حين يتم الدخول الثقافي من خارج الحدود .. لماذا يلجأ الكتاب المغاربة إلى النشر خارج المغرب؟

تعتبر العلاقة بين الناشر والكاتب علاقة مرتبكة ومتوترة في غالب الأحيان، وتحمل في طياتها بذرة الريبة وعدم الثقة من الكاتب تجاه الناشر في غياب الدور الرقابي للوزارة الوصية. فالكاتب المغربي يشكو من غياب الشفافية مع الناشر خاصة في ما يتعلق بحجم المبيعات وعدد السحب والنسخ الممنوحة له، وكذا من سوء توزيع كتبه، في أحسن الأحوال إذا لم يُطالَب وهذا هو الأكثر حدوثا، بدفع نفقات كتابه من جيبه رغم أنه والحالة هاته يبقى الحلقة الأضعف في عملية صناعة الكتاب، إذ الجزء الأكبر يلتهمه الموزع والمطبعة والناشر في غياب عملية التصريح بالمبيعات، بل قد يعاد طبع العمل دون علم كاتبه وبالتالي تضيع مستحقاته المالية التي لا تلتزم أغلب دور لنشر بسدادها ، أو قد تتلكأ في ذلك حتى ليبدو الكاتب في وضع المتسول وهو صاحب العمل الذي لم يكتبه بقلمه فحسب، بل بدمه وأرقه وقلقه.
إن الباحث في جذور هذه العلاقة المتوترة، لاشك يصل إلى خلاصة وحيدة وهي أن أغلب الناشرين اليوم، عكس ما كان عليه الأمر في سنوات السبعينات والثمانينات، يعتبرون عملية النشر عملية تجارية أولا، ثم يأتي الهاجس الثقافي بعد ذلك ، وهذا ما يجعل هامش المغامرة، خصوصا مع الكتاب الجدد، ضيقا بل منعدما بدعوى ضعف المقروئية وتكاليف الطبع رغم أن دور النشر المغربية والمكتبات معفاة من أداء الضرائب على القيمة المضافة، وهو ما يعني أن أغلب الناشرين ممن يغمطون المؤلف حقوقه لا يمتلكون بالأساس مشروعا ثقافيا ومعرفيا يؤسس لعلاقتهم مع الكتاب والكاتب، ويُخرِج عملية النشر برمتها من دائرة العرض والطلب، وهي الفئة التي لا تتعدى أصابع اليد الواحدة في المغرب وتحترم تعاقداتها مع المؤلف.
غياب الثقة هذا، وإثقال الكاتب بنفقات النشر، سوء التوزيع والفراغ القانوني المؤطِر للعلاقة بين هذين الطرفين، هو ما يضيع اليوم على «المغرب الثقافي» فرصة خلق صناعة ثقافية قوية، حيث يلجأ الكتاب المغاربة، وفي شتى صنوف الإبداع، الى النشر خارج المغرب وخاصة في مصر ولبنان والأردن، بحثا عن تعامل أرقى وتقدير للكاتب وللكتاب وإخراج جيد لإنتاجاتهم، ما يجعلنا والحالة هاته نتحدث عن دخول ثقافي يتم سنويا من خارج الحدود، وبمعدلات إصدار مرتفعة قد يصدر خلالها الكاتب المغربي أكثر من كتاب في السنة، وغالبا ما تحظى بالتكريم في منصات الجوائز العربية.
إن الأمر يستدعي من الوزارة من أجل بناء علاقة الثقة المفتقدة ، وضع ميثاق قانوني ينظم هذه العلاقة وقوانين صارمة تضمن حقوق الملكية الفكرية وكرامة الكاتب، وإعادة النظر في آليات التسويق والترويج للكتاب، وهي عناصر لا يمكن أن تتحقق في غياب صناعة ثقافية قوية تتجاوز عدسات المصورين ومراسم التوقيع إلى الفعل والواقع الميداني.
في هذا الروبورتاج، يتحدث كتاب، نقاد ، شعراء وروائيون عن تجاربهم في النشر خارج المغرب، وهم يجيبون عن سؤال: لماذا يلجأ الكاتب المغربي إلى النشر خارج بلده؟ هل رغبة في الانتشار أم هربا من الشروط المجحفة التي تفرضها عليه دور النشر المحلية؟

 

 

