تأصيل المسارات في «بيتنا الكبير» للروائية ربيعة ريحان

 

في استعادة لتفاصيل الحياة، نستحضر لحظاتها المشرقة ونتأمل أزهى الأيام وصخب أجوائها. رجوعنا الدائم لما بصم حياتنا وأثر بشكل لافت في صهر معالم سلوكنا، يقوي لدينا الاعتقاد بحقيقة أن كل المسارات موشومة بتاريخ خاص ذي صلة بمحيط عام يتسع فيه وقع تأثير الآخرين ودرجة التأثر بما يشكل إطارا هوياتي، يجلي أصولنا الاجتماعية وكل ما يميز ردود أفعالنا. لا تخلو أحاديثنا أحيانا من إشارات إلى ما تختزنه الذاكرة من وقائع وأحداث، تكشف عن جوانب من خط تطور استيعابنا لما كنا فيه وتاريخ تشكل وقائعه. غير أن ما لا نقوى عليه هو توسيع مساحة الاستقصاء والغوص أكثر في الذاكرة المشتركة للوقوف على مناقب الجذور.
في روايتها الأخيرة «بيتنا الكبير « الصادرة عن دار العين المصرية، تقتفي الروائية ربيعة ريحان مسار دائرة اجتماعية في تشكلها وتطور مسارات مكوناتها، تجعل من واقعة طارئة مدخلا لسرد نموذج لتشكيلة اجتماعية ناظمة لعلاقات ممتدة، وناقلة لأعراف وتقاليد توطد الأواصر بين مختلف الأجيال.
فالزمن الفاصل بين كبور الجد والحفيدة فريدة، لم يقو على طمس معالم الارتباط ومختلف السمات التي يحملها كل منهما، التفاعل الصارم مع المحيط والإصرار القوي على تحقيق الذات. تعود فريدة إلى تفاصيل حياتها منذ نشأتها الأولى في البيت الكبير، تستعيد صخب الحياة فيه وصولة الجد في ضبط إيقاع كل سكنات وحركات قاطنيه، لا كلمة تعلو فوق كلمته. يدير إمارته بيد من حديد، تتعدى سلطته حريمه وأبناءه إلى الجوار وكل من يقترب من محيطه. ردة فعله العفوية ورباطة جأشه، استاقهما من عوالم مسقط رأسه وزمن تنشئته (كان كبور مثل كثيرين من أفراد أسرته، أعمام وأخوال وأصهار، يعيدون إلى الذاكرة عشرات المشاكل والورطات، ومئات التضحيات، وحكايات كثيرة كانوا فيها أصحاب البطولة، في احتكاكهم بالجيران والأغراب، في تلك الأزمنة النائية) ص28. زاد من صرامته وصلابة طبعه مغادرته لقبيلته في فورة شبابه قسرا، بعد أن أصبح مطلوبا لسلطة المخزن على إثر ضربه المبرح لأحد الأعوان والمبالغة في إهانته وسط سوق القبيلة الأسبوعي. نأى بنفسه عن كل انتقام، واستعاد حياته في عزلة قاسية معتمدا على ما تطاله يداه وما يجود به بعض الأغراب العابرين لفضاء خلوته. رفض كل محاولات ثنيه عن الرغبة في العيش بعيدا عن عشيرته وأفراد قبيلته، بعد أن مكنه والده من تحسين إقامته ومده بكل ما يسمح له باستعادة شروط العيش الكريم، وما يقوي عزته بنفسه.
« كان لا يزال قريبا من النهر، يتحرك على غير هدى عندما جاؤوا، وصل أبوه وإخوته بعد الظهر، محملين بالزاد والعتاد « ص 56 .بمعية إخوته بنى بيتا ثم وسع فضاءاته ليحتضن الأبناء والأحفاد ، دبت الحياة في ربوع كانت خالية إلا منه ، استنهض كل إمكانياته لتقوية نسله وتوسيع دائرة فعله ، فصار دليل العابرين والقاصدين لما وراء النهر والقادمين من إحدى ضفافه . استعاد هيبة ماضيه كما ظل موشوما في ذاكرة أقرانه كمتمرد لا يهاب سلطة المخزن وأعوانه.
تستعيد فريدة حفيدة كبور كل تفاصيل شغبها وهي تشارك أعمامها صخب شقاوتهم، تجري حافية كما يفعلون، تعبر النهر وتسبح كما يفعل أقرانها في سعي لتحقيق التكافؤ ونبذ التمييز. « كطفلة لا تجد مجالا للهو إلا مع الأولاد ، أعمامها الصغار ، ولا ترتاح إلا حين تفعل مثلهم ، وتتخلى راضية عما في قدميها ، لتظل حافية ، مادام لا يحلو لهم الجري والنط والمصارعة ، إلا وهم كذلك، بأقدام قوية ، اكتسبت بداهة قوتها ، من احتكاكها المباشر بالأرض ، وتحملها خشونتها..» ص 7.
