قراءة في كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا… إلى المستقبل لعبد الحميد جماهري

سؤال القيم: البلاد التي تتنكر لمبادئها، تتنكر لمصالحها

ملاحظات أولية:
قبل الخوض في تفاصيل كتاب: ذهبنا إلى الصين، وعدنا من المستقبل لعبد الحميد جماهري، أود أن أسجل مجموعة من الملاحظات، وهي: – تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه يحمل منظورات متعددة، فهو: وثيقة تاريخية، ووثيقة انثروبولوجية، ونص سردي ينتمي إلى أدب الرحلة… حيث يرصد أنماط وجود الانسان الصيني في مختلف المجالات.
– إن مقروء الكاتب في الكتاب (أمين معلوف، ابن بطوطة، غودو، محمد البريني، جورج اورويل) ساهم في بناء خطاب متماسك حول قناعات الكاتب، وجعله خلفية فكرية وسياسية يتحرك بموجبها ليقدم درسا حضاريا اسمه «الصين».
– إن هذا العمل يعيد لنا الذاكرة التاريخية لما قام به ابن بطوطة في رحلته الى الصين وإخباره عنها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نعتبر أن الأستاذ جماهري ابن بطوطة الثاني، أو ابن بطوطة القرن الحادي والعشرين. – يحمل الكاتب هما يتعلق بواقع المغرب الآسن ومحاولته البحث عن أسباب التقدم متوسلا بالتجربة الصينية.
– يتميز هذا الكتاب بقدرته على الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن لحظة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر بانسيابية مثيرة، تشد القارئ، وتجعله منخرطا فيما انخرط فيه الكاتب، بلغة شاعرية تأخذك إلى عوالم الكاتب وقناعاته. – قدرة الكاتب على الربط بين الأفكار ووضع المقارنات بين المغرب والصين من أجل استخلاص الدروس، على اعتبار أن هذه الأخيرة تعد أفقا للتفكير. – يعيد هذا الكتاب نفس الإشكالية التي طرحها شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ لكن هذه المرة الغير يتمثل في الشرق وليس الغرب. كيف يمكننا الخروج من هذا البين-البين؟ لا نحن من الشرق ولا نحن من العرب! – هل قدرنا هو الانبهار والمشاهدة وتعداد مظاهر التقدم الخاص بالتجارب الإنسانية الأخرى، دون التركيز على ذواتنا؟
تقديم:
لا يمكن الحديث عن أي شيء لا يرتبط بمرجعية معينة، ولا يستند إلى اصل ما. هذا المبدأ سيكون هو الخيط الناظم لقراءتنا لكتاب الأستاذ عبد الحميد جماهري: «ذهبنا إلى الصين، وعدنا… من المستقبل». هذه القراءة ستكون مهملة ومنتقية(1) في التركيز على البعد التقني للإنسان الصيني، وممعنة ومجتهدة(2) في ابراز القيم التي انتجت هذا البعد أو هذا «العالم» التقني. والفرضية التي سأنطلق منها في قراءة هذا الكتاب تتعلق بإبراز طبيعة القيم التي هيمنت على رحلة الكتاب، والتي يجب أن تكون «بوصلة» في صناعة الممكن المغربي كممكن حضاري. فالصين لا تشكل فقط بلدا في بقعة جغرافية من الكوكب، بل هي حالة ذهنية(3)، حسب الكاتب، تتساوق فيها قيم متعددة. هذه القيم تعددية لكن ليس بالمعنى الذي تحدث عنه ماكس فيبر، إذ لا تشكل خطورة على المجتمع الذي تسوده(4). فهي ليست قيما صراعية أو تناقضية، بل هي قيم متجاورة، ومتساكنة، ومتضايفة، وانسيابية. وقد جاء الكتاب بقيم متعددة شكلت موضوع الرحلة وبكيفيات تصريفها في قواعد للسلوك والعمل والابداع. اذن كيف ساهمت التعددية القيمية في بلورة انسان صيني بمواصفات خارقة تؤسس لذهنية خاصة تجعل من الصين كوكبا مرتميا في المستقبل وفي نفس الوقت يحمل ماضيه معه؟
درس الصين في القيم:
لقد حاول الأستاذ جماهري في هذا الكتاب ان يقدم المنجز الحضاري الصيني، باعتباره ليس وليد الصدفة، وإنما هو مفعول لقيم ترسخت في العقل والوجدان الصيني. وتتمثل هذه القيم في «العمل والجدية والإخلاص للبلاد»(5). وهذه القيم ليست وليدة الحاضر، بل هي قادمة من التاريخ الحضاري العريق ومستمرة في المستقبل. هذه القيم تتساوق مع قيم أخرى لتشكل منظومة منسجمة تستجيب لحاجات الانسان الصيني، وتجمع بين ماضيه ومستقبله. إنها تعد مختبرا واسعا للتاريخ والمستقبل. وتمثلت في استحضار الهوية التاريخية كموجه للاختيارات السياسية والاستراتيجية، حيث عمل دينغ كيساو بينغ، حسب الكاتب، على إعادة الصين إلى هويتها التجارية، فكان له أن يتخذ قرارا بفتحها في وجه العالم بعد أن أغلقتها الماوية في وجهه(6).
إن مبدأ اتساق المبادئ مع المصالح في الذهنية الصينية يتجلى في القيم التي تشكل ثوابت منها: قيمة الصدق، الجدية، والانجاز(7). يقول المسؤول الصيني في حواره مع نظيره المغربي: «لدينا مصالحنا، ولكن لا نحققها على حساب مصالحكم، وفي ذلك نحرص على التوازن بين المبادئ والمصالح». ينتقد في هذا الخطاب الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية المتقلبة في مواقفها وفي سياساتها مع باقي الدول. ويؤكد على أن الصين تترجم هذه المبادئ من خلال القيم التي توجهها ويتم تصريفها على مستوى الواقع وتتجلى في أربعة مبادئ هي:
– الاستقلالية في القرار، – المساواة التامة بين الشعوب، – عدم التدخل في شؤون الغير، –
التنمية السلمية(8).
كل هذه المبادئ، تعتبر إطارا مرجعيا ونواة صلبة تغذي النظر والعمل، سواء داخليا أو خارجيا، وتحرك المشروع الصيني في العالم، لتجعله قوة منافسة للقوى العظمى، مع العلم أن الصينيين لم يقدموا دروسا ولا أرادوها، وألحوا أن لكل شعب خصائصه بالرغم من وجود عناصر مشتركة في تجاربها أو هياكلها. والغرض من التجربة الصينية الخصوصية حسب دينغ كيساو مينغ، هو إقامة نظام أكثر تطورا من النظام الرأسمالي من حيث مكاسبه وانعكاساته على الحياة الكريمة في البلاد(9). لكن ما يميز الأستاذ جماهري في هذا الكتاب هو كونه بناه على أساس المقارنة، في كل لحظة بين ما حدث ويحدث في الصين، وبين ماهو معطل عندنا (المغرب)، وكأنه يقدم درسا اسمه الصين. فالدرس الصيني يخترق الكتاب كله، إلى درجة أنه اعتبر أن :»من لم يكتئب بعد الصين، فهو لا يحب بلاده»(10).
إن هاجس المقارنة لدى الأستاذ جماهري صادر عن خلفية سياسية وفكرية وفنية، ومؤطر بمرجعيات، تجسدت من خلال كتاب «غرق الحضارات» لأمين معلوف، و»مذكرات» محمد البريني، وابن بطوطة قي «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، والتجربة السياسية والمسؤولية الحزبية، وجورج أورويل في رواية «1984»، و»أغاني» فيروز… كل هذا ولا ننسى قدرته على الربط بين الاحداث التاريخية سواء في المغرب أو في الصين قديما وحديثا.
يؤكد مبدأ اتساق المبادئ والمصالح في الذهنية الصينية على انتظام منظومة القيم في الجمع بين القوى اللينة المتمثلة في القوى الثقافية وسلطة النفوذ المعنوي، والقوى الصلبة التي تملك قوة المادة أو قوة القانون والإيديولوجيا(11). انها قيم مؤسساتية موجهة بخطاب أخلاقي يمنع مجتمع النزعة الفردية القاتلة، ويقوم على النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء والعمل على تجاوزها، دون السقوط في النفي الذاتي للآراء والمواقف المختلفة كما هو الحال عندنا. وهذا ما جعل الأستاذ جماهري مسكون بمساءلة الذات عبر مساءلة الآخر، من خلال طرحه السؤال التالي: ما الذي يوجد في العقل الصيني ولا يوجد في عقل المؤسسات المغربية؟

تعددية القيم في المجتمع الصيني:

إن العقل الصيني محكوم بمنظومة قيم متعددة، متعالقة فيما بينها تنبني على نوع من التماهي مع تمثل الانسان الصيني، مع رموزه وشخصياته المثولية، الكاتب والمثقف، والزعيم السياسي، والمصلح الاجتماعي… هذه القيم تخترق كل المجالات وتتلبس بلباسها ولا تشتغل إلا وفقها، بحيث تمنح القوة للعقل الصيني وتجعله يعيد النظر في كل ممارساته سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو العلمية، أو التقنية، أو الفنية…

– القيم السياسية:

ينطلق العقل السياسي الصيني من قناعة أساسية، تتمثل في إيمانه بأن هناك ثوابت أو مرجعيات غير قابلة للتفاوض أو المزايدة السياسية(12)، وتتجلى في: – طبيعة النظام السياسي وعقيدته،
– الوحدة الترابية، – -التناغم الأخلاقي/ السياسي بين السماء والطبيعة والعالم،
التفكير الاستراتيجي المتمثل في استغلال التاريخ وما يحمله من أفكار( الاستفادة من تركة الاستعمار والتدخل الاجنبي المتعاقب على الصين: بريطانيا، هولاندا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان…)، واستغلال كذلك الإمكانات الطبيعية والموارد البشرية، خصوصا في مرحلة ما بعد ماو تسي تونغ في 1978. – التخطيط السياسي على المدى البعيد، ومسايرة الإصلاح واستثمار العنصر البشري،
– تغيير طبيعة النظام السياسي، من الإمبراطوري إلى الجمهوري، وقد كان سون يات سين أول رئيس لجمهورية الصين(1912) وقد لقب ب «أب الامة» و»رائد الثورة الديمقراطية» كما ورد في كتاب الأستاذ جماهري(13). إن العقل السياسي الصيني في بلورته للقيم السياسية حسب الأستاذ جماهري ما يفتأ يعيد النظر في تجربته السياسية، فالحزب الشيوعي، مثلا، في مؤتمره السابع عشر أكد على اشتراكية ذات خصائص صينية، تنطلق من إصلاح ما تراكم منذ البداية ولعل أهمها الطريق المتعرج الذي سلكته الثورة، باعتماد الملكية العامة والحكم المطلق والتحكم الحديدي فيها. بما يعني ذلك من مقدمات إيديولوجية تعتبر الصراع الطبقي مركزيا واساسيا، والبلاد لا بد لها من اقتصاد أحادي ممركز والتوزيع لا بد من أن يكون مشاعيا موحدا ومطلقا. هذا الوضع السياسي لم يعد وضعا نهائيا، إذ سرعان ما تم إصلاحه للخروج من دائرة الانغلاق التي طبعت الممارسة السياسية الصينية لفترة اقتضت إعادة النظر في المركزية المطلقة، والسماح بعلاقات إنتاج جديدة تتيح ملكيات أخرى غير ملكيات الدولة، وتوزيع الثروة حسب العمل. وكان الغرض من هذه التجربة، ومن هذه الخصوصية الصينية، هو إقامة نظام أكثر تطورا من النظام الرأسمالي، من حيث مكاسبه وانعكاساته على الحياة الكريمة في الصين(14). فمواصفات النظام السياسي الذي يجب اعتماده حسب دينغ كيساو بينغ هو فعاليته ونتائجه في تحقيق الأهداف المسطرة، يقول:» ليس المهم أن يكون القط أبيض أو أسود، بل المهم هو أن يقبض على الفأر…»(15) بهذا المعنى، تحرص التجربة السياسية الصينية على مراكمة تجارب الإصلاح والتحديث والانفتاح على العالم الرأسمالي والاستفادة من العلم والتقنية والتعلم من الغرب قصد تطوير الذات.
كل هذه القيم السياسية تراهن على محاربة كل مظاهر الفساد داخل الممارسة الحزبية من خلال فرض أسلوب الرقابة، وفرض التصريح بالممتلكات الذي يغيب عندنا، وتحصين هذه التجربة فكريا وتنظيميا، عبر اعتماد عقوبات جزائية ضد كل من تلاعب بتاريخ الحزب، وتنفيذ القرارات بحذافيرها، والاعتماد الفعلي على التنظيمات لا على الولاءات. فالتحليل الصحيح للأوضاع، عبر الاعتراف بعيوب ونواقص التجربة الحزبية، يقوي المورد التاريخي للسلطة/الثورة، ويعمل على تطوير أسلوب الحكم. هذا التطور، يقتضي الإقرار بضرورة التكوين لتفادي كل أشكال النقص والتخلف والضعف لدى بعض الأطر والمسؤولين. لذلك وجب على أي مسؤول أو زعيم أن يخضع للتكوين، إذا أراد أن يترقى، وأن الجميع يخضع لنظام صارم، من خلاله يتلقون التكوين المتجدد في العلوم الاجتماعية وعلوم العالم الحديث(16).
إذن، النسق القيمي الصيني يعمل على دمج الفرد في المجتمع، وجعله يتعرف ويتقبل ويحافظ على التقاليد الاجتماعية المتمثلة في المسايرة والامتثالية والنظام والضبط الذاتي، والتقديس الواجب للعقل(17)، وليس للانا المتضخمة مثل الجثت المتعفنة، التي لا تتقن سوى لغة الانانية والانتهازية والسطو على حقوق الآخرين، كما يحدث عندنا، وكأننا امام عراء أخلاقي يطبق على قلوبنا وعقولنا(18)، وهذا لا يمكن تجاوزه والقضاء عليه إلا بتجذير النسق القيمي، والاشتغال على الذهنية المغربية والحفر في مستويات تكلسها، وهذا ما يصعقنا به الاستاذ جماهري في رحلته إلى الصين. لقد شكلت لديه افقا للتفكير، وممكنا حضاريا، إذا ما تم التعرف بشكل حقيقي على موجهاته القيمية، وليس على مفعولاته التقنية فقط.

– القيم الفكرية والعلمية/ التكنولوجية:

تمثل القيم نسقا مرجعيا ثلاثيا: بعضها يأخذ شكل نماذج متوخاة، وآفاقا للفعل، رغم كونها تبدو مثالية بعيدة المنال داخل الواقع كالمساواة، وبعضها يمثل مبادئ فعلية للسلوك لأجل تدبير الحياة الفعلية، كالنزاهة، والتسامح، والاستقامة، فيما يكون بعضها الآخر معايير عملية عامة للحكم على الممارسة أو التجديد، أو التغيير، من قبيل المصلحة والفعالية والنجاعة. وعلى هذا الأساس، فالقيم تحدد من خلالها أهداف ووسائل تحقيق هذه الأهداف، وتحدد على أساسها ماهو مرغوب فيه أو مفضل في موقف توجد فيه عدة بدائل، وتترتب في مستويات مختلفة داخل النظام القيمي حسب أولويتها وأهميتها بالنسبة للجماعات والأفراد(19). والنسق القيمي الصيني لا يمكن اختزاله في نموذج أحادي التوجه، بل نلاحظ أنه استفاد من التجارب العالمية، ومن تراثه، ومن حاجاته المجتمعية، ليجعل اختياراته القيمية مشروطة بإمكاناته. فقد مركز الفعل القيمي حول الشخص/الذات، من أجل أنسنة الانسان الصيني، وجعله أكثر إبداعية وتعبيرا عن الذات، وأكثر انفتاحا وتواصلا، ومشبعا بالقيم الجمالية(20). وقد أوضح الأستاذ جماهري هذه القيم، حينما لاحظ حرص الصينيين على تربية أطفالهم على حب المسرح، وألعاب السحر والكوريغرافيا… وانخراط اسرهم في المشاركة مع الأطفال لتنمية ذوقهم الجمالي ووعيهم الثقافي(21). كما يضيف كذلك اهتمامهم بالمتاحف وفنون الرسم والتشكيل، حيث تتم إقامة مسابقات للرسم خاصة للأطفال داخل كل مدينة. فالمجتمع الصيني ليس مجتمعا تقنيا فقط، بل هو مجتمع الثقافة والفنون، ويتجلى ذلك في استثماره في تطوير القراءة، والاحصاءات تبين بأن معدل القراءة السنوية في الصين يحدد في 8 كتب للفرد في سنة 2019، من بينها أكثر من 3 كتب إلكترونية. وقد ارتفع عدد القراء في الصين من 300 مليون في عام 2015 إلى 740 مليون في عام 2019، والمجالات التي تغطيها تنتمي إلى الأدب والخيال والرحلات. ولتشجيع فعل القراءة، أقيم «عيد القراءة» وخصصت جائزة للقراءة موجهة للقراء والطلبة والتلاميذ(22)… من أجل ترسيخ قيم الحياة وتوحيد الأشخاص والتجمعات في الحياة والعمل، والبحث عن المعنى والمحبة والحقيقة والجمال والعدالة والحرية والمساواة.
وإلى جانب الاهتمام بثقافة السؤال والجمال والفن، انخرطت الصين في النموذج التقني، القائم على المقاربة النسقية، ذات البعد التكنولوجي، المثقل بقيم المجتمع الصناعي، منها: الحياد والامتناع عن النقد والفعالية، والضبط والاقتصاد، والحفاظ على الثبات والاستقرار الاجتماعيين… وقد اعتمدت على نظام تعليمي صارم في طبيعة نظامه، وفي كيفيات الولوج إليه، كما عملت على تطوير الترسانة التكنولوجية، وإنتاج تقنيات باهرة، قصد توجيهها لكل المجالات بغية الاستفادة منها. هذا التوجه إلى الذكاء الاصطناعي، لم يكن عبثيا، بل كان المراد منه حل المشاكل المطروحة آنيا ومستقبلا، وتتمثل في تحقيق الأمن الغذائي، وتوفير السكن والتطبيب، إلى جانب حل مشاكل الشيخوخة، والجواب على متطلبات الجيل الجديد الذي لم يعد يرضى بالكثير من جوانب الحياة العامة ووظائفها(23). ومن مظاهر هذا التوجه التقني في الصين:
– بناء مدن خاصة بالبحث والتجريب البيو-اليكتروني، بحيث تعادل مساحة إحدى هذه المدن مساحة دولة سنغافورة.
– إنشاء السور الذهبي شبيه بسور الصين العظيم، وذلك من أجل مراقبة الانترنت، وحجب المواقع غير المرغوب فيها، يتعلق الأمر بحرب فيها الاقتصادي والسياسي والفكري والقيمي… – إنتاج الروبوتات( الانسان الالكتروني/الآلي)، إذ أصبح الحديث عن سوق الروبوتات، تحتل فيه الصين المرتبة الأولى عالميا، وهذه الرتبة تحافظ عليها منذ سبع سنوات متواصلة. – لم يعد الدفع أو الأداء بواسطة النقود او البطائق البنكية، بل بالوجه، وجهك حقيبة نقودك، وتقول لك الآلة: ابتسم لقد دفعت، واصبح الدفع كذلك بالنبرة الصوتية(الصوت)، التي يمكن ان تؤدي نفس الخدمات.
– لقد تم الانتقال إلى ما يمكن أن يسمى بالبيت الذكي، بيت المستقبل، به ثلاجة ذكية تفحص جودة الطعام وتتبضع لأهل البيت، إنها ثورة حقيقية عن مفهوم السوق وعن العلاقات الاقتصادية.(24) إن رهان الصين على الموارد البشرية والوسائل المادية والتكنولوجية جعلها قوة اقتصادية مهمة في العالم تنافس الاقتصاديات الكبرى، وخاصة في انتاج الوسائل التقنية. هذا الامر سيكون و لاشك حادا، وسيأخذ دوما حربا اقتصادية إعلامية وديبلوماسية وسبرنطيقية، وسيرافقه من الآن سباق نحو التسلح فوق الأرض وفي الفضاء.

– القيم الاقتصادية:

لقد أورد الأستاذ جماهري في هذا الكتاب، الطفرة الاقتصادية التي عرفها الاقتصاد الصيني، والمنجزات الغير مسبوقة، والأرقام المذهلة التي حققها. لكن هذا المنجز لم يأت من فراغ، بل نتيجة قيم اقتصادية محركة للعقل الاقتصادي الصيني، والذي كان هاجسها بناء مجتمع العيش الرغيد. هذا المبتغى لا يمكن بلوغه إلا من خلال مراحل محددة بمخططات اقتصادية دقيقة. وقد استفادت الصين من العولمة، منذ انطلاق الموجة الأولى في 1980، أي عولمة التجارة والمال، والموجة الثانية بانطلاق عولمة التقنية والخدماتية. وفي الموجة الثالثة، العولمة العلمية التي ستبيح للصين القدرة على الانتقال إلى مرحلة الابداع(25). الصين تعلن في مخططها عن شعارها بالقول: استيراد، تقليد، ثم ابتكار(26). وتعتبر نفسها أنها تجاوزت المرحلتين أو في طور تجاوزهما، لكنها اليوم تهيئ للابتكار. والقيم الموجهة للعقل الاقتصادي الصيني، تمثلت في الايمان بالعلم، وبقدرته على التغيير، حيث تم تسهيل التواجد الكبير للكفاءات والطاقات العلمية ذات المستوى العالي في تغيير بنية الاقتصاد، والتدرج في تحقيق الأهداف انطلاقا من المخططات الاقتصادية التي انطلقت من حل المشاكل الأولية، من بناء ومسكن ومأكل وتعليم وتطبيب… كأهداف استراتيجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحقيق الأمن الغذائي، لكي لا تبقى تابعة للقوى الخارجية، ومستقلة في اختياراتها وقراراتها الحيوية. فالصين لم تعد تراهن على الكم، بل أصبحت تركز على الكيف والجودة(27)، ومعالجة المشاكل الخاصة بالعدالة وتوزيع الثروات. هذه التجربة الاقتصادية في الصين لن يكتب لها النجاح، إلا إذا ارتبطت بعقل يجدد اختياراتها ومواردها، ويطورها عبر علم الاقتصاد السياسي، الذي ينفتح على قضايا البيئة، قصد حفظها وحفظ صحة المواطن. هذه الاستراتيجية تهيئ لمرحلة جديدة تتحقق فيها الأهداف المتعلقة بالتنمية، ويتم التوجه نحو التعددية السياسية(28). فالعقل الاقتصادي بقيمه المنفتحة، عمل على تحرير قوى الإنتاج، وسمح بعلاقات انتاج جديدة، تتيح ملكيات أخرى غير ملكيات الدولة، وقام بتوزيع الثروة حسب العمل. وهذا ما عبر عنه ب»اقتصاد السوق الاشتراكي»(29)، وفيما بعد بصياغة «الاشتراكية المستدامة»(30). وقد لاحظ الأستاذ جماهري أن التجربة الاشتراكية الصينية هي تراكم تجارب الإصلاح والتحديث بالمعنى الصيني، وبخصوصية قيمها الحضارية. وهذا ما جعل هذه التجربة غير قابلة للتصنيف من طرف التيارات المنغلقة والمناوئة لها: فغلاة الماركسية اللينينية، يعتبرون بأنها حادت عن النموذج الماركسي. أما الليبيراليون، فيرون أنها ما زالت تخضع للحزب الشيوعي الأحادي(31). هذا النقد والتشويه، يمارس من طرف من يشعرون بخطر الصين، كقوة مهددة لمصالح القوى الغربية، ولا يفهمون خصوصية التجربة الصينية التي تبقى مشروطة بحاجاتها وبقيمها الثقافية، ولا تحتاج لأن تستنسخ التجارب الأخرى وتعطل تنميتها، كما هو حاصل عندنا. يقول الأستاذ جماهري في هذا الصدد بلغة سحرية بليغة: « لم تقايض الصين وجهها العتيق بوجه حديث، بلا روح، بل حافظت على روحها، تغنيها أمام كل شعوب العالم، تلك الروح وجدناها في المتحف الهائل للعمران في وسط المدينة الذي يعيد كتابة تاريخ المدينة ويحلم بمستقبلها، ويقدم نماذج ومجسمات فاخرة لكل ما يتم إنجازه.»(32)

