انعقاد القمة العربية بالجزائر:مسؤولية جسيمة في ظروف عصيبة

إن القمة العربية المنعقدة بالجزائر العاصمة لا يمكن أن تنحصر مسؤوليتها القومية والدولية عند إدانة التحديات والتهديدات الماضية والجارية وحسب، وإنما ينبغي أن تستطلع ما هو أصعب وأخطر من التحدي العاجل، القائم، وهو التهديد المستقبلي الآجل للكيانات الوطنية، القطرية العربية، في ظل الأخطبوط الإرهابي الذي بات يتطور عمقاً، ويتمدد أرضاً، ليهدد الوحدة الترابية للأقطار العربية، ويضرب في الصميم أرسخ مبادئ القانون الدولي، وإحدى المرتكزات الجوهرية لميثاقي الأمم المتحدة، و»جامعة الدول العربية»، وهو مبدأ ضمان احترام الوحدة الترابية للدول.
I- إن انتشار الآفة الإرهابية في عالمنا العربي، وفي محيطنا الإفريقي، ليلتحف اليوم لبوساً جديداً لبث آفة الانفصال الذي يسعى إلى تقويض الوحدة الترابية لبلداننا في أكثر من قطر عربي: في اليمن، في سياق الانقلاب على الشرعية الوطنية؛ وفي ليبيا، حيث تحاول الميليشيات المسلحة إحكام السيطرة على أجزاء غنية بالموارد النفطية بالبلاد؛ وفي سوريا، حيث تتنازع المجموعات الإرهابية وتتصارع على تكريس احتلالها لمناطق حيوية، في ظل الاحتلالات الأجنبية، الغربية والإقليمية؛ وفي فلسطين، حيث يتكرس ويترسخ «التقسيم» في ظل انفصال «إمارة غزة»؛ وفي لبنان، حيث يصب منطق وفعل «حزب لله» في مجرى الانفصال الزاحف.
وخلف «مستنقعات» الانفصال هذه، تقبع سياسة «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» التي تسخر كل ما تهيمن عليه من موارد الدولة، ومقدرات الشعب الإيراني الصديق، من أجل خدمة مخطط توسيع فضاء الهيمنة والنفوذ، عبر آلية الانفصال في الشرق والغرب من وطننا العربي(1)…
II – وعندما يستفيق العرب من أوهام الشعارات الرنانة التي تتستر خلفها مشاريع الانفصال الإرهابي اللعين، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة حقائق سياسية وميدانية صارخة، استغفلتنا عنها قوى الشر والخداع التي لا تُقيم وزناً لمصالح وأمن واستقرار شعوبنا الصامدة، التواقة إلى التحرر والتنمية والتقدم…
لكن «الحقيقة عنيدة»، كما يقول حكماء العالم المستنير، وأولى عمليات بث فتنة الانفصال، المدعّم بالإرهاب، انطلقت من «تندوف» سنة 1975، عندما أقدمت السلطات العسكرية بهذا البلد الجار على افتعال نزاع مُغرض حول تحرير المملكة المغربية لصحرائها من قبضة الاحتلال الأجنبي.
وكما يعلم اليوم القاصي والداني، بعد أزيد من 47 سنة على مكابدة المغرب لمتغيرات هذا النزاع المصطنع، فإن دوافع السلطات العسكرية الجزائرية للانخراط، بقوة واستمرارية، في هذا المسار الطائش، قد أضحت واضحة، وضوح الشمس في واضحة النهار.
أول هذه الدوافع، ذُو الطابع العبثي، كان منصباً على تكريس واقع ابتلاع الأراضي المغربية وترسيخه، في الجنوب-الشرقي من المملكة المغربية، وهي الأراضي التي سبق للاحتلال الفرنسي أن ضمها إلى «الجزائر الفرنسية»، في سياق تمدده العسكري نحو غرب الجزائر المحتلة.
ومن الحقائق التاريخية التي تحاول الأوليجارشية العسكرية الجزائرية طمسها، أن الرئيس الفرنسي الأسبق، الراحل شارل دوجول، لما عزم على منح الجزائر الاستقلال، عرض على بطل التحرير بالمغرب، جلالة الملك محمد الخامس تغمده لله برحمته، فتح مفاوضات حول ملف الأراضي المغربية التي ضُمت إلى الجزائر، لكن وطنية الملك محمد الخامس وشهامته أملتا عليه رفض العرض الفرنسي، دعماً لِــ»الثورة الجزائرية» وفضل تسوية ملف الحدود المغربية مع الجزائر المستقلة، وتم اتفاق مُعلن مع الراحل فرحات عباس، رئيس «الحكومة الجزائرية المؤقتة»، بتسوية هذا الملف بُعيد استقلال الجزائر.
