من أجل وطنية مغربية جديدة للصمود والإنقاذ

أحمد المديني

أتحاشى الكتابة دائما تحت ضغط أيّ عبء، الغضبُ والانفعالُ أشدُّهما. يقودان عندئذ المبتلَى بهما ويحرِّضانك بشحنتهما ومنطقهما، فيُحكّمان العاطفة ويُلغيان سلطة العقل لازمة لكل ذي نظر، رغم أن ثمة قضايا ونوازل تهزه وتصيب أحيانا بالعمى. إنكم تحدسون قبلي وقولي ينزل في مقام محدد أكبر مني، أن معناي يسبقني، وها أن أتعثر من البداية كي أخط كلماتي وما هذا يتاح دائما وبداهة إن أردت التعبير ولكن حين يتسع المعنى عن الحصر ويعِزّ عن الوصف والتقرير؛ ولأن إحدى معضلاتي مع هذه الكلمات أني أبغيها راشدةً سلفاً تخرج ناضجة من فرن القلب والذهن، بينما الآن قلبي(طايب) وذهني عكِر، فما العمل؟
أنتم تعرفون فعَلَها النظام التونسي واعتدى على حقنا وباغتنا نحن الذين على سوية واحدة في مواثيق والتزامات وعقود وعهود دعك من أواصر العقيدة واللغة والتراث المشترك وتاريخ متكافل في الكفاح الوطني وعُرَى بين شعبين أكبر من أُعدّد مجالاتها ومضامينها ولا الصحائف تكفي لِضمّها. وثِقوا، لن أبكي عليها أو أدعو للحِداد أو أنخرط بأي شكل في جدبة النحيب. وهذا، لا بسبب القرف الذي يَسري سُمّا في عروقي أنا المغربي العربي المحترق من أجل المصير العربي المشترك والميؤوس منه في آن؛ ولكن نظرا للفراغ الأجوف للكلمات وشحوب الصفات التي تُستعمل عادة للتنفيس في مثل هذه الحالات عن احتقان الذات، أي عن الغضب العارم الذي يغلي فينا وأعجز عن أن أسبكه في عبارات.
لا أميل إلى توجيه تهم الخيانة والغدر والخذلان ومن قبيله، وهي مثالب ومساوئ، لا شك، ولكنها حين الحديث عن أنظمة ومؤسسات تنضوي في سجل قيم وأبعد ما يكون عن أخلاق الفضيلة، فكم من مصالحات واتفاقات تمت عبر التاريخ بعد نزاعات وحروب طاحنة يضمر فيها الطرفان مشاعر المقت ولعل كل واحد يتحين الفرصة للانقضاض كرّةً أخرى على الثاني. أريد القول ببساطة وصراحة، لسنا وما ينبغي أن نظهر سُذّجا أو في وضع من يفاجأ، نعلم وشاهدنا كيف الضربات كانت تسجلُ تباعاً على مرآى، وبالطبع، مهما صدمنا فما هذه إلا واقعة في حرب عوان بلا هزيمة ولا خسران، وليس خيال الظل ما سيخيف المغرب والمغاربة. والحال أن هذا الذي ينعتنا بـ (جار السوء) ولا يستحق أن نمد له اليد تلو المكرمة، يواجهنا عدوا لدودا ويحرّض علينا القاصي والداني ويساوم بكل شيء ليهز كياننا كله لا وحدتنا الترابية وحدها، ووجد في نظام تونس لقمة سائغة انقلب علينا سياسيا وباعنا مقابل مصالحه تجمعها أصابع اليد. لذا، لنكن معه في مواجهة حامية لا تنفع معها أخلاق الفضيلة.
وإذ لا جدال في أن المغاربة المخلصين، والوطنيين بصفة خاصة ـ ففينا ضائعون ولا مبالون ومستهترون وانهزاميون وعدَميون وسماسرة وتجار أوطان ـ حسموا أمرهم بإرادتهم وكفاحهم في قضية الوحدة الترابية منذ الخمسينات مع بدء معارك جيش التحرير وعلى امتداد نضالات الحركة الوطنية وجزماً في المحطة المركزية للمسيرة الخضراء التي ذهبنا إليها بعشرات الآلاف ولم تستوعب الملايين، كنت منها وفيها وأعرف جيدا عما أتحدث وسأبقى شهادة حق ما دام في عرق ينبض لم أنل عليها ثوابا لا أبتغيه، جيلان بعدي خرجا من رحمها لها يشهدان؛
وصولاً، لا انتهاء، إلى المواقف الثابتة والتحديات الصعبة التي تواجهنا ولن تنال من عزيمتنا، وتُبقينا صامدين نعتبر قضية الوحدة الترابية مسألة وجود، وضد هذا الوجود يراهن الأعداء والمرابون. أريد هذا وأتمناه ولا يشبعني التمني يواسي به ساسة في الصدارة ببلاغات في مناسبات، وناس في قارعة الشارع ويمضون بالحسرة تاركين الحبل على غارب الأيام.
