الدبلوماسية المغربية عبر التاريخ -13- … 3 – التدبير البرا زيلي لمسألة ازدواجية الجنسية في المغرب

  • يجمع المؤرخون المغاربة والأجانب على أن المغرب بلد يضرب في عمق التاريخ بجذور تمتد إلى ما قبل العهود الرومانية والفينيقية والبيزنطية، وفي هذا دليل على أن الرافد الأمازيغي في المغرب شكل منطلق هذا التاريخ وأسس حضارة الشعب المغربي. وعلى العموم استطاع المغرب أن يرسخ مكونات الدولة المغربية من العهد الإدريسي إلى العهد العلوي مرورا عبر مختلف الأسر التي حكمت المغرب. ومن مميزات الدولة المغربية على امتداد العصور أنها حرصت على ربط الجسور مع دول البحر المتوسط وإفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي والإسلامي ودول عبر المحيط الأطلسي. وهذا ما تسنى لها أن تقيم علاقات دبلوماسية وطيدة مكنتها أن تتبوأ مكانة دولية عززتها بما راكمته من إنجازات تمثلت في تنظيم سفارات وبعثات إلى كثير من الدول، وكذلك من تمكين هذه الأخيرة من فتح قنصليات لها على التراب الوطني.
    وهي إنجازات تعود أكثر إلى القرن الثامن عشر، حيث استطاع من خلالها المغرب أن يكسب مقومات النهضة وبناء جسور الحداثة.
    إن هذه المحطات البارزة في تاريخ المغرب المجيد جديرة بالاهتمام بها والعودة إليها من منظور جديد حتى يستطيع القارئ المهتم اليوم أن يقيس مدى حضارة بلاده وعمق تجذرها في الفضاء الجهوي الذي تنتمي إليه. وفي هذا الإطار ارتأينا أن نقدم جانبا من إصداراتنا التي انكبت على هذا الموضوع، تضيء بالخصوص العلاقات التي نسجها المغرب مع دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. يتعلق الأمر في هذا المقال بتقديم كتاب (العلاقات المغربية النمساوية – الهنغارية: تاريخ وذاكرة المشتركة)، والذي نشره مجلس الجالية المغربية بالخارج سنة 2020، والذي نتمنى أن يجد فيه القارئ المهتم مادة دسمة حول عراقة هذه الدبلوماسية وما اتسمت علاقات المغرب الخارجية من زخم على أكثر من مستوى.

 

