مع ترجمات عبد السلام مصباح .. تطوان أفقا شعريا إسبانيا

يتابع المترجم الأستاذ عبد السلام مصباح مساره الإبداعي المتميز بترجمة نصوص الشعر الإسباني الأمريكي اللاتيني المرتبط بعوالم المغرب العميقة، وذلك بمناسبة صدور ترجمته المتميزة لديوان «تطوان في أحلام أنديزي»، للشاعر الشيلي سيرخيو ماثيياس بريبس، وذلك سنة 2022، في ما مجموعه 80 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وقد ظل المترجم حريصا في هذه الإضافة الجديدة على الوفاء لرصيد منجزه في عالم الترجمة، وللمنطلقات الفكرية والثقافية التي وجهت عمله في مجمل إصداراته السابقة، وخاصة على مستوى قدرته على تطويع الاستعارات وعلى تسهيل سلاسة انتقالها من اللغة المترجم منها إلى اللغة المترجم إليها، سلاحه في ذلك إتقان كبير للغتين الإسبانية والعربية، وحافزه في ذلك ولعه بالبحث في خبايا الحضور المغربي والعربي داخل المخيال الجماعي الإسباني والأمريكي اللاتيني، وهو الحضور الذي أثمر تجارب على تجارب، وأسماء على أسماء، ومتون على متون. وإذا كانت مسألة ترجمة الشعر وتجسير انتقال مضامينه من لغة إلى أخرى تشكل قضية خلافية لدى المهتمين والمتلقين بالنظر لتباين الرؤى حول سقف التأويل وحول أبعاد الانزياح الجمالي اللغوي العابر للحدود وللقارات، فإن الطريقة التي اعتمدها الأستاذ عبد السلام مصباح اكتست الكثير من عناصر الإثارة والتجديد والعمق الإبداعي الذي يحترم القاسم المشترك بين السياقات والثقافات والقيم لكل شعوب الأرض.
لا نشعر مع هذه النصوص المترجمة بفجوة «الآخر» ولا بمنغلقات «الخصوصية»، بقدر ما أضحى الأمر يرتبط بقدرة هائلة على تطويع المضامين، بلغة شفيفة، تحترم الصور والرموز وعناصر الإبداع والتميز والفردانية. ويبدو أن اختيار المترجم عبد السلام مصباح كان موفقا في الالتفات لديوان «تطوان في أحلام أنديزي»، إذ في ذلك تجسيد لاهتمامات ثقافية متميزة لدى المترجم في رصد أشكال حضور منطقة الشمال وعموم بلاد المغرب بين ضفاف القصيدة المعاصرة المكتوبة باللغة الإسبانية، سواء بالجارة الإيبيرية أم بدول أمريكا اللاتينية. فالشاعر سيرخيو ماثيياس بريبس، شاعر شيلي، من مواليد سنة 1938، أنتج الكثير من الأعمال الإبداعية والتركيبية حول التراث الحضاري العربي الإسلامي. وانتقل إلى استثمار ذلك لتقديم رؤى متقدمة حول مجمل القضايا العالقة في علاقة إسبانيا بماضيها العربي وبحاضرها المركب. ولم يكن الأمر غريبا عن الشاعر سيرخيو ماثيياس المعروف بانخراطه في النضال من أجل الديمقراطية في بلده، وفي مواجهته لحكم الديكتاتور بينوتشي الذي أنهى التجربة الديمقراطية لحكم الرئيس المنتخب سلفدور أليندي بالشيلي كما هو معروف. ونتيجة لهذا الموقف المبدئي، وجد الشاعر سيرخيو ماثيياس نفسه لاجئا سياسيا بإسبانيا، الأمر الذي مكنه من إعادة مقاربة الكثير من القضايا الثقافية الكبرى المرتبطة بالهوية الجمعية الإسبانية وبدور المكون العربي داخل تفاصيل هذه الهوية المركبة. لذلك، جاءت نصوصه الشعرية حبلى بإحالات مسترسلة على العمق العربي وعلى صورة المغرب والمغاربة داخل جغرافية قصائده الغزيرة، بشكل يتجاوز الرؤى الانطباعية السريعة لإسبان «المركز» وكذلك أحكامهم الاستنساخية الجاهزة.
