد الأصوات، إذ تحطَّم العالم القديم كلّه بأصواته كلّها ولم يعد هناك إلا أصداء منكسرة خائبة مثل بحرٍ تقلَّص إلى هواءٍ عفنٍ في صدفة. انقلب العالم في برقوق نيسان رأسًا على عقب بحيث بات المتن هامشًا والهامش متنًا. حُشرت الحياة بأسرها، ولادةً وعيشًا وموتًا، في الهامش حيث لا تستحقّ حياةُ أيّة شخصيّة من الشخصيّات، شهيدًا كان أم جنديًا أم مناضلًا، أكثر من هامشٍ موجز، فيما استحال المتن فوضى عبثيّة في تحقيقٍ عسكريٍّ عبثيّ يدور حول باقة زهر وصحن كنافة. تحقيقٍ غرق جميع أطرافه في حيرةٍ تامّةٍ لأنّ جوهر الحوار تلاشى واندثر. انتهت احتمالات اللعب بالسّرد، وإغواء الخلق بالكلمات، وبتنا في عالمٍ لا يمكن القبض على تفاصيله إلا بالمجاز، في غرفةٍ ضيّقةٍ تضمّ الجلّاد والضحيّة، المحقّق والمتَّهَمين، الحلم والذاكرة، الطفولة والشيخوخة، الطبيعة والجماد. ما من شيء حيّ في دنيا المجاز الضيّق تلك إلا حُمرة زهر البرقوق الذي تضاءلت أهميّته بذاته ليصبح مجازًا للدم، الدم فقط. وكأنّ الأرض كلّها، الطّبيعة كلّها، استحالت جسدًا واحدًا ينزف وينزف إلى أن تتلاشى حُمرته. باتت الأرض «جثّة مطرَّزة بالرصاص»، تبعًا للمجاز الذي لا يملّ غسّان من تكراره في أعماله. جثّة يجفّ دمها شيئًا فشيئًا ويمسي صدأً منفِّرًا. نكاد نشمّ رائحة يأس غسّان من بين ثقوب الدم أو الصدأ تلك، ولكنّه فضَّل دفن ذلك اليأس في الأدراج كيلا تنكسر صورة المناضل المعصوم من اليأس. هل كانت صورة توحُّد الجسد بالأرض حلمَ غسّان المُشتهى بحيث أدمنَ تكرارها؟ لا نعلم. ولكنْ نعلم بالمقابل أنّه حُرِمَ حتّى من ذلك الثّوب المُطرَّز، وتشظّى بين السماء والأرض، حيث لا هامش، ولا متن، ولا أصوات، ولا أصداء.


الكاتب : يزن الحاج

  

بتاريخ : 11/08/2022