فريدة كالجد أرغمت على أن تعيش بعيدة عن أمها. في سن مبكرة أخذها والدها للعيش في مدينة اسفي بجانب إخوتها غير الأشقاء، فقد كانت ثمرة زواج قهري أرغم عليه والدها إرضاء للجد، الذي أصر على أن يعيش أبناؤه وأحفاده في البيت الكبير تحت رعايته وصرامة سلطته. أجواء أخرى أهلتها لتعتمد على ذاتها وتحصن مكانتها في فضاء تحكمه أعراف وتقاليد تختلف عن ما اعتدته تحت رعاية الجد وحدب الأم المرهونة ، في وسط لا تدري لما هي محجوزة فيه تنتظر قدوم زوج لا يعير وجودها في حياته أي اهتمام ، ولا حظ لها في أن تواصل الخلفة . هكذا أصبحت فريدة تعيش حياة أخرى في مسار مفتوح على أكثر من آفاق.
« كنت أقاوم ظروفي بجهود فائقة التركيز، وبعزيمة لا تقهر، وإن لم تكن ظروفا قاسية بالمعنى المادي على كل حال، لكنها تلك الضغوطات النفسية، التي لا تقل صعوبة هي الأخرى، رحيلي عن أمي من الهضبة، والعالم الجديد الذي سكنته مع ضرتها، وإخوة لم أكن قد رأيتهم، ولا أعرف عنهم أي شيء من طباع الطفولة..» ص 108. احتواها محيطها الجديد واستهوت أجواءه، تبددت كل مخاوفها وصارت على خطى الجد، تنحت طريقها مزهوة بما انتهت إليه وما اكتسبته من معارف ومهارات، وسعت من دائرة تطلعاتها وأصبحت ترنو إلى ما وراء الحدود، اكتسبت أسلوب حياة هداها إلى ضرورة توثيق ما عاشته بين الهضبة والمدينة، تعيد ترتيب مسار حياة الجد وشهامته، جزء من تاريخ تشكيلة اجتماعية قامت على قوة الإرادة وقدرة التحدي. صراط محن متعددة وأهوال تعترض كل محاولات ترتيب شروط العيش والاستقرار. نجاح الجد يستحق أن لا يبقى عرضة للتلف والنسيان. هام تفكيرها في إعداد سيناريوهات متعددة، لتعيد حياة الجد نابضة من جديد، تخلد ذكراه كما تتجلى تفاصيلها بكل هيبتها وجبروتها. صار لها مشروع اكتساب مهارة كتابة السيناريوهات.
« سافرت إلى القاهرة، في أمان الله، كما دعا لي الكل، في رحلة استكشافية أولى منظمة، تمهيدا للدراسة، شاركت فيها عددا من السياح، مع وكالة من مراكش، وكنت قد عشت حالات من التوقعات الجميلة، وبدأت أخطط لعالمي الخاص في الدراسة، جاهزة للتخصص في السيناريو ، كحلم يدفعني إلى المضي قدما في مشروعي « ص 251 .
تعذر تحقيق حلمها وظل إصرارها على التوثيق يراودها، يصبح أكثر من رغبة عند كل عرض لفيلم أو نقاش حول السيناريو والإخراج.
تماهت فريدة مع شخصية الجد المتمرد العنيد، تستعيد ما اختزنته ذاكرتها وما انتهى إلى علمها من حكايات عن ردود فعله وجسارة مواقفه. فكرت في أن تغادر وظيفتها ببلدية المدينة بعد أن استخفت بأجوائها وضعف مردوديتها، إضافة إلى عدم جدية العاملين بها. كانت تضمر بذلك نسخ رفض الجد للمخزن وأعوانه. رفضت استقالتها وأجبرت على أن تعيش غربة بين زميلات وزملاء يعيشون عوالم لا تستسيغ أجواءها.
« سمحت لنفسي بعد عام وشهرين من وجودي بينهم، أن أرى كل ذلك وأدقق فيه، منصتة بتركيز إلى أكثر المهاترات سخافة، وإلى الدردشة الفارغة التي لا علاقة لها بسينما أو مسرح أو بكتاب، ولا بأي لون من ألوان البهجة» ص 283.
مجت ما يتداول حولها من أحاديث فهاجرت إلى عالمها الخاص، تراوضها فكرة الكتابة عن حياة شغلتها عوالمها وفتنتها مساراتها ، تهفو إلى أن تحول وقائعها شريطا سينمائيا. لم يستسغ محيطها ما يشغلها عن أجواء ما اعتادوا الخوض فيه، وان تحيا حياتها لا كما فتنتهم مظاهرها واستوعبتهم أعرافها وحنطتهم تقاليدها. عزوف مستفز عن التماهي في نمط العيش السائد والخضوع لنواميسه . كانت مهووسة بما ما يمكن أن تعيد به الجد للحياة، كيف تخلد ذكراه رجلا لا ككل الرجال، أسطورة جيل من لا شيء أعطى معنى للحياة. واصلت الكتابة والحلم يراودها في أن يتحول البيت الكبير حكاية في شريط، يوثق لمسارات بهجتها ويعد للجد مجده وهيبته.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 29/08/2022