الروائية والشاعرة عائشة البصري: أغلب دور النشر في المغرب هي مطابع لا غير

هناك عدة اعتبارات تكون وراء توجه الكاتب إلى دور نشر خارج المغرب، أولها الرغبة في توسيع قاعدة القراء والانتشار على مستوى العالم العربي. المؤكد أن دور النشر في مصر والإمارات العربية المتحدة ولبنان (سابقا)، تحقق مبيعات جيدة، مقارنة بدور النشر المغربية التي تقتصر على التوزيع في المغرب والاعتماد على المشاركة في بعض المعارض.
يجب أن نعترف أن هناك مركزية في دور النشر.الكتاب في مصر يحقق أكبر عدد من الطبعات ، من الممكن أن تنفد الطبعة الأولى في شهور (حدث هذا مع روايتي «حفيدات جريتا «)، نظرا لخصوصية البلد الديموغرافية، فعدد السكان أكثر من مائة مليون نسمة.
لكن الأهم من ذلك، هو ضرورة وعي دور النشر المغربية (مع القليل من الاستثناءات) بأن نشر الكتاب لا يقتصر على طبعه على الورق، العناية بالمطبوع تتعدى خروجه من المطبعة. هناك مراحل يمر بها الكتاب قبل الطبع وبعده. قبل الطبع من اللائق أن تكون لدار النشر لجنة قراءة ومحررون لحماية الكاتب من هفوات كثيرة. وبعد الطبع يحتاج الكتاب إلى ترويج إعلامي في مواقع التواصل ( مهما كانت قيمة الكاتب والكتاب). الكتاب يحتاج إلى حملة إعلامية في مواقع التواصل، بالإضافة إلى التوزيع الورقي، والانفتاح على منصات إلكترونية خصوصا في وقتنا الحالي وما عرفته صناعة الكتاب من تقنيات إلكترونية متطورة. هذه العملية الإعلامية غالبا ما تفتح شهية النقاد والقراء على السواء، ثم هناك أيضا العمل على ترشيح الكتاب للجوائز، وهو طموح مشروع للكاتب مهما اختلفنا حول قيمة ومصداقية الجوائز.
هناك مرحلة أخرى لا تقل أهمية، وهي العمل على اقتراح الكتاب للترجمة بالمشاركة في منصات بيع حقوق الترجمة في المعارض الدولية، لأن الترجمة انفتاح حضاري نحو الآخر.
لكل هذا، أستطيع أن أقول إن أغلب دور النشر في المغرب هي مطابع لا غير، بل تعتمد على دعم المؤسسات وجيب الكاتب (بأقنعة مختلفة كإلزامه بشراء نسخ قد تصل إلى نصف العدد المطبوع) دون احترام للجودة أو لحقوق المؤلف.
شخصيا، منذ 2005 وأنا أنشر خارج المغرب، (سوريا، لبنان، مصر) لأن الناشر الجيد يشجع على الاستمرار في الكتابة ويعطي إحساسا بالثقة للكاتب. كتبنا كأطفالنا نطمئن حين نسلمهم لأياد أمينة. وأنا حريصة على استمرار تعاملي مع دار نشر محترمة ومهنية كالدار المصرية اللبنانية للناشر محمد رشاد ناشر أعمالي السردية. جزء مما حققته في مساري الإبداعي المتواضع، كان بفضل الناشر( الجوائز، الترجمة).
في الأخير لابد من الإشارة إلى أن هناك في المغرب طفرة من دور النشر، لناشرين شباب، تسلك طريقها نحو الاحترافية ويراهن عليها في تطوير صناعة الكتاب.

الناقد والشاعر عمر العسري:
دور النشر بالمغرب
لا تمتلك حسا مغامرا

علاقتي بالنشر تعود إلى سنة 2009، وقد خبرت، من خلالها، مجموعة من التفاصيل التي ساهمت بشكل أو بآخر في نشوء وعي تام بقيمة النشر في حياة الكاتب.  ولعل هذه العلاقة لاتزال تعرف اختلالا، وتشوبها بعض التناقضات. فالكاتب لايكتفي بالكتابة فحسب، وإنما يقضي وقتا طويلا للبحث عن دار للنشر تقبل عمله، أو ينشره على نفقته في نهاية المطاف. وهي، في اعتقادي، عملية لا تليق بالكاتب أصلا. أي بدل أن يهتم بمشروعه، يبدد جهدا مضاعفا في التواصل والبحث عن دار نشر أو مطبعة، خاصة إذا كانت معظم دور النشر  تقتصر على أسماء دون غيرها، بل حتى أن بعضها  لا يولي الكاتب المغربي اهتماما وحظوة وحيزا في مشروعها الطباعي، وإنما تعمل على استقطاب  أسماء مشرقية.
وأمام هذا الوضع الذي انزلقت فيه بعض دور النشر المحلية، كونها تكرس أسماء وتجارب، ولا تبشر بأسماء جديدة، ولا تمتلك حسا مغامرا، لم يكن أمام الكاتب المغربي سوى البحث عن أفق مرن لنشر مؤلفاته لأن نشر الكتاب، الأدبي والفكري على وجه التخصيص، لا يزال من التجارب الجديدة والمتعثرة في آن. فالناشر المغربي لا يثق كثيرا في المنتوج الثقافي المحلي إلا إذا كان منخرطا في سياق ربحي صرف. لهذا ظل الكاتب المغربي مقرونا بالنشر في المشرق لأنه يستند إلى رؤية ترويجية وهي الأهم.
ومن صميم تجربتي الشخصية، فإن النشر في المشرق يحقق لي ما أصبو إليه، لأن الانتظار الوحيد الذي أراهن عليه هو الحضور والتفاعل والترويج، وليس المقابل المادي، وكل من ينتظر من الأدب الربح أعتقد أنه قد خسر الكتابة أولا وأخيرا.
ما قيمة أن تؤلف كتابا في الإبداع والنقد والفكر … ويبقى حبيس مكتبتين أوغير موزع. بيد أنه في المشرق، تجد كتابك موزعا وحاضرا في جل المعارض وفق شروط جمالية ورؤية توزيعية جد مريحة. يكفيني أن يتصل بي صديق من مصر أو من الأردن.. ويرسل لي صورة كتابي في مكتبته. هذا الفعل، رغم بساطته، فإنه مستعصٍ على جل دور النشر المحلية. كما ينضاف إلى هذا المعطى، البعد الفني والإخراجي للكتاب. تحس أن الوضع مختلف تماما، ومؤلفك بين أحضان مؤسسة تعي تماما مبادئ تسويق الكتاب ورقيا وإلكترونيًا، والترويج له، والاحتفاء به.
هكذا، أنشر في المشرق لأنني أراهن على الوعي الترويجي الذي يتمتع به الناشر المشرقي، ولا أنتظر شيئا من الكتاب، سوى ما يحققه لي من البهجة الإخراجية والرؤية الجمالية التي يتمتع بها.

الكاتب والشاعر إدريس علوش: الناشر المشرقي يحترم الوضع الاعتباري للكاتب

قد تكون هناك أسباب عديدة ومتعددة تدفع الكاتب المغربي للنشر خارج المغرب والاعتبارات على ما يبدو هي الأخرى عديدة ومتعددة.
ومنها ما يدخل في باب الاعتقاد بأن الكاتب المغربي عندما ينشر خارج بلاده يعتبر نفسه أنه على خطى أن يصبح له صوت خارج البلاد، و يصبح له صدى  وأثرا في أكثر من بلاد وفي محافل الأدب والابداع والكتابة، وأنه سيصبح علامة مشرقة في سموات الله العالية في أرجاء المعمور.
علما أن هذا- والقصد ترك الأثر- سيكون صعب التحقق دون أن يكون له صدى وأثر في بلاده، هذا عندما تكون الموهبة طبيعية لها جذور في الأرض التي ينتمي لها الكاتب.
والاستثناء هو أن يبزغ نجم كاتب في البلاد وهذا يحدث لماما.
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال -لماذا يلجأ الكاتب المغربي للنشر خارج بلاده؟
المسألة قد يعتريها بعض الغموض أحيانا لأن هذه العلاقة في الغالب ذاتية ومزاجية يدرك خصوصيتها الناشر والكاتب معا، والمتلقي ليس طرفا في هذه المعادلة.
الأكيد هو أن هناك ما يغري ليختار الكاتب هذا الطريق مثلا الشكل الجيد الذي سيصدر عليه الكتاب، وهذا يخص دور النشر المتمرسة في مجال صناعة الكتاب، واعتماد ثقافة التسويق له لتزيد في التعريف بصورة الكاتب وتوسع سعة حضوره وانتشاره في الساحة الثقافية في البلاد التي توجد فيها هذه الدور أولا، وثانيا في المعارض الدولية التي تشارك فيها..
كما أن الجدية في التعامل ومراعاة حقوق المؤلف، واستحضار الوضع الاعتباري للكاتب لدى هذه الدور، هي الأخرى من المغريات والحوافز التي تجعل الكاتب المغربي يختارها ويعتمدها في نشر أدبياته.
وإن كان هذا  يحدث لماما أيضا.
لكن كل هذا لا ينفي بأي شكل من الأشكال أن هناك بعض الدور النشر في بلادنا التي تحترم نفسها وإن كانت نادرة هي الأخرى ، تعتمد الأخلاقيات المهنية والصدق في تعاطيها في عملية نشر الكتاب المغربي.

القاص والشاعر سعيد منتسب: حتى لا يلعب الكاتب دور الناشر والموزع والإعلامي

هل يستطيع الكاتب المغربي، في علاقته بإنتاجه الأدبي المتراكم غالبا في الرفوف والجوارير، وفي «حيز الإمكان» على الحواسيب، أن يتنهد، على الأقل، بحرية إذا كانت أقفال النشر هي خصمه الدائم؟
في بلادي، الناشر يشكو، ويُلْحِقُ الغث والسمين بدفاتر الخسران. لا حرير ولا دودة قز. النشر مهنة يائسة ومغرر بها، ولا يمارسها إلا الخائض في الريح أو الرماد. ومن ثمة، فالكاتب المغربي، حين يلجأ إلى الناشر المحلي، يدرك أن عليه أن ينزع عنه رداء الشاعر أو القاص أو الروائي أو المسرحي أو الناقد أو الباحث أو الدارس أو الأكاديمي أو المؤرخ أو عالم الاجتماع…إلخ، ليتحول إلى مجرد حافظة نقود. عليه أن يقدم «مساعدة مالية شاملة» حتى يقبل الناشر بـ»طبع» عمله الذي قضى شهورا أو سنوات في تأليفه، ثم يقع بعدها، إلا في حالات استثنائية، تكديس العمل في الأقباء والسراديب والحفر السرية، لتقرأه الجرذان والصراصير والأشباح. هذا ما يبرر في نظري هروب الكثير من الكتاب المغاربة، بل أجودهم، إلى الشرق، بحثا عن «ناشر» حقيقي يحفظ كرامتهم، فلا يطالبهم بدفع قيمة طبع أعمالهم بـ «التقسيط المريح»، ولا يطاردهم في كل مكان ويجعلهم يرفعون أذرعهم عاليا حتى آخر فلس. والناشر الحقيقي هو من ينشر عملا يستوفي شروط النشر على مستوى الأصالة والجدة والفرادة والتميز؛ وهو الذي يسهر على إخراجه في أبهى حلة وفق المواصفات المهنية للطبع، خطا وتصحيحا وتبويبا وترقيما وتصفيفا؛ وهو الذي يوزع الكتاب بشكل احترافي جيد ويضمن وصوله إلى قرائه المفترضين؛ وهو الذي يوفر الدعاية اللازمة للكتاب المنشور (ومؤلفه أيضا) في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي…
إن لجوء كتاب مغاربة إلى نشر أعمالهم في الشرق ليس ترفا، وليس بدعة أو أي شيء من هذا القبيل. فقد سبق لكتاب مغاربة كبار أن نشروا أعمالهم في الشرق، ولم «يستبدعهم» أو يرجمهم أحد. صحيح أن النشر هناك يضمن حدا أدنى من الانتشار، لكن العيب ليس في «الهناك»، بل في «الهنا» الذي يسخر كل طاقته من أجل استنزاف جيوب الكتاب، حتى اختلط الحابل بالنابل، واستوى المُحَبِّرُون مع المفكرين والمبدعين والباحثين في الدرجة نفسها، بل لقد أخذ الإبداع يغرق مع تراكم الحبر على الورق في الأكشاك والمكتبات والمعارض.
يقال إن الكتاب الذين لجأوا إلى الشرق يبحثون عن الشهرة، وأنهم يبحثون عن الجوائز، بل يذهب البعض إلى حد تخوينهم واتهامهم بالتخلي عن «دور النشر» المغربية، وفي نظري ينبغي، أولا أن نميز بين معنى «دار النشر» ومعنى «مطبعة، من حيث البنية والوظيفة، كما يحتاج منا الأمر طرح هذا التساؤل: أين المشكل إذا كان هؤلاء الكتاب يبحثون عن الانتشار والجوائز؟ أين المشكل إذا كانوا يريدون لإنتاجاتهم الأدبية أن تظهر في حلل جميلة؟ ألا يقتضي الأمر من «الناشر المحلي» أن يطور إمكاناته، وأن يتعامل مع الكتاب وفق تعاقد يضمن حقوقهم، بدل أن يقدم لهم عقودا تأتي على الأخضر واليابس، في البر والبحر والسماء؟ أليس مطلوبا من «الناشر المحلي» أن يتحمل مسؤولياته في إقناع هؤلاء الكتاب بالتعامل معه، وفق ضوابط ديمقراطية يستغني فيها الكاتب عن لعب دور الناشر والموزع والإعلامي؟


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 23/09/2022