هُم على ضِفافِ دمِهم، ونحنُ على قارعةِ النّسيان
أحمد المديني
1
سواء انتمى صاحبُها إلى الشرق أو إلى الغرب، دعك من مغاربنا، تبدو الكتابةُ عند صاحبها نوعاً من القدر المُمِضّ يَحكُم عليه بملاحقة ذاتِه في ذوات الآخرين، أو من خلالهم، أو البحث عبر هؤلاء عن الحيّز المحتمَل القابل لاحتواء ذاته على سبيل الواقع أو المجاز. يفعل ذلك خارج دائرة الأمل واليأس معا، لأن ما يبغيه يجهله سَلفاً أو يطمره في مكمن الكتمان، لا يُذيعه إلا مُقسَّطاً أو مُقمَّطاً بالسِّحر، يمشي وراءه وهو يكتشف تحليقه في اللحظة نفسِها التي يرافق فيها أسرابَ الطير والعيش والمنيّة .
2
يعيش جميع الناس بالأمل، بالحلم، فلولا الحلم لأكلوا أنفسهم من طول ملال ومقتِ عيش. لا يَفضُل الكاتب الآخرين بشيء كبير، يريد أن يقول هذا ليُبعد عنه تميّزاً سيُثقِل على كاهله بلا طائل، وخاصة في بلدان يُعتبر الابتلاء بالقراءة والكتابة فيها مضْيَعةَ وقتٍ وامتيازاً متروكاً للواهمين. لاتستغربوا أن جميع أنظمة العالم الثالث، منه عالمنا العربي المختل، بنفطه وغازه وبطَر أنظمته، لا تتعامل مع الكتاب والمثقفين عموما بالجد الكافي، إلا أن تُكمِّم أو تطوِّع أفواههم، منه تسخيرهم كراكيز لمآربها، وإذ يظنون يقبضون على زمام الأمورـ فإنهم يفعلون ذلك بعباطة تثير الشفقة، حقا. هناك تفوّقٌ واحد، ولو بالمعكوس، يستطيع الكاتب أن يدعيه حين يتوسوس بكتابته، وتغدو حلبته الأولى والأخيرة تقريبا. إن له أن يزعم مثلا، وليس له أن يخشى في ذلك أحدا أو شيئا، كونه يعيش في الحلم ومن أجل الوهم. بهذا الإدعاء تنفتح أمامه أوسع أبواب الحرية، حتى ولو كان مغلولا بألف قيد، ولذا فهو يتهيأ بالقول، يقتات به، وفي مضماره ـ أليس هو مضمار العالم، في النهاية ـ يصول ويجول، ويُخيّل إليه أنه اعتلى موقع النبوءة؛ كأنما فقط، وإلا سيتوهم أبعد.
3
بالرغم من كل تلك النظريات التي وضعت الكاتب عهودا ومدارس في خانات الواقعية والالتزام والانتماء، وبقية رطانات هذا الباب، مما هو من قبيل محاولة التدجين والترويض لكائن لا توافقي، متمرد بطبعه، فإنه يظل خارج المعتقدات السائدة والإيديولوجيات المروّجة، بحق أو بباطل. قد يتاخمها أو يمالئها فيما يبقى خارجها، لا لأنه، جدلا، يعيش في داخل كُنهٍ ما، وليكن كنهه، بل بسبب اعتقاد آخر بمثابة وَهْم، بأنه إيديولوجيا نقيض، تخوّل له الزعم بأنه خلافا للرأسمالية والاشتراكية اللتين أوكلتا لهما تدبير الثروة والفقر في العالم ومن تم إعادة توزيعهما بكيفية ما فإنه، هو الفرد الأحد، مهمته أن يتولى تدبير الحزن بين بني البشر. ومقتضى هذه المسؤولية التي لم يضعها على عاتقه أحد ـ سوى وهمه، طبعا ـ أن يتصرف، أي يكتب، أن يتخيل، أن ينشئ لغة، ويخلق كائنات، ويحرُث أراضٍ، ويُرسل حُداءه في فلوات؛ كلّ ذلك ليجعل الحياة محتملة بعض الشيء، والعالم، عاليه وسافلَه، قابلا للعيش. بهذا المعنى، فالأصل في الأشياء الحزن لا الفرح، وفظاظة الوجود لا وداعتُه وانشراحُه. الأصل عنده، وهو ما يراه مشخَّصاً في الواقع بفجاجة، التكالب اللانهائي على حياة تعاش بنقيضها،أي بالعدم، والتطلع اللامحدود لنفوس لا تستطيع أن تشيّد فضاءَ بحبوحتها الروحية إلا بإلغاء كينونة الآخرين؛ أيّ شقاء هذا، ويا لها ورطة على الكاتب تدبيرها ليعيش، يتعيّش!
