صراع الإنسان مع جرحه .. قراءة تأويلية في نص “جرح في عضو رجل”

“إن ما يمكن التفكير فيه ينبغي أن يكون متخيلا”   نيتشه

“إن كل ما حققته الانسانية يعود بالفضل إلى أعضاء الانسان السفلى” نيتشه

 

  1. عتبة العنوان:

يستