مجلس المنافسة أمام الاختبار

    عبد الحليم بنمبارك (*)

 

إذا كان مجلس المنافسة بالأمس يقبع في ركن تحت الظل، فإنه أصبح اليوم في الواجهة أمام الرأي العام الوطني الذي يتساءل عن مهامه ودوره في ظل هذه الظرفية العسيرة، على ضوء الاختصاصات المخولة له.
هذه الهيئة التي ارتقى بها دستور 2011 إلى مؤسسة دستورية، أنيطت بها، وفق أحكام الفصل 166 منه، صلاحيات واسعة وسلطة تقريرية في مجال تنظيم منافسة حرة مشروعة بضمان الشفافية في العلاقات الاقتصادية، خاصة من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.
الظرفية الاقتصادية الراهنة في حاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى مؤسسة فاعلة، يقظة، قادرة على تحقيق المصلحة الاقتصادية الوطنية وصيانة النظام العام الاقتصادي وحماية المستهلك. فأين المجلس من هذه الانتظارات؟ ومتى سيستفيد المستهلك والفاعل الاقتصادي من خدمات هذه المؤسسة إن لم تكن في ظروف متأزمة كهذه؟
تساؤلات عريضة يطرحها العديد من المواطنين والمهتمين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعين الذين ينتظرون من هذه المؤسسة الدستورية، كهيئة للرقابة والحكامة الجيدة، التدخل العاجل، لاسيما في ملف المحروقات، نظرا لارتباطه الوثيق بأسعار كافة المواد والبضائع والخدمات، وما يروج، بقوة، من احتمال وجود ممارسات غير مشروعة وجب الكشف عن حقيقتها.
فإضافة إلى العوامل الخارجية المرتبطة بارتفاع الأسعار وسياقاتها الدولية، فإن المنحى التصاعدي لأسعار المواد والمنتوجات، في بعض الحالات، هو نتيجة لاختلال ميكانيزمات السوق المحلية يتعين معالجتها من خلال تفعيل آليات الضبط القانوني للسوق. ولعل هذا الجانب ما يحتم بناء جسور تعاون تنظيمي واضح بين مكونات مجلس المنافسة وهيئة الباحثين/المراقبين التابعة لوزارة الداخلية، وفقا لمقتضيات قانون حرية الأسعار والمنافسة،من أجل كشف القرائن والقيام بالأبحاث المتعلقة بالممارسات المنافية للمنافسة. فالمسالك التنظيمية تبدو اليوم غائبة ومنعدمة.
يبدو مجلس المنافسة اليوم وكأنه بقاعة انتظار، عوض الحرص على توجيه نشاطه من أجل تتبع وضبط وضعية المنافسة في الأسواق على المستويين القطاعي والوطني ومراقبة وتحليل تصاعد حدة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة التي تتعارض مع مصالح المستهلكين وتمكينهم من الاستفادة من ثمار منافسة شريفة تساهم في خفض الأسعار وضمان الجودة.
في رده مؤخرا على سؤال حول دور مجلس المنافسة في أزمة المحروقات باعتباره الملف الأكثر حيوية وإثارة للتساؤلات والتجاذبات، أكد أحمد رحو رئيس هذا المجلس أنه سيعيد فتح هذا الملف بمجرد التصويت والمصادقة على التعديلات المزمع إدخالها على القانون المنظم لمجلس المنافسة وقانون حرية الأسعار والمنافسة، في إطار قانوني يسمح بمعالجته في ظروف جيدة، مضيفا أن المجلس سيصدر، في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، تقريرا مفصلا حول ارتفاع الأسعار يتضمن توجيهات ومقترحات للحكومة والفاعلين، مشددا على أنه «في حالة وجود تجاوزات سيقوم المجلس باتخاذ إجراءات صارمة».
وعود أحمد رحو هاته يقابلها دراسات ومقترحات وتوصيات سابقة. ما ينتظره المواطن والفاعلون المعنيون اليوم هو الفعل بالتدخل العاجل وتحقيق النتائج الملموسة، والاطمئنان بالتالي على وضعية المنافسة ببلادنا.
بهذا الخصوص، يطرح العديد من المتتبعين التساؤل عن عدم تفعيل، كإجراء استثنائي، مقتضيات المادة 4 من قانون حرية الأسعار والمنافسة والتي تخول: «للإدارة، بعد استشارة مجلس المنافسة، اتخاذ تدابير مؤقتة ضد ارتفاع أو انخفاض فاحش في الأسعار تعلله ظروف استثنائية أو كارثة عامة أو وضعية غير عادية بشكل واضح في السوق بقطاع معين»، على ألا «تتجاوز مدة تطبيق هذا التدبير الاستثنائي ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة من قبل الإدارة». وهذا الأمر ينطبق تماما على الوضعية الراهنة التي تعرف ارتفاعا قياسيا وغير مسبوق للأسعار لاسيما بقطاع المحروقات.
ومن خلال تتبع أنشطة مجلس المنافسة، خلال الثلاث سنوات الأخيرة، والمتميزة بارتفاع مستوى الأسعار وتقلبات على مستوى التموين، يلاحظ انشغال المجلس بمراقبة التركيزات الاقتصادية التي أخذت ما يفوق 70% من إجمالي القرارات الصادرة عنه بمختلف أشكالها، وهي قرارات معظمها يتعلق بالترخيص لمشروع تركيز اقتصادي، في حين يبقى دوره جد محدود في ما يتعلق بالممارسات المنافية لقواعد المنافسة الحرة والنزيهة، كمحاربة الاتفاقات غير المشروعة ومنع الاستغلال التعسفي لوضع مهيمن أو حالة تبعية اقتصادية، والتي تهم قطاعات لها تأثير مباشر على القدرة الشرائية للمواطنين وتنافسية المقاولات. هذا إضافة إلى أن المجلس كان يعالج خلال سنة 2020 طلبات للرأي تعود لسنة 2013، كملف وضعية المنافسة في الأدوية بالمغرب ووضعية المنافسة في سوق الأداء عن بعد بواسطة البطائق البنكية.
ارتباكات مجلس المنافسة لم تنته. فقد سبق للرئيس السابق لمجلس المنافسة ادريس الكراوي أن وجه مذكرتين (يوليوز 2020) إلى جلالة الملك، حول «التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب»، خلفتا تجاذبات وتناقض المواقف وتنازع بين أعضاء المجلس حول ما أثير من اختلالات ومخالفات على مستوى مسطرة معالجة الملف وتدهور ملحوظ في مناخ المداولات، كان من نتائجها إعفاء الرئيس السابق من مهامه دون بقية أعضاء المجلس وتعيين أحمد رحو خلفا له، والدعوة، منذ مارس 2021، لإدخال تعديلات على أحكام القانون المنظم لمجلس المنافسة وقانون حرية الأسعار والمنافسة لتعزيز حياد وقدرات هذه المؤسسة الدستورية.
منذ ذلك الحين، لايزال الرأي العام ينتظر هذه التعديلات، وكأن الموضوع ثانوي لا يستدعي الاستعجال في تنزيله. وقد اعتبر العديد من المراقبين أن هذا التوجه يعد تقصيرا من جانب الحكومة التي لم تراع الظرفية الحرجة الحالية الناتجة عن تأخرها في إعداد التعديلات وعرضها على البرلمان الذي تقع عليه مسؤولية إيلاء الأهمية القصوى لهذا الموضوع، بالتعجيل بدراسته والمصادقة عليه.
إننا بذلك، سنعمل على إخراج مجلس المنافسة من وضعية المنزلة بين المنزلتين المريحة، بعد إزالة كافة المعوقات القانونية والتنظيمية المعطلة لمهامه. وهذا ما يتطلع إليه الجميع.
تجدر الإشارة بهذا الصدد، إلى أن مجلس المنافسة قد أصدر مؤخرا قرارا يقضي بفرض عقوبة مالية(3 ملايين درهم) على هيئة الخبراء المحاسبين بسبب لجوئها الى ممارسات منافية للمنافسة.
وهنا يثار أكثر من سؤال حول المسطرة والحيثيات القانونية التي اعتمدت لإصدار قرار من هذا القبيل، على أهميته، في ظل حديث رئيس المجلس عن أنه لايزال ينتظر إلى اليوم، تعديل وإصدار قانون مجلس المنافسة وقانون حرية الأسعار والمنافسة، لكي يتمكن من مباشرة مهامه في ظروف قانونية وتنظيمية مواتية، وإعادة فتح ملفات، منها ملف المحروقات ومشروعية هوامش الربح. فكيف تم ذلك؟
في انتظار اتضاح الرؤية بهذا الخصوص، أشير من جانب آخر إلى أن محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة تبقى مسؤولية مشتركة، وفي حدود تدخلات واهتمام وتفاعل كل جهة. وهنا يطرح التساؤل حول طلبات الرأي المحالة على مجلس المنافسة، خاصة في هذه الظرفية، بشأن المسائل المتعلقة بالمنافسة وانتظارات الرأي العام حول كيفية تعامل المجلس معها. والمقصود هنا، طلبات الرأي التي تكون قد أحيلت على المجلس من طرف الحكومة واللجن الدائمة للبرلمان وكذا من مجالس الجماعات الترابية أو الغرف المهنية أو المنظمات النقابية والمهنية أو هيئات التقنين القطاعية أو جمعيات المستهلكين المعترف لها بصفة المنفعة العامة…أين نحن من هذه الإحالات وتفاعل هذه الهيئات؟ إن مراقبة السوق وضبط آلياته تقتضي، تحقيقا للصالح العام، تعاونا ويقظة من قبل كافة الفاعلين.
بين الأمس واليوم (2000 – 2022) محطات عديدة مر بها مجلس المنافسة لم يتمكن خلالها من فرض وجود فعلي حقيقي كمؤسسة للحكامة قادرة على أن تلعب الدور المنوط بها حسب مقتضيات ومرامي التأسيس. تعرض لعثرات عديدة، ظل يراوح مكانه بين التعيينات والقوانين المنظمة لنشاطه وإصدار الدراسات والتوصيات ودراسة بعض طلبات الرأي والإحالات وغيرها، إلى أن تم تحرير أسعار المحروقات، بدون ضوابط سنة 2015، في عهد حكومة بنكيران، وما تلاها مع بداية السنة الجارية من ارتفاع قياسي لأسعار المحروقات، حيث أصبح الجميع يبحث عن مجلس المنافسة وما يمكن أن يقدمه من مصلحة عامة للمواطنين وحمايتهم من جشع شركات توزيع المحروقات، التي انفردت بالسوق، وما يثار كذلك من نقاش بشأن شركة «لاسامير» ودورها في هذه الظرفية.
يبدو أن مجلس المنافسة يسعى اليوم إلى تقويم الاختلالات المسجلة في أدائه، من خلال تنزيل مخططات ومشاريع برامج عمله لمراقبة وتقنين أفضل للسوق وتطوير أنشطة هيئاته التداولية، إعداد الدراسات القطاعية حول المنافسة، إرساء منظومة خاصة بالمستهلك وغيرها، وكذا إحداث أجهزة تدبيرية مواكبة كمرصد اليقظة القانونية والاقتصادية والتنافسية.
ومع ذلك، فلايزال مجلس المنافسة مطالبا بالرفع من إيقاع ووتيرة نشاطه لتجاوز فترة الحرج التي يمر منها، وفرض وجوده كفاعل أساسي في المراقبة واليقظة القانونية والاقتصادية والتنافسية. فكل تأخير أو تردد في تحمل مسؤولياته ولعب أدواره، تحرم المغاربة من مؤسسة فاعلة، أيقنوا اليوم بأهميتها لحماية مصالحهم الاقتصادية، وفق المقتضيات الدستورية.

(*)إطار مختص
في شؤون ضبط ومراقبة السوق

الكاتب :     عبد الحليم بنمبارك (*) - بتاريخ : 20/08/2022