لكن سلطات البلد الجار في عهد الاستقلال تنكرت لمقتضيات الاتفاق المبرم، ودخلت في عداء ممنهج للمغرب، على خلفية إقبار ملف النزاع الحدودي الموروث.
وللحقيقة والتاريخ، فإن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه لله، بذل قصارى جهده لتسوية المعضلة الحدودية سلمياً ودبلوماسياً في سياق إرساء علاقات من التعاون الاقتصادي الثنائي، خلال لقاءاته المتعددة مع الرئيسين الجزائريين الأسبقين، الراحلين أحمد بن بلة وهواري بومدين، رحمهما لله، لكن دون جدوى.
أما الدافع الثاني، فكان – ولا يزال – يروم إيجاد ممر سالك نحو المحيط الأطلسي لتصدير معدن الحديد والنفط والغاز بكلفة أقل بكثير مما هو عليه الحال إلى يومنا الراهن.
ولهذا الغرض شكل وهمُ إقامة «دويلة صحراوية» بين المغرب شمالاً وموريتانيا جنوباً، لا تتعدى ساكنتها ثلاثين ألف نسمة، تم احتجازها في مخيمات القمع والبطش والسخرة بـــ»تندوف»، مخططاً فاشلاً بغرض التمدد نحو المحيط الأطلسي (1976).
كما تم تشكيل مجموعة ميليشياتية، إرهابية-«انفصالية»، البوليساريو، التي تضم صفوفها %45 من الأطفال المجندين لا تتجاوز أعمارهم 12-15 سنة في انتهاك صارخ لِـ «الاتفاقية الأممية» حول «حقوق الطفل».
ولطمس الحقائق الصارخة حول الهوية الإرهابية لِـ «البوليساريو»، ذات الطابع التمثيلي الصوري لِــ»جمهورية صحراوية» وهمية – وهما آلتان دعائيتان مسخرتان في خدمة المشروع الانفصالي – دأبت الأوليجارشية العسكرية الجزائرية على منع المندوبية السامية لشؤون اللاجئين من معاينة الوضع الإنساني المزري داخل مربع الاحتجاز بِــ «تندوف»، والقيام بإحصاء النسمة المكدسة في شروط إنسانية لا تُطاق.
ومنذ ثلاث سنوات أصدر «الاتحاد الأوروبي» تقريراً مُديناً ساحقاً حول تلاعب ميليشيات البوليساريو الإرهابية بالمعونات الغذائية التي يقدمها «الاتحاد الأوروبي»، سنوياً لإغاثة الساكنة المحتجزة بِــ»تندوف»، وذلك بتواطؤ مع ضباط حراسة المخيمات الجزائريين، حيث يُعاد تسويقها والاتجار بها…
أما الدافع الثالث فيتجلى في حالة هوس الاستفراد بالزعامة الجيو-سياسية، التي تسكن الأوليجارشية العسكرية الجزائرية، منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين.
وقد هيمن هذا الهوس على سياسة الأوليجارشية العسكرية، وأفضى في نهاية المطاف إلى شل «اتحاد المغرب العربي»، والزج به في وضع متفرد مؤسف، يجعل منه المؤسسة الإقليمية الوحيدة في العالم التي عجزت عن تحقيق اندماج إقليمي فاعل ومنتج.
كما قوض هذا الهوس مفهوم الشراكة، ومدلول التعاون، ومطمح التضامن، بين أطراف المنطقة المغاربية.
وقد تضافرت هذه الدوافع المزمنة الثلاثة لتُرسخ عداوة مكينة، في فكر وفعل الأولجارشية العسكرية الجزائرية، للمملكة المغربية، الناهضة، وذلك بالرغم من سياسة اليد الممدودة ومبادرات حسن الجوار اللتين لم ينفك المغرب متمسكاً بهما، حفاظاً على حظوظ المستقبل، وتأميناً لمقومات الأمن والاستقرار في منطقة المغرب الكبير.
وقد عبر جلالة الملك محمد السادس عن هذا التوجه الرشيد في أكثر من مناسبة، كان أخيرها، وليس آخرها، ما جاء في خطاب العرش المجيد (30 يوليوز 2022) حينما قال جلالته:
«(…) أشدد مرة أخرى، بأن الحدود التي تفرق بين الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، لن تكون أبداً حدوداً تُغلق أجواء التواصل والتفاهم بينهما، بل نريد أن تكون جسوراً، تحمل بين يديها مستقبل المغرب والجزائر، وأن نعطي المثال للشعوب المغاربية الأخرى».