بالرغم من الاستعداد الطيب لدى الحكومة البرازيلية، فقد استمر النزاع حول المفاهيم قائما وهو نزاع يتعلق بالمذهب المغربي القائل بعدم نفاد الجنسية المغربية. وكانت الحكومة المغربية ترى أن المغربي الذي تجنس بجنسية أخرى لا يفقد صفته المغربية. وأما الحكومة البرازيلية فإنها كانت على رأي مخالف. إذ تعتبر أن كل مغربي يختار الجنسية البرازيلية يصبح برازيليا وبالتالي لا تنطبق عليه القوانين المغربية. وحول هذا النزاع تتحدث مذكرة لوزارة الخارجية البرازيلية موجهة إلى قنصلها في طنجة بتاريخ 11/6/1878.
هذه المذكرة بتوقيع الوزير بارون فيلا بيلا (عين في 7/2/1878) وهي تقول ما يلي:
” درست الحكومة الإمبراطورية بحرص هذه المسألة الخطيرة وهي تبلغ سيادتكم أنه لا يمكن حرمان المغاربة المتجنسين في البرازيل من الحقوق التي يضمنها لهم التجنس، ولهذا فهي ملزمة بأن تمنحهم هناك، وفي أي مكان آخر الحماية التي يطلبونها، وعليكم بالتالي أن تعملوا على أن تشملهم الحماية التي منحت لهم، وأن تبلغوا الممثلين الأجانب وكذا حكومة البلاد نفسها، بالشكل الملائم، تصريحا بهذا الشأن بوصفكم ممثلا للبرازيل، طبقا لما أبرم في المحادثات المشار إليها. ويمكن لسيادتكم أن تضيفوا – إذا دعت الضرورة- أن الحكومة الإمبراطورية ستعمل على الحصول على قرار تشريعي يحول دون تجاوز في التجنيس، وذلك بأن تصرحوا بأنه قد يقع التخلي عنها حينما يعود المتجنس إلى بلده الأصلي أو يستقر فيه مدة ما ”. ومعنى هذا أن الحكومة البرازيلية إدراكا منها بخطورة المسألة، كانت تقر بأن هناك تجاوزات، بل إنها أسرت إلى ممثلها في طنجة بأنها تطرح ”مسألة التخلي عن الحماية” حينما يعود المتجنس إلى المغرب أو يستقر فيه مدة من الزمان ”.
غير أنه فيما بين الاعتبارات القانونية ( الحماية الواجبة في حق المتجنسين) والصدام مع المفاهيم المغربية بخصوص هذه المسألة، فإن الرؤية البرازيلية كانت تتجاوب مع عمق النزاع، وطرح في وقت من الأوقات السعي للحصول على تدبير يحول دون التجاوزات، وهذه نية كانت طيبة من الجانب المغربي الذي طالما اشتكى على الخصوص من كون بعض المتجنسين أو المحميين – الإبهام ظل قائما – إنما يرغبون في التهرب من تشريعات بلدهم الأصلي.
ونجد سنة بعد ذلك، في مذكرة بتاريخ 4/7/1879 تحمل توقيع الوزير أنطونيو موريرا دي باروص( عين في 4/6/1879) أن الموضوع يعود إلى السطح وذلك على ضوء النقاش الذي جرى في جلسة 5 أبريل من ذلك العام فيما بين القناصل ووزير الخاجية المغربي. وقد ورد تلخيص ذلك النقاش على الشكل التالي في مذكرة الوزير البرازيلي:
” لقد اتفق ممثلو بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا مع الحكومة المغربية، واختلف معها كل من البرازيل والبرتغال، بينما بقيت إيطاليا بلا قرار، وأبقت كل من الولايات المتحدة وفرنسا، تمسكا بتشريعاتهما، الباب مفتوحا أمام تسوية. وبالتالي فليس هناك اتفاق فيما بين الدول الممثلة…” وهذا النص يوضح التراجع الحاصل فيما يخص الوعد الذي قدمه منذ سنة قبل ذلك سلف السيد أ.م. دي باروص. وفي ذلك الوقت كان عدد المغاربة المتجنسين برازيليا لا يزيد عن خمسة( ستة حسب ما لاحظ الوزير الإيطالي في جلسة 16/4/1879) لكن التدبير التشريعي البرازيلي المنتظر لم يصدر بعد . وبناء على كل ما سبق نستطيع أن نستخلص أن النشاط الكثيف للبرازيل في مجال منح الحمايات، ربما كان نتيجة عمل مباشر من لدن ممثلها في طنجة، أكثر من كونه سياسة مضبوطة من لدن الحكومة.
إن صفة البرازيل كبلد يتقبل المهاجرين،قد يشرح الانفتاح السخي للبلد، غير أننا نلاحظ أنه كان هناك تمسك قانوني في معالجة البرازيل للنزاعات المختلفة الناشئة عن سياسة الحمايات، لكن الأكثر وضوحا من ذلك كان هو الحرص على البناء بعيدا عن أوضاع معقدة .

