المرأة التي تحب العصافير (ورطة سردية)

إهداء إلى: سعيد رضواني 

3- ترحلين مثل غيمة، أغدو خائر القوى، كمياوم في يوم قائظ بليد. في ضوء الغسق المتلعثم أكتب عن غيابك البارد، الأبيض، الشفاف والموغل في حضوره في القلب وفي الرأس.. وفي هذه القصة التي تأخرت كتابتها كثيراً؛ فهل كان ينبغي أن أقرأ لأحمد بوزفور وبسام حجار لكي أكتبها؟!

2- سوف نفترض أن المؤلف الضمني، طاغي الحضور في سراديب نصوصه، كمتلصص أبدي،  سيتساءل: “ هل كنت أحلم أم كنت أنا من التفت مرتابا أم كان شخصاً آخر ؟ كيف ولماذا أغرم بالمرأة، التي كانت منحنية في ذلك السرداب، وهي تمسح عتبة البيت؟!”.  تلك الانحناءة  جعلته يتخيل/ يفترض أنها ربعة القوام. لم يحاول أن يتخيل ملامحها، حليب ذراعيها تكفل بمهمة شده إلى غفوة الانجذاب الطارئ. تماماً، كما تطيع الدواب اللصوص، وهي تشد رسنها، دون أن تفكر في أن تخدش سكينة الليل. يقولون أنهم يرشون على خطمها غبار (النفحة) المخدر.  ثوان مرت كفرح هارب؛  بقي مشدوها، منجذبا إلى المشهد، كأن يدا خفية تشد رسنه، وينقاد إليها، بكل طواعية.. أفاق من غفوة اللحظة الآثمة، وهو يتذكر أن يده تداعب زر جرس باب صهره الموارب، قبل أن يصعد سلم الدرج.

1- حين عرف أنها تلك الجارة، فارعة الغواية كنخلة مباركة.  ألفى نفسه في ورطة تمزق لا يحسد عليه؛ ذاكرته البصرية مشوشة، تود أن تحتفظ بصورة وحيدة في ذهنه للمرأة،  وترفض أن تسقط فاكهة تلك اللحظة من شجرة في المخيلة.
0- يصر على أن يسترد لقطة معينة في مكان معين، وهو السرداب، ذات تلصص غير مقصود، ولن يلوم صلة الرحم في أيام الجمعة، لكنه سيضحك كثيراً، وحده، حين تخبره زوجته أنها لن تذهب إلى بيت أبيها في هذه الجمعة، التي سيختار في مغيبها الشاحب الفاتر أن يكتب قصة امرأة عالقة في شباك الذاكرة، لأنه سيتذكر مقطعا ساخرا عن طفل يبكي في حرقة، لأنه لا يريد أن يذهب إلى المدرسة بسبب الطعام (الكسكس)، لأن أفراد أسرته اللئام يأكلون القصعة كلها.
الجدير بالذكر أن السارد صار يتجنب النظر إليها في أماكن أخرى، وهو الذي اعتاد أن يراها في عدة أماكن: في الزقاق أو عند البقال أو بائع مستلزمات الطيور.  لقد سرقت المرأة شيئا  حميميا، يخصه وحده، وهذه ورطة سردية لم يسبق له أن عاشها من قبل، رغم أن حليب ذراعيها ملك زوجها فقط، ولن يسيل فوق شفتي رجل آخر، قد يغرق في عذاب تلك السهوة الآسرة،  ويتناسى رغبته القديمة في معرفة الشارع، الذي تهب منه تلك الريح الطيبة، وليس مهما في هذه اللحظة أن نعرف أو نفضح هواية اكتشاف مخابئ الجميلات،  في شغف الباحثين عن المعادن الثمينة.

هوامش سردية
لا بد منها:

أ- مثل بسام حجار ، “لست أنا الراوي، وليس هو الراوي؛ ومن يروي لم ير شيئا. لم يعرف شيئا”، لهذا أحاول أن أكتب عن الرجل الذي غاب في نفق نظرة، دون أن يداهمه الإثم، وهو يسجن تلك المرأة في لقطة معينة، ليست حميمية على أية حال، حتى يراها، كما يريد أن يراها مرة أخرى، ويتفادى قسمات وجهها، التي صارت أليفة ومألوفة،  كعصفور مدجن/ (مروض؟!). ملامح سلبت منه دهشة اللحظة اللا تعود. سيشعر بالإثم الحقيقي، وهو يتخيل نفسه  يكتب هذه القصة  على طريقة مراهقي الفوتوشوب، الذين يبتزون البنات البريئات، بعد وضع صورهن على أجساد نساء أخريات؟!

ب- من يستطيع أن يصف هذا  الإحساس الطازج قبالة انحناءة محايدة؟! هل يمكن أن نصف شعور امرأة، لا تدرك أن هناك من يختلس النظر إليها،  ولماذا تقوم إحداهن بشد القميص، لإخفاء فتنة صارخة؟ كيف عرفت أن هناك من يلتهمها بنظراته؟! هل يمكن أن ترافق الخفقة العابرة – كموسيقى تصويرية- رعشة أنامل اللص؟ ولماذا ارتعشت يده، وهو يضغط على زر الجرس؟!
ج-  وحدها المصادفة الزمكانية، التي لم يخطط لها من قبل، ولم يسع إليها، التي أقحمته في هذه الورطة السردية،  ولسبب ما آثر، أو لنقل أنه تفادى أن يكتب عن مأزق  انجذابه مرتين إلى تلك المرأة، التي تحب العصافير مثله، لكنه لا يحب طيورها معقوفة المناقير، لا يحب ضجتها، وكذلك لا يحب طائر الهزار، بسبب منقاره كريه الشكل، على  رغم أنه ينتمي إلى فصيلة الشرشوريات، رائعة التغاريد.

خارج النص/داخل المآزق العاطفية التي لا تنتهي:

– امرأة تطل من شباك في لهفة. يشعر بخيبة أمل، لأن المرأة الشابة – في الواقع- كانت تنتظر زوجها. جيران جدد، ويبدو أن زواجهما حديث.. تفضحه مشاهد الانتظار، غب كل أصيل. الزوجة وحيدة ولا تربي طيورا، ومن المؤكد أنها لن تجيد التعامل معها، وستشعر بالتعاطف مع العصافير التي تشبهها، لأنها سجينة مثلها، وكل أصيل، تطل من شباك القفص الذهبي.
– تعيق بصره شجرة منتصبة أمام البيت، وبعض أغصانها تتمدد فوق سور الشرفة الواطئ. ثمة مسافة فاصلة بينهما. تخذله العينان الحسيرتان – أو المسافة ربما-  في قراءة تعابير الوجه وابتسام عينيها، يشعر بخيبة أمل أخرى. لهذا طالما تمنى أن يكون عصفورا في قصة يكتبها رجل كثير التلصص. ذلك العصفور سيغرد على غصن قريب من شباك شرفتها،  كأنما يفضح  تلك اللهفة التي تقاسمه إياها،  بلغة لن يفهمها سوى المرأة الوحيدة، أو التي تحس بالوحدة والرجل/ العصفور ، ولأن المرأة اختفت من إطار الشرفة، بعد  أن نبت رصيف مقيت بكراس كثيرة قبالة بيتها، على الضفة الأخرى من الشارع، سيتوقف العصفور عن الغناء، ويصير عدوا للطبيعة، حيث ستذهل المدينة، ذات صباح،  في قصة لم تكتب بعد؛  تفاجأ ببتر كل أشجار المدينة أو ما تبقى من أشجارها، على يد  كاتب، تخيل نهايته هكذا: يعيش مراهقته مع أبنائه، غير عابئ بسنه، ويضحك بسبب عتاب الزوجة: “واش نتبعك أنت ولا نتبع أولادك”، وقد استلهم المشهد من ذاكرة طفل، كان ينقل رسائل أمه وجدته لأمه  إلى امرأة قريبة كانت تغوي ثلاثة أخوال.. شهوة واحدة، وسيبدأ تلك القصة بــ: “ ترحلين مثل غيمة”،  وسيختمها بــ : “لا تلوموا الحبيب/الحليب”.

تنويه لا بد منه:
شكر خاص إلى المهدى إليه، صاحب براءة اختراع هذه القفلة السردية


الكاتب : هشام بن الشاوي

  

بتاريخ : 02/09/2022