عبد السلام بنعبد العالي: أكروبات يراقص : مطرقة النقد الناعم تحاصر البلاهة

يحتفي الملحق الثقافي في عدده الجديد، وضمن ثقافة الاعتراف، باسم مغربي بصم المنجز الأدبي والفكري والفلسفي المغربي بميسم خاص، شكلا وأسلوبا وموضوعا، هو المفكر والفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي، الكاتب القلق الذي لا يطئمن إلى شيء، فكل الأشياء محط تساؤل وتفكيك وتركيب في عملية لا تني تنتهي.
أسس المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، الى جانب ثلة من المفكرين والفلاسفة المغاربة أمثال محمد عابد الجابري، محمد سبيلا، محمد وقيدي، محمد نور الدين أفاية، كمال عبد اللطيف، عبد الكبير الخطيبي، لمدرسة فكرية تجعل من السؤال أداتها ومن الحداثة أفق اشتغالها، بعيدا عن التقليد وتكرار الجاهز وإعادة تدوير الثابت والمطروق واجتراره.
لكن ما يميز المفكر عبد السلام بنعبد العالي، وهو يشتغل على تشريح قضايا فكرية وأدبية وفلسفية، هو تلك العلاقة التي ينسجها مع أشياء اليومي والراهن، وما يفرزه «مجتمع الفرجة»، وهو ما يستنتج معه أنه يؤسس لخطاب فلسفي أقرب الى مشاغل اليومي حيث القدرة على الالتقاط الذكي، وعلى خرق اللامفكر فيه وتفكيك وهدم أسس البلاهة، بعيدا عن كل وثوقية تجعل الفكر منغلقا ومطمئنا إلى يقينيات متوهمة.كل ذلك من أجل إنتاج رؤى وأفكار جديدة تولدها القراءات المكثفة وتغذيها الترجمة، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير المفكر عبد السلام بنعبد العالي الذي زاوج في مشروعه الفكري بين الفلسفة والترجمة، وهذا مكمن قوته في صناعة «الفكرة» وصياغتها وطرحها بشكل سلس ومبسط للقارئ العادي والأكاديمي في نفس الآن. طرح كان من القلائل من متبنيه، والذي يروم من خلاله توسيع مساحة الفلسفي في الثقافة المغربية ومن هنا نفهم دعوته الى فتح الفلسفة على معيشها، من خلال التقاط تفاصيله والتأمل فيها ومن ثم تفكيكها وإعادة قراءتها بحس نقدي متفرد، بعيدا عن كل إقامة متعالية في وهم سلطة الفكر، هو الذي يحرص في اشتغاله على التحرر من كل القيود التي يمكن أن تسجنه في دائرة المكرور، وهو التحرر الذي أكسبه مكانة فارقة في خريطة المنجز الفكري والفلسفي الذي يروم المغايرة والاختلاف، والحرث في أراض بكر قد يطأها بقدم لاعب كرة القدم ويحلق بعيدا عنها لاكتشاف سحر القمر، ويعود إليها خفيفا بـ»انتعاشة اللغة»، وكل ذلك بخفة أكروبات يراقص كل الحبال دون أن يقع في شرك اليقين والحقيقة.

 

1 –
اختار الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي توظيف معارفه الفلسفية بطريقة مختلفة عن المألوف، حيث اتجه منذ أربعة عقود، إلى إنتاج مقالة فلسفية قصيرة، لا حدود معينة لموضوعاتها وأسئلتها، مقالة مسبوكة بكثير من الإيجاز، مستعيناً في ذلك بجوانب من الأرصدة النظرية لتاريخ الفلسفة ومن دروس الفلسفة المعاصرة على وجه الخصوص.
تحضر في أعماله مفاهيم وطرق عمل كل من نيتشه وماركس ورولان بارت، ثم فوكو ودولوز وبودريارد على سبيل المثال. وعندما نستثني أطروحته الجامعية الأولى عن الفلسفة السياسية عند الفارابي  (1979)، وأطروحته الثانية عن أسس الفكر الفلسفي المعاصر  (1991)، نجد أنه اختار الانخراط في عملية إنتاج مقالة فلسفية قصيرة، والاكتفاء أحياناً بكتابة جملة من المقاطع والشذرات، يعتني فيها بمواجهة أسئلة اليومي في جريانها، أسئلة الواقع في تعدُّده وتناقضه، أسئلة الفكر في تعاليه ومفارقاته، وفي ارتباطه بالافتراضي والتاريخي والمتخيَّل، متوخِّياً من جهة، توسيع دوائر النظر الفلسفي، ومستهدفاً من جهة أخرى، تفكيك اليقينيات والمواقف القَبْلِية والأحكام العامة، السائدة في ثقافتنا ومجتمعنا..
لا نتردد في اعتبار أن هذا الخيار في الكتابة والتأليف والترجمة، يعكس جوانب من إيمانه بالأدوار التي يمكن أن تترتب اليوم على الفعالية النظرية الفلسفية، عندما تُستعملُ وتُوظَّف لمحاصرة أنماط الفكر السائدة في ثقافتنا، وهي في أغلبها أنماط محافظة. ويمكننا أن نشير هنا، إلى أن عناية الباحث في أعماله الأخيرة بنقد البلاهة، تندرج ضمن الأفق الفكري الذي اختار، وهو أفق لا يهمه الركون إلى موقع محدَّد، ولا بناء موقف نظري بعينه، قدر ما يهمه  أولاً وقبل كل شيء، خلخلة أسس ومقدمات كثير من أوجه اليقين في ثقافتنا..