4
ورأيتني في ضائقتي هذه لا أحار فعلا ولا قولا، فالتفتت إليك يا شيخي، أنا المُريد تقطّعت به السُّبُل، ولم يعد ينظر إذا نظر إلا في سماء العمى، يتوجّس من كل شيء، تستفزه الأهواء فكيف بالأنواء، ولا يدري على أي جانبيه يميل من فرط أناس يأكلون أنفسهم وأرض تأكل بعضها، فيا ويحها، أضاعت صورةَ وجهها في يومها قبل غدها، وأنت لا حول لك كي تُقيل عثارها أو تحمل عنها أوزارها، ماذا دهاك أم دهاها إمّا تسلّط القبح عليها فأخفى بهاءها، وما عدت واجداً إن بحثت ما يُعيد فوقها دثارَها أو يُنير سَمْتها كالذي يُعلي مقامها، بعد أن مضى مجدا كان مجدَها، ورجالا بالأمس شادوا بالدم ونياط القلب بنيانَها.
5
أجابني بعد لأي حتى خفت ما عاد يُسمع لي قول: أنت فعلتَها، فمن سرّح طَرْفه دامت حسرتُه، وأنت مذ ولدت اخترت باباً يذهب إلى أبعد المسالك، هي المهالك، فتدبّر شأنك أو ارتدّ إلى مقام السريرة حيث لا تُفشى الأسرار، أقِم فيه إلى أجّلٍ محتوم لا يُعييك فيه الانتظار. لم يكن لي بعد هذا، وأنا في وهدة الرّدى، غير لساني خلته سيعبر بي إلى عشيرتي أنشر فيها كلاما أحسب لم يقله أحدٌ قبلي، لن يخطُر على أحدٍ بعدي، فوجدت مذ دخلت ذلك الباب الكلام يتخطى عتبات السلام ويثير الفتن بين الأنام ، ووالله ما قصدت إلا أن أفكّ طوق الحمام.
6
عدت أنظر إليه أستفتيه في تشابه الفصول بأرضنا أنسانا شحوُبُها زمانَنا وتاريخَنا وأَرومتَنا، ودرّبتنا على أن تنحني منا الرقاب حتى الكعوب، لكي لا نظفر في النهاية سوى بقليل من تفاصيل الدّعة ونقيم في طقوس المهرجان. عدت أقلّب فيه النظر والطريق إلى سؤله كلُّه حشرجة وسعال العابرين، وطحين الكلام منتثر فوقنا وقاماتنا تساق بوجوه في الرغام. وهو لم يكن ليجيب ولم يبق إلا في ومْض السؤال. من رأيتُ مضى، وأنا عييت من ذهابي في الفوات. لا ألتفت والأيدي تدفعني إلى حتف ما تبقّى من حُرقة الكلمات. حين أهبط في قرارتها لا يصعد أيّ دخان، فقد مضى عهد الحريق وادلَهمَّ الطريق، أكاد أقول أغثني يا رفيق!
7
لن أجيب بعد اليوم من أكون، سواء في أوراق الإدارة أو لضرورة المحبرة أو طقس العبارة. في شبابيك المطارات العربية أجهل دائما من أكون. لا، بل أخاف ممن أن أكون. لو قلت: كاتب، لضربتني العين بعلامات التعجب: ماذا تعني، أوَتهزأُ بنا، فيا أنت من تكون؟!. لا أحد، قطعا. فقط، أحيانا أرقص فوق حبال البلاغة، أخرى أمدّ من جسدي جسرا لعبور بلادي، وطورا، أشتاق للبكاء على صدر الحبيب. هذا طبعا إن لم أتجرد، إذ ماذا يبقى حين أُمسي لا أحد. لم يعد أيّ خطاب يتقدمني. صرت ورائي. أما الأمام فشكل هندسي، مرةً نملأه بالولع. ومرة أخرى نطلق منه صيحة الغضب. ونرانا منذُ أعمارٍ وقفنا لا نعرف إلى أي شيء أو على أيّ نحو ينبغي أن نمشي. الوراءُ أيضا شكلٌ هندسي في صورة أضرحة أو طلول أو نبشٍ بالأضافر في جدران الزنازن، مع فارق أنه لا يُلزمنا بشيء تقريبا غير أن نقتات ببقايا لحمنا ونتعلم الإقامة في أَتون الذكرى كي ننسى، وكي نجدد التعلمَ، لا بأن الشهداء لا يعودون فحسب، بل بأننا نقتلهم كلّ يوم حتى يبقوا أبداً على ضفاف دمهم، ونبقى نحن على قارعة النسيان.. قد نحلم وهما وزعما بجولة قادمة!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 05/10/2022