وأضاف جلالته:
«بهذه المناسبة أهيب بالمغاربة لمواصلة التحلي بقيم الأخوة والتضامن وحسن الجوار التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين، الذين نؤكد لهم بأنهم سيجدون دائماً المغرب والمغاربة إلى جانبهم في كل الظروف والأحوال»، انتهى قول جلالة الملك.
III- واليوم وقد تكشفت هذه الحقائق العنيدة الناصعة، فإن الاعتراف الدولي والأممي بشرعية مغربية الصحراء، ومشروعية الموقف من النزاع المفتعل حولها، ابتداءً من قرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمها القرار الأخير (2602/أكتوبر 2021)، وتواصلاً بِــ»شلالات» الاعترافات الدولية في إفريقيا وآسيا وأمريكا بها، وفتح أكثر من ثلاثين قنصلية، إفريقية ودولية، في عاصمتي الأقاليم الصحراوية المغربية: «العيون» و«الداخلة»، ليشكل إعلاناً مجلجلاً بدحر وإقبار مؤامرة الانفصال على هذا البلد الأمين، القوي بوحدته الوطنية، المتماسك في جبهته السياسية خلف جلالة الملك محمد السادس، والسعيد بمؤسساته الديمقراطية، وتنميته الاجتماعية، ونهضته الصناعية وإقلاعه الاقتصادي…
IV- أما خارطة طريق تسوية النزاع المصطنع، بكيفية لا رجعة فيها، فتقوم على قاعدة المبادئ الأساسية التالية، التي يُجمع عليها المجتمع الدولي:
أولها، أن التسوية النهائية للنزاع لا يمكن أن تنطلق إلا على أساس حل سياسي، تفاوضي، توافقي، دائم وشامل، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.
ثانيها، أن مرتكز الحل السياسي المقرر يقوم على مقترح «الحكم الذاتي» الذي تقدم به المغرب سنة 2007، في إطار السيادة المغربية على أقاليمنا الصحراوية الجنوبية، موضوع النزاع المفتعل.
وقد تم توصيف هذا المقترح الجدي، الواقعي الجريء من قبل المجتمعين: الأممي والدولي بِــ «الواقعي والجدي، وذي المصداقية»؛
ثالثها، أن الأمم المتحدة هي الراعي لمسلسل الحل السياسي دون غيرها، لما تتمتع به من خبرة، ومسؤولية ومصداقية.
رابعها، أن عودة الأطراف المعنية بدرجة أولى: المغرب والجزائر، وبدرجة أخرى البوليساريو وموريتانيا، إلى طاولة المفاوضات بمسؤولية وجدية وحسن نية، ليشكل السبيل الأوحد لطي ملف النزاع المصطنع بكيفية لا رجعة فيها.
وغني عن الإشارة أن دعم القمة العربية و«جامعة الدول العربية» لجهود المغرب في إقبار مخطط الانفصال الإرهابي بالمنطقة المغاربية، إنما يندرج، بكل تأكيد، في سياق ما هو مطلوب من «جامعة الدول العربية» أن تواجهه، بحزم وصرامة من مخططات انفصالية، باتت تهدد وحدة الأقطار القومية، وتزعزع الأمن والاستقرار في ربوع وطننا العربي…
إن أنظار الشعوب العربية لتشرئب اليوم، بترقب وتطلع، إلى ما ستتمخض عنه هذه القمة العربية، من مواقف وقرارات في مستوى التحديات القائمة التي باتت تتهدد الأقطار العربية في ذات أمنها واستقرارها، وفي ذات سلامة كياناتها ووحدتها. إن ما هو مطلوب أن تُشكل الدورة 31 للقمم العربية (2022) حدث تحول حاسم في مسار وأسلوب العمل العربي المشترك، تكون فيه الشعارات المرفوعة تعبيراً عن أفعال ملموسة. وفي صدارة الأفعال الملموسة، التصدي الصارم لمحاولات بث فتنة الانفصالات-الإرهابية، في أكثر من مكان من عالمنا العربي، وإعادة تأسيس تضامن عربي مستجد، قوامه توطيد الأمن والاستقرار، وإرساء شراكات اقتصادية-تنموية، بيئية، في سياق استراتيجية الاندماجات الجهوية العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه.


الكاتب : السفير محمد الاخصاصي

  

بتاريخ : 28/10/2022