2 –
يلتقط بنعبد العالي الظواهر والأسئلة، كما يلتقط الكلمات والمفاهيم بحس فلسفي وآليات في النظر النقدي، ثم يعمل على شحنها بكثير من التكثيف والبلاغة المشدودين إلى إيحاءات الكلمات.. ينشرها في الإعلام، ثم يعيد نشرها في كتيبات صغيرة، يقيم فيها حواراً مركباً مع مجموعة من المفاهيم والتصورات، محاولا ترسيخ كثير من القيم الْمُؤَسِّسة للفكر المعاصر..
يقف بنعبد العالي في زاوية معينة، متأملاً وراصداً معطيات عديدة من الأفكار المتداولة في ثقافتنا ومجتمعنا، يلتقط موضوعاته ومفرداته من كل ما يجري أمامه في الواقع وفي العوالم الافتراضية، ثم يبدأ في النظر إليها من زوايا مختلفة، ليتوقف أمام نواتها المركزية أو أنويتها الأساس، وليتوقَّف ثانية، أمام هوامشها ومنسياتها، وأمام ما تسكت عنه أو يَرِدُ فيها مُقَنَّعاً، فيتأمل بعض جوانبها. ثم يستبدل موقعه، ليصوِّب النظر من جديد، نحو بعض أبعادها الأخرى، وفي غمرة انخراطه في النظر والفحص مسلحاً بآليات الدرس الفلسفي المعاصر، لا يتردد في العودة إلى الموضوعات نفسها، بحكم وعيه بحربائية الأفكار، حيث يحاول إبراز علاقة الأوهام بالتاريخ، كما يحاول توضيح أدوار التاريخ في تلوين مسارات الحياة، أدواره في التقدم والتراجع.. ليجد قارئ مقالاته وشذراته المتقاطعة في النهاية، أمام مجموعة من القضايا وقد تحولت وتداخلت، ثم تناثرت دون أن تندثر..
يكتفي في أغلب مقالاته بالتلميح والإشارة، يتموقع نظرياً في دائرة آليةٍ محدَّدةٍ في النظر، لأنه وبحكم خياراته الفلسفية، لا يريد موقعاً بعينه، فهو لا يحرر بياناً سياسياً، ولا يرسم موقفاً لا رجعة فيه، فهذه طرائق ترتبط بمجالات أخرى في النظر وفي الكتابة. إنه يهتم أساساً بخلخلة وتفكيك المواقف ومختلف اليقينيات. ولهذا لا يجد أي حرج أحياناً في الاقتراب المؤقت والعارض من مزايا العدمية ومآثرها، ولا يتردد أحياناً أخرى في الحنين إليها والتغني بمزاياها في الفكر وفي الحياة..

3 –
صدرت لبنعبد العالي أعمال كثيرة بعناوين تشير إلى جوانب من قناعاته الفلسفية، واستوعبت هذه الأعمال عشرات المقالات في نقد ظواهر ومواقف وخيارات، في الفلسفة والإيديولوجية والثقافة والمجتمع والتقنية، نذكر من بين هذه الأعمال، ثقافة الأذن والعين (1994)، بين بين (1996)، ميتولوجيا الواقع (2999)، بين الاتصال والانفصال (2002)، ضد الراهن (2005)، في الانفصال (2008)، الكتابة بيدين، (2009)، امتداح اللافلسفة (2010)، اﻟﭙﻭﭖ – فلسفة  (2015)، جرح الكائن  (2017)، القراءة رافعة (2019)، وآخر أعماله المنشورة  الكتابة بالقفز والوثب (2020)، وهو يواصل في هذا الكتاب تجربته في الكتابة، وقد ابتدأها سنة 1994 بنص «ثقافة الأذن والعين»، ثم نص «بين بين» سنة 1996، وتتواصل أعماله في السنوات الأخيرة بالأسلوب نفسه..
لا تُنْتِج نصوص الكتب المذكورة المقالة البحثية في قضايا الفكر الفلسفي، ولا تتجه لإعادة ترتيب معطيات المفاهيم والنظريات والأسئلة الفلسفية، كما تنشأ وتتشكل في تاريخ الفلسفة، قدر ما تتجه لالتقاط علامات خارج حدود المعارف والتخصصات بعدّة فلسفية وجهار مفاهيمي يرتبطان بتصورات فلسفية محددة. يهدف في مختلف كتيباته إلى الاكتفاء بالإشارة والتلميح قصد وضع اليد على البلبلة الفكرية الجارية في العالم. فهل نستطيع الحديث في هذه النصوص عن شطحات عابرة؟ أو عن أصوات تروم فضح المستور، وبناء المفارق؟ هل تتجه نصوصه لتعلن كشفها لواقع الأساطير والأقنعة السائدة في عالمنا؟
تلتقط كتبه قضايا متنوعة تاريخية، فكرية، إعلامية، وتمسك بظواهر تنتمي إلى تخوم فضاءات معرفية ومجتمعية متعددة، وبقدر ما تتقاطع هذه الموضوعات تلتقي وتترابط في جدلية حية، ويُفَصّل بعضها القول في البعض الآخر. ويمكن أن نشير على سبيل المثال إلى بعض العناوين التي نجدها في كثير من كتبه، مجتمع الفرجة، الوثوقية والنقد، الجد والهزل، في ذم البداهات، نقد العقل الغذائي، الحنين إلى البدايات، السؤال والجواب، اليسار واليمين، عالمنا، عالم أوهامنا إلخ. ويمكن أن نقول إن قوة نصوص كتبه تأتي أولاً من استعمالها للغة مقتصدة، تستحضر مفاهيم وتخبئ أخرى، تستحضر أسماء وتلغي أخرى، لكنها في النهاية تكتفي بالإشارة.
إن الحضور والغياب في نصوصه إشارة داخل العبارة لا أقل ولا أكثر. ويكتشف المتابع لإنتاجه أن نصوصه تتميز بطابع تكراري، إلا أن هذه الصفة لا تقلل من قيمتها، ثم إن التطابق والتشابه والتكرار يعكسان في نصوصه عملية ملتبسة ومعقدة في الواقع وفي الفكر، وقد يتحول ما يبدو شبيهاً إلى مجرد اشتباه أو شبهة تُرْفَعُ أثناء التفكير في التاريخ وفي علاقة ما يكتبه بالتاريخ.