كلاّ، هذا أوانُ الشد فاشتدي زيم. إن الخيبة التي نحس جميعا جرّاء الموقف «الانقلابي» المشين للنظام التونسي ولبلد تعوّدنا منه موقفا متوازناً وحكيماً من قضية صحرائنا إن لم يكن مناصراً جهراً فقد ظل مطبوعاً بحياد إيجابي، وبقينا ننظر نحن إلى بلاد فرحات حشاد وبورقيبة شركائنا في الكفاح من أجل الاستقلال وأفق بناء المغرب العربي بأهداف ومصالح استراتيجية؛ يا لها من خيبة ينبغي أن تذكرنا بالبيت الشعري الذي استشهد به الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته الشهيرة: «هذا أوانُ الشّدِّ فاشتدّي زيَم/ قد لفّها الليلُ بسُوّاق حُطَم» أكتفي من الشرح بالقول إن زيَم إما اسمُ فرسِ راكبِها أو لفظةٌ للحرب، ونحن في حرب حلباتُها محصورةٌ ومفتوحة، نعرف فيها العدو والصديق والحليف والمتردّد والمتربّص، كذلك قوتنا، ونحتاج أن نعرف ضعفنا ومواطن هزالنا لنقوّي موقعنا ولنا مواقع إذا كانت قضية الوحدة الترابية عليا فثمة قضايا وأزمات لا تقل مركزية وجدارة وهي تحتاج إلى تعبئة وطنية شاملة وعاجلة.
حين يُعلَن عن خطاب ملكي وشيك تبدأ التوقّعات وتتكاثرُ الحسابات وكلّ جهة لها حساب ورصيد ربح وخسارة. حين يُعلن عن خطاب سيذاع لمناسبة وطنية هناك من يضع يده على قلبه مخافة أن يطير، وآخر يتفاءل أنه سيحل محله، وملايين المغبونين يأملون في فرج قريب لرفع ظلم وتفريج غُمّة، لكن الكل ظالما أو مظلوما يلتقي حول قاسم مشترك يسيء به الفهم، وهو أن الملك هادي طريق لا إطفائي حريق. بل حين يهب لإطفاء الحرائق نرى من يصرون على جلب مزيد من الحطب وصبّ الزيت على النار، هم الظنين وموضوع التهمة ويزايدون. متى سيعقل قوم ويعودون إلى الصواب، أن يفهموا أن المغرب ليس غنيمة لفئة، وأننا بعد قرابة سبعة عقود بعد الاستقلال وتواتر أجيال نحتاج إلى جرد حساب جديد نشترك كلنا في إعداده لا مكتبيّون فوقيون وخبراء في الأرقام والإحصاء وخطاطات الاستراتيجيات ومكاتب الاستشارات، على حساب العقول النيّرة والإرادات الوطنية الموجود منها والتي ينبغي أن تُربىّ وتتغذى بوطنية جديدة ترث المُشرق في ماضي كفاح الحركة الوطنية والديموقراطية وتعزز مكاسب الحاضر، وهي تمضي نحو مستقبل معزز بآمال العدالة والمساواة والكرامة.
بالمختصر المفيد، هي جبهة وكل مواقعنا خنادق، وأنا لا أطلق النفير ولست بوما، لكن ينبغي أن نصدع بالحقائق. وعيُنا بها سيجعلنا ونحن أقوياء أقوى. ليتكالب العالم كله علينا، ليكن، ولنكن بهشاشة جزيرة كما كتب سعيد حجي منذ الأربعينات قبل عبد الله العروي، فهذا يفترض أن يزودنا بروح الثبات وطاقة التحدي لمواجهة الأعتى ـ فسلوك منحرف لنظام مفكك الأوصال لن يخيفنا ـ لأنها معركة لتقوية جبهتنا الداخلية وتحقيق المطالب المشروعة لأبناء هذا الوطن، لعمري هي ضمان الحق الدائم في كامل ترابنا، لا يجوز لأحد أن يتقاعس فيها، حملة القلم والفكر في طليعتهم، والسياسيون الشرعيون، والرأسمالية الوطنية لا الجشعة، وكل مواطن غيور على هذا البلد الأمين ويريد مخلصا أن ينقذه ويحفظه من كل مكروه.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 31/08/2022