في هذا الإطار، يُجمل الأستاذ عبد السلام مصباح أبعاد هذا المنحى قائلا: «إن حضور المغرب والأندلس في شعر ونثر سيرخيو ماثيياس يتغلغل في أكثر من عمل. ففي ديوان «ذاكرة المنفى» يظهر في شعر ماثيياس، ولأول مرة، الموضوع العربي الأندلسي. وترصع أبياته صور عربية النشأة، حيث تنصهر لغته بلغة قصر الحمراء بغرناطة. وفي ديوان «يوميات أمريكي لاتيني حول بغداد وأمكنة أخرى ساحرة» يقوم بتمجيد الحضارة الأندلسية الإسلامية، كما في قصيدة «موسيقى» حيث يؤرخ لوجود زرياب في قرطبة ابن زيدون وولادة. إلى جانب هذين الديوانين، هناك ديوان «تطوان في أحلام أنديزي» الذي نال عليه جائزة تطوان للشعر سنة 1986، ففيها يستحضر وهجه، باعتبارها أول مدينة عربية إسلامية زارها انطلاقا من منفاه الطوعي في إسبانيا… وفي ديوان «مخطوطة الأحلام» (قصة المعتمد وجاريته/ زوجته الروميكية) يتغنى بحب عظيم ومنفى، ويسترجع أمجاد العاشقين في إشبيلية حيث ولد حبهما وتأجج. وديوان «سحر ابن زيدون» (قصة ابن زيدون وولادة)… أما ديوان «زرياب: مغني الشرق الساحر»، فيتغنى فيه بصاحب الصوت العذب، الذي عاشر هارون الرشيد، وقد كانت له إسهامات بارزة في الموسيقى العربية والشرقية…» (ص. 17).
وبذلك، فالشاعر سيرخيو ماثيياس بريبس طبع وجه إبداعه بحضور عربي قوي، أهله لحمل تراكم هائل من القيم الرمزية للثقافة العربية وإعادة إدماجها داخل نظيمة الخلق والإبداع المخصوص بالنسبة لاهتمامات الشاعر، وداخل عوالمه ورؤاه ومواقفه وأحلامه. يحضر الشرق عميقا في قصيدة سيرخيو ماثيياس، وتحضر العربية بقوة داخل سردياته، وتحضر صور الشرق الأخاذة والفاتنة داخل أنساق بناء نصوصه التخييلية، فكأني به وقد تشرب بانتماء ثقافي عربي صنع معالم افتتانه ببؤر الجمال والخصب داخل هذا الانتماء. ولإنهاء هذا التقديم المقتضب، نقترح العودة للاستدلال ببعض نصوص سيرخيو ماثيياس بريبس الواردة في الديوان موضوع هذا التقديم، ففي ذلك اختزال لمجمل أبعاد حضور القيم الثقافية لذات الشاعر «المغربية» ولأنفاسه «العربية»، حسب ما حددنا معالمه أعلاه.
ففي نص «طوق القمر»، يقول الشاعر:
«بيوت بيضاء
مطلية بملوق القمر
مآذن مخضبة بلقاح البرتقال.
وتلاوة القرآن
تنسكب فوق نباتات المدقة،
محترقة في الدم
بين نيران الشفق» (ص. 24).
وفي نص «روابي تطوان»، يقول الشاعر:
«يحزن الإنسان
في قارب دموع،
ويفرح مثل غزال،
بين روابي النور» (ص. 26).
وفي نص «ربيع عربي»، يقول الشاعر:
«تتلاشى السحب
في شمسيات زيوس.
تمسك أشجار الزيتون لسان الشمس.
يتوج العشاق
بحضرة الحدائق المخملية،
ويتدثرون بتويجات في برج القمر» (ص. 32).
وفي نص «المئذنة العتيقة»، يقول الشاعر:
«لنحلات تطوان
شهد في الشفق.
عصافيرها الفرحة
تتيه عبر أزقة الهواء.
من المئذنة العتيقة
أرى قمرا يتشظى فوق الأرض» (ص. 34).
وفي نص «الذكرى»، يقو ل الشاعر:
«أنعود للجلوس
تحت برتقال ساحة «الفدان»؟
رماح الكواكب
تطعن تويجات تطوان.
وكفراشة رمل إلى الروح تنفد.
بعيدا عنها ترتعش من الوحدة
كشعلات بربرية» (ص. 42).
وفي نص «أغنية إلى تطواني»، يقول الشاعر:
«تطوان… تطاوين،
يا أفقا بحريا،
ويا أهل «الريف» الفرحين.
تطوان والمؤذن
يا عودة الحب
في همسات وادي «مرتيل»
تطاوين… تطوان
يا قطرات الندى.
يا قلب البحر، وجسم غزالة،
أنت الأكثر رشاقة.
تطوان… ونخلة،
يا رباب الهواء
ورائحة النعناع» (ص. 46).
وعلى هذا المنوال، ينساب القول الشعري لسيرخيو ماثيياس، ليعيد تركيب عناصر الانتماء الثقافي المرتبطة بنزوة الشاعر المتفاعلة مع الذات ومع المحيط، مع الثابت ومع المتغير، مع الانتماء ومع المآل، مع الأنا ومع الآخر. هذا الآخر الذي أضفى لبوسا عربيا على صنعة إنتاج قصيدة سيرخيو ماثيياس، وفي ذلك استحضار لعمق البعد المغربي والعربي داخل نسق الإبداع الثقافي الإسباني والأمريكي اللاتيني لزماننا الراهن.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 07/09/2022