4 –
يلجأ الكاتب إلى الصوّر وإلى التصوير، إنه يرسم لوحات، ويوقع إيقاعات تكسر وتائر صوتية، لونية، نصية جارية مثلها في ذلك مثل وتيرة الإيقاع الموسيقي التي ترتفع لتنخفض، وتنخفض لتزداد ارتفاعاً أو لتغيب مؤقتاً. ولهذا يشعر القارئ أنه رغم الأبعاد النقدية التي تتخذها هذه المحاولات من بعض القضايا الواقعية أو الفكرية أو المجتمعية، إلا أن غاية الكاتب في نظرنا تتمثل في مسعاه الكتابي وقد تحول اليوم إلى عادة جميلة، حيث العراء مَسْكَنُ الفن وفضاء الإيقاع المفتوح، إيقاع النصوص التي تُكتب وتُعَاد كتابتها باستمرار.
انتبه الزميل عبد الفتاح كيليطو في المقدمة التي أَعَدَّ لكتاب اﻟﭙﻭﭖ – فلسفة لعبد السلام بنعبد العالي (ص 10) إلى أن جهوده في الكتابة تروم رصد ومحاصرة البلاهة وقد أصبحت اليوم تقدم نفسها وبلغته في صورة فكر.. وضمن السياق نفسه، نتصوَّر إضافة إلى ما سبق، أنه اختار أن يخوض في مقالاته معارك عديدة مع نفسه، مع نمط تكوينه، ومع اللغة والأخلاق ومع المنطق السائد، مع الأحكام المسبقة ومع البداهات والبلاهات ومختلف منتوجات ما أصبح يعرف بمجتمع الفرجة، اختار أشرس المعارك، اختار الشائع والمتداول من البلاهات والحماقات في مجتمعنا وثقافتنا.. وفي غمرة سجالاته مع ما ذكرنا، تأتي مقالته مُقْنِعَة لأنها تُجابه أسئلة عويصة، وتختار أثناء عمليات المجابهة والنظر، مواقع ومواقف لا تُعَدُّ دائماً مُحَايِدَة، ولا تُعَدُّ في الوقت نفسه، غريبة عن المخاضات والتفاعلات، الجارية في محيطنا الثقافي والسياسي.
اهتم بنعبد العالي إلى جانب ما ذكرنا بدمقرطة الفلسفة، ونُدرج النصوص التي جمع بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ محمد سبيلا، النصوص المستلة من مصنفات تاريخ الفلسفة والفكر المعاصر، في الفلسفة والسياسة والتاريخ والإيديولوجيا.. نُدرج هذا العمل الذي استغرق منهما سنوات من الجهد المتواصل، وراكم كتيبات عديدة، ندرجه في باب تيسير وترسيخ قيم الفلسفة في ثقافتنا ومجتمعنا، ولا نتردد في القول بأنهما أسديا بعملهما خدمات هامة، لأجيال من الشباب المتطلِّع إلى امتلاك بعض أدوات الفلسفة والفكر الفلسفي. كما يمكن أن ندرج النصوص التي كان يواظب على ترجمتها لأعلام الفكر المعاصر في مجلة «فكر ونقد»، من عددها الأول الصادر في شهر شتنبر سنة 1997 إلى عددها الأخير الصادر في أبريل 2010 في الأفق نفسه، وقد فاق عددها مائة عدد، ندرجها في باب مزيد من توسيع مساحة الفلسفي في الثقافة المغربية والعربية.


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 14/10/2022