لحسن لعسبي يقتنص «غنيمة حرب».. كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب على إيقاع الرصاص

5

مدفوعا بالسياق العام الذي خلفته جائحة كورونا عبر العالم منذ نهاية 2019 وبداية 2020، وما عرّت عنه من هشاشة بنياتنا الصحية الوطنية والتي أنشئ جلها في فترة الاستعمار، أصدر الصحافي والكاتب لحسن لعسيبي مؤلفا بعنوان «غنيمة حرب: الطب الحديث بالمغرب 1940-1888»» عن المركز الثقافي للكتاب.
يواصل لعسبي في هذا الكتاب، وكدأبه، النبش في التاريخ الاجتماعي المغربي، وهذه المرة من باب» الصحي» في محاولة لرسم جزء من «الواقعة التاريخية المغربية» كما وقعت في التاريخ الحديث والمتمثلة في قصة «دخول الطب الحديث» إلى الحياة اليومية للمغاربة ما بين 1888و 1940، وهي الفترة التي كانت فيها الجغرافيا المغربية موزعة بين أكثر من دولة استعمارية: إسبانيا في الشمال والجنوب وفرنسا في الوسط.
هذا البحث لا يخفي مؤلفه كونه مؤطر معرفيا بالتحليل الذي بلوره المؤرخ المغربي جرمان عياش في كتابه «دراسات في تاريخ المغرب» الذي رام إعادة بلورة رؤية جديدة لمنهجية كتابة «التاريخ المغربي»، رؤية متحررة من سلطة الأحكام التبسيطية التي صدرت جلها عن الكتابات الأجنبية، بخلفيات تحكمت فيها الحسابات الكولونيالية التوسعية ونظرة الاستعلاء على الآخر الجنوبي.
ينطلق الكتاب من سؤال عام : كيف دخل الطب الحديث الى المغرب؟ لكنه سؤال لا يبتغي مقاربة تشخيصية أو كرونولوجيا تاريخية لتطور المؤسسات الطبية والصحية بالمغرب منذ ما قبل الاستعمار وحتى عهد فرض الحماية الفرنسية، بل يروم تفسير كيف غيرت صدمة الاستعمار وعي المغربي بذاته وبالآخر وبالعالم، انطلاقا من تقديم الخدمة الصحية سواء عبر أطباء البعثات الديبلوماسية أو البعثات الدينية التبشيرية التي استطاعت النفاذ الى مؤسسة المخزن (الدكتور فيرناد جون طبيب السلطان مولاي الحسن الاول)، وهي الخدمات التي يشير الكتاب بصددها الى أن المغاربة أنتجوا معرفة طبية حولها منذ تأسيس الامبراطوريات الكبرى بالمغرب منذ القرن 11 (العهد الموحدي، العهد المريني)، لكن الانتكاسة التي حدثت على مستوى الحكم والصراعات حول السلطة في القرنين 17و18، أثرت على تراجع هذه الاهتمامات بالعلوم الطبية في إطار وسياق تاريخي عرف انكفاء سلبيا حول الذات المغربية انسحب على المجال الصحي وتفريعاته، ما جعل الحاجة الشعبية الى الخدمة الصحية، التي تعتبر من الخدمات الأساسية ،وسيلة مثالية قد تتفوق على الرصاص والمدفع في تطويع المغربي المستعمَر، وفي إلباس المستعمِر جبة المنقذ والمدافع عن حياة المغاربة، وهي الخطة التي كانت تستند الى استراتيجية تشتغل بذراعين: الأول عسكري عنيف والثاني سلمي يشتغل على المدى المتوسط والبعيد. وهو ما يورد الكتاب للتدليل عليه، ما ورد في رسالة/تلغراف سريع للماريشال ليوطي أول مقيم عام فرنسي بالمغرب الى الجنرال غالييني يقول فيها: «إذا ما أرسلتم لي أربعة أطباء إضافيين، فإنني سأعيد إليكم أربع وحدات عسكرية (ما مجموعه 800 عسكري)، ما يحيل على أن بوابة الطب كانت وسيلة حرب غير تقليدية، وأيضا على دور الاطباء في تثبيت الوجود الاستعماري سواء عبر الخدمة الصحية التي يقدمونها أو عبر الاختراقات التي تتم من خلال صفاتهم المهنية لمراكز القرار.
يتحدث كتاب «غنيمة حرب: الطب الحديث بالمغرب 1940-1888» عن أن هذه الوسيلة (الطب الحديث) التي شكلت دافعا مهما لتغيير سلوك المغربي في وعيه بذاته وبالعالم، لم تكن أقل حدة من صدمة الاستعمار، اعتبارا للتغيير الذي طال نوع المعلومات التي أصبحت للمغربي حول ذاته وجسده من خلال الوعي الصحي الذي أصبح يمتلكه والذي ينسحب، لزاما،على رؤيته وتمثله للحياة بوجهها الحداثي في أكثر من ملمح ومجال، وهو التمثل الذي يمكن اعتباره المحرك الرئيسي والمنتج لإرادة الإصلاح والتغيير.