هجرة المغاربة اليهود
إلى البرازيل خلال القرن التاسع عشر

لقد كان لمقالات روبير ريكار فضل السبق في فتح طريق مجهول يتعلق بالوجود المغربي على وجه التحديد بأمريكا اللاتينية . حيث انشد الكاتب أكثر إلى التأريخ لذاكرة الهجرة اليهودية إلى دول أمريكا الجنوبية خلال القرن التاسع عشر، واعتمد في ذلك على ما كتبه إسحاق بنشيمول حول ” وضعية اللغة الإسبانية في المغرب ” والذي حاول صاحبه من خلاله تقديم صورة دقيقة للمشروع التعليمي للرابطة الإسرائيلية ( اليهودية) ورهان الانفتاح على عهد جديد لهذه الطائفة. كما رصد هجرة اليهود الداخلية ( من شفشاون إلى تطوان)، أما الهجرة الخارجية، ويعني بها هجرة اليهود التطوانيين إلى جبل طارق ووهران، فقد كانوا يعتلون المراكب الشراعية البسيطة وينتظرون هبوب رياح مواتية للإبحار. وكانت الحرب المغربية الإسبانية ما بين 1859 و 1860 و كذا الاحتلال الإسباني لتطوان على مدى سنتين، من بين العوامل القوية التي دفعت في اتجاه الهجرة.
وبسبب الأحوال الآخذة في الركود بالجزائر في تلك الفترة، بعد مرور السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي، بدأ المهاجرون في التوجه نحو البرازيل. و قد كانوا قلة آنذاك، إذ كان على المرء أن يتحلى بقدر كبير من الشجاعة لكي يجازف بنفسه على متن مركب شراعي على مدى عدة أشهر.
وعموما كانت العودة تتم بعد سبع أو ثماني سنوات. والمحظوظون من المهاجرين كانوا يجلبون معهم أرصدة مالية بسيطة تتراوح ما بين ثلاثين وأربعين ألف فرنك.
لم يكن ما يروونه عن تجاربهم في البرازيل قط أمرا مشجعا بالنسبة ﻷولئك الذين كانوا يمنون النفس بالهجرة. فالحرارة المفرطة والحمى الصفراء وغيرها من الأمراض التي كان الإفلات منها أمرا نادرا، والحشرات من كل نوع ولون بلسعاتها المميتة في غالب الأحيان، كل ذلك كان يوحي بأن البرازيل بمثابة جحيم حقيقي.
وبالنظر إلى أن بنشيمول عايش تطور ونشاط الهجرة، فإنه يشدد على أن الهجرة لم تبدأ حركتها الحقيقية في التشكل إلا حوالي 1880، حيث قطع الشبان النشطون، الذين تحرروا بشكل مفاجئ، من كل الأوصال التي كانت تربطهم بمدنهم الأصلية. فكانوا أشبه بسرب من طيور الدوري و قد بدأت رحلتها نحو أمريكا اللاتينية، حيث كانت فينزويلا والأرجنتين و البرازيل هي الوجهة المفضلة.
أما مدينة طنجة فقد كتب لها مصير آخر مع بداية حركة مدارس الرابطة. حيث لم تعش هول ظاهرة الهجرة بمثل ما عاشته مدينة تطوان، فحسب بنشيمول، فإن شباب مدينة طنجة لم تكن تراودهم فكرة الهجرة. كان السعي وراء تثقيف الذات هو شغلهم الشاغل، وكان الأدب هو قطب الرحى في هذه العملية. ولم يتطور لديهم الحس العملي إلا في فترة لاحقة، حينما أثبثت لهم التجارب القاسية أن الأدب بالمعنى الذي فهموه شيء عديم الجدوى و يؤدي بصاحبه إلى الموت جوعا.
لقد تطلب نمو الهجرة انطلاقا من طنجة، – وهي حركة نشطة في أيامنا هاته – مدة من الزمن. ومن الجدير بالقول أنها لم تكن في يوم من الأيام أمرا لا مناص منه. فمدينة طنجة ببعثاتها و فنادقها و جاليتها الأوربية التي تناهز عشرة آلاف نسمة، قادرة عند الضرورة على تأمين لقمة العيش ﻷبنائها دونما حاجة إلى الاغتراب. وما اللجوء إلى الهجرة إلا من باب الانسياق وراء التيار أو أملا في الثراء السريع.