خاتمة:

يعتبر كتاب الأستاذ عبد الحميد جماهري حصيلة تجربة شخصية ترصد الواقع الصيني في جوانب متعددة، وفي نفس الوقت، مساءلة للواقع المغربي وكشف لأعطابه. فهو يقدم في ثناياه بعض القيم التي يمكن أن تكون محركات لتطوير المغرب الممكن. يقول في هذا البين-البين، بنوع من الأسى: « يستحيل أن يكون هناك شيء ما جميل، هنا، وألا يهطل علي اسم بلادي من كل نبض … هناك.»(33) لكن يبقى السؤال المطروح: هل قدرنا أن نبقى سجناء التجارب الأخرى عوض أن نمسك بزمام أمورنا، ونطرح الأسئلة الحقيقية التي يتم تجنبها عن قصد أو عن غير قصد من أجل الخروج من عنق الزجاجة؟ تلك رحلة أخرى نتمنى أن تكون في المغرب./

الهوامش

حمو النقاري، روح التفلسف، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، لبنان، 2017، ص 45-46
المرجع نفسه، ص 46
عبد الحميد جماهري، ذهبنا إلى الصين وعدنا… من المستقبل، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1، 2021، ص
Max Weber, Le savant et le politique, Paris,1963, p.10-13
عبد الحميد جماهري، ذهبنا إلى الصين وعدنا… من المستقبل، ص 5
المرجع نفسه، ص 14-15
المرجع نفسه، ص 33
المرجع نفسه، ص 184
المرجع نفسه، ص 195
(10) المرجع نفسه، ص 5
(11) المرجع نفسه، ص 195
(12) المرجع نفسه، ص 35
(13) المرجع نفسه، ص 120
(14) المرجع نفسه، ص 195
(15) المرجع نفسه، ص 120
(16) المرجع نفسه، ص 199
(17) المرجع نفسه، ص 200
(18) المرجع نفسه، ص 198
(19) Jean-Pierre Jobin, Les valeurs et l’école, consulte le 07/11/2016 in http :ll w.w.w. jobin.com/pdf 2003/9 les valeurs et l’école.pdf , p.1
(20) ايت حمو وعبد اللطيف الفاربي، القيم والمواقف، سلسلة علوم التربية، العدد 8، 1998، ص 69
(21) عبد الحميد جماهري، ص 73
(22) المرجع نفسه، ص 102
(23) المرجع نفسه، ص 117
(24) المرجع نفسه، ص 116
(25) المرجع نفسه، ص 202
(26) المرجع نفسه، ص 202
(27) المرجع نفسه، ص 202
(28) المرجع نفسه، ص 201
(29) المرجع نفسه، ص 194
(30) المرجع نفسه، ص 194
(31) المرجع نفسه، ص 194
(32) المرجع نفسه، ص 171
(33) المرجع نفسه، ص 35


الكاتب : ذ. حسن الحريري

  

بتاريخ : 12/08/2022