يتوقف الكتاب في فصوله الستة عند أول بناية طبية حديثة بالمغرب، وعن الخلاف القائم في تحديدها ، والذي لا يخلو بدوره من خلفيات تنتصر للأطروحات الاستعمارية التي تحاول أن تنسب الى نفسها هذا السبق في إنجاز مهمة تحديث الشعوب «البدائية المتخلفة»، أي بين فرنسا وإسبانيا، وهو الخلاف الذي تجزم فيه العديد من المصادر التاريخية، الأكثر علمية وأكاديمية، بالقول إن دخول الطب الحديث الى المغرب سبق مرحلة الاحتلال العسكري، سواء في شقه الفرنسي أو الاسباني. وكدليل على ذلك تقدم هذه المصادر مستشفيات طبية حديثة أنشئت بطنجة في 1886 وفي تطوان 1893. وهنا يحسم الكاتب بالقول إن الأهمية التي يرومها البحث ليست في مسألة السبق الزمني، بقدر ما تتحدد في مدى مساهمة هذه التجربة الطبية في خلخلة الوعي السلوكي والذهني للفرد المغربي، وأيضا في شمولية أو محدودية الدور الطبي على كافة أرجاء التراب المغربي واستفادة الأجانب واالمغاربة من الخدمات الطبية التي وجدت ممانعة في البداية من طرف االمغاربة بدوافع دينية محضة.
يأخذنا المؤلف بعد ذلك الى إطلالة على خريطة الأمراض المتفشية في مغرب العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، والتي حصرها في أربعة: الملاريا، الجدري، السل، الزهري، منوها الى أن هذا الأخير أي مرض الزهري هو ما جعل المغاربة خاصة في المدن الكبرى يطمئنون ويثقون في الطب الحديث عبر بوابة الاحتلال الفرنسي دون أن ننسى الإشارة الى القرارات التنظيمية لإدراة الحماية الفرنسية بتقنين الدعارة «مصلحة تنظيم الدعارة»، وإنشاء أحياء خاصة بها بعدد من المدن (بوسبير الدار البيضاء، الحي الخاص بمراكش والقنيطرة وفاس) في بلد إسلامي !
وإذا كانت مدينتا طنجة وتطوان قد حظيتا بالسبق الصحي، مؤسساتيا، فإن الكاتب يفرد لمدينة الدار البيضاء فصلا خاصا بعنوان « الدار البيضاء، الجغرافية البكر» هو الأطول ضمن فصول الكتاب الأخرى. ولعل مرد ذلك هو خصوصية احتلال هذه المدينة ، والسياقات االدولية والوطنية التي جاء فيها هذا الاحتلال (مخرجات مؤتمر الجزيرة الخضراء1906، انتفاضة مدينة أنفا والقبائل المحيطة بها التي هددت التواجد الأوربي بالمدينة)، ما عجل بتنفيذ خطط فرنسا التوسعية بالمغرب عموما،وبهذه المدينة خاصة وإقامة المستشفى العسكري الفرنسي الأول بالمدينة القديمة (نهاية 1910 وبالضبط بمنطقة السور الجديد)، وهو ما يمكن معه القول إن مفهوم الطب الحديث بالدار البيضاء مرتبط في شق كبير منه بتاريخ المقاومة والرفض، وهو ما يجده سنده في كونه ارتبط بداية بالطب االعسكري قبل أن يغير بوصلتَه تاريخُ الأوبئة المتتالية التي اجتاحت البلاد، وجعلت المغربي ينفتح على التطبيب الحديث ويغير كثيرا من معتقداته.
يتوقف الكتاب عند تطور الطب الحديث بباقي المدن المغربية بالرباط وفاس ومكناس وتازة ومراكش، وبالمغرب الشرقي الذي كان يتواجد ب»أقصى التهميش الطبي» خاصة وجدة رغم أنها من أول المدن المغربية ، إلى جانب الدار البيضاء، التي تم احتلالها من طرف الاحتلال العسكري الفرنسي (1907) وكانت تأوي عددا كبيرا من الأوربيين والجزائريين، موازٍ لسكانها المغاربة.
في الكتاب أيضا تفاصيل ضافية عن ميلاد عدد من المستشفيات الحديثة وظروف إنشائها والأطباء الذين اشتغلوا بها والتخصصات التي اشتغلت عليها، بالإضافة إلى أول مستشفى للأمراض العقلية بإفريقيا بالمغرب سنة 1920، وأول مركز لصناعة الأدوية ونشأة الصيدلة بالمغرب.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 02/09/2022