وبالرغبة نفسها في تدوين هجرة المغاربة اليهود إلى دول أمريكا الجنوبية، وارتباطا بالموضوع نفسه: (مدارس الرابطة والهجرة)، وبالحرارة نفسها للانتماء إلى يهود تطوان، اعتمد روبير ريكار أيضا على مقالة ”أحد القدامى التطوانيين”: (ذكريات أحد القدامى التطوانيين)، والذي يرد على ما أعادت نشره النشرة السنوية للرابطة الإسرائيلية لسنة 1901، (الصفحة 98)، إذ تم تقديم وصف متشائم للطائفة اليهودية بتطوان والذي كان سائدا حوالي أربعين سنة من قبل، أي قبل إنشاء المدارس. فبعد ما كان ميناء تطوان قبل الحرب المغربية الاسبانية (1860 ـ 1859)، هو الميناء التجاري الرئيسي بالمغرب، ونقطة العبور نحو المدن الداخلية. وكانت تتمتع الطائفة التطوانية برغد نسبي للعيش والذي فقدته من ذلك الحين. – ومصادفة غريبة هذه الحالة من الرفاهية التي بدأت تظهر في الوقت الذي بدأ فيه إنشاء مدارس الرابطة (1862)، – جاءت هاته المدارس بالتحديد لتهيئ الحل لتقهقر مادي محتمل.
فقبل عاميين وأثناء استيلاء الجيش الاسباني على المدينة، تعرض الحي اليهودي للنهب، الشئ الذي أدى إلى تأزم الوضع مرة أخرى. وبفضل تطور الملاحة البخارية أصبح الولوج إلى ميناء طنجة أو الرسو به أكثر سهولة من ميناء تطوان كما تفوق عليه ليصير على ما هو عليه اليوم، وهذا ما يفسر، الهجرة الكبرى ليهود تطوان نحو نقط متعددة من العالم.
فالتجارة لم تشهد تطورا، والصناعة لم توجد نتيجة خيبة أمل شل كل المبادرات وشجع التطفل والاعتماد على سخاء الغائبين للعيش. وكذلك اختفاء الحاخامات المتميزين الذين كان لهم تأثير منقطع النظير على الطائفة. فأصبح الشاب اليهودي يفضل أن يهاجر إلى فنزويلا أو أي مكان أخر على أن يتابع دراسته الدينية التلمودية.
بينما جمع القليل من المهاجرين بعض المال ورجعوا إلى تطوان واستقروا هناك. ويخلص إلى أن النظرة العامة التي قدمتها النشرة السالفة الذكر للطائفة التطوانية منذ أربعين عاما، لا شبيه لها وستظل نبراسا يهتدى به طوال حياته.
شكلت المعلومات الشحيحة التي استقاها روبير ريكار من المصدرين السالفي الذكر والتي اعتمدها في مدوناته حول هجرة المغاربة اليهود إلى دول أمريكا اللاتينية، حافزا من أجل لملمة بعض من الإفادات المشتتة والتي ترصد البدايات المكثفة لهجرة المغاربة اليهود إلى دول أمريكا الجنوبية. ونجح في ذلك حيث سينشرها في مجلة ” Journal de La Société des Américanistes ” سنة 1928، واعتبر أن هجرة اليهود المغاربة إلى أمريكا الجنوبية ظاهرة مثيرة، إذ لم يعثر على أية إشارة إليها في الكتابات العامة المتعلقة سواء بإفريقيا الشمالية أو بالعالم الجديد. وقد أورد في هذه المقالة بعض الإفادات الجزئية التي تمكنت من استقائها حول الموضوع.
يبدو أن اليهود المغاربة أخذوا يهاجرون إلى أمريكا الجنوبية في أواسط القرن التاسع عشر. وقد انطلقت هذه الهجرة في وقت ضعفت فيه المبادلات التجارية مع الجزائر وجبل طارق، حيث تحولت حركة الهجرة نحو البرازيل. غير أنها لم تستقطب إلا عددا قليلا من المهاجرين، فكثير من العائلات فضلوا المكوث في بلادهم ، وقد أثناهم الهلع من طول وصعوبة الإبحار على متن مراكب شراعية رديئة، ومن قسوة المناخ والحمى الصفراء، والحياة الشاقة التي كانت تنتظرهم فيما وراء المحيط، وما كان يروى لهم عنها من حكايات مرعبة عن الهجرة. أما الذين كانوا يقدمون على الرحيل، فلم تكن هجرتهم تتعدى سبع أو ثماني سنوات، والأوفر حظا منهم كانوا يعودون برأس مال يصل إلى 30- 40 ألف فرنك. ولم تزدهر هذه الهجرة إلا حوالي سنة 1880،حيث لم تعد حركة الهجرة تقتصر على البرازيل، بل تعدتها نحو فنزويلا والبيرو والأرجنتين. و عموما، فإن المهاجرين كانوا يعيشون أوضاعا معيشية مريحة ماديا، مما مكنهم من استقدام عائلاتهم. وغالبا ما يبدأ المهاجر مساره بالتدرب لدى مشغل يكون هو الآخر يهوديا، ليؤسس ويسير بعد ذلك فرعا مستقلا في مدينة أخرى أقل أهمية. “هنا بالأرجنتين، يكتب السيد بنشيمول- الذي كان هو الآخر مهاجرا بأمريكا- أعرف تجارا مغاربة استقروا ببوينوس أيريس ويملكون خمس أو ست أو ثماني دور تجارية منتشرة عبر المراكز الرئيسية للجمهورية” .

 


الكاتب : ذ. سمير بوزويتة

  

بتاريخ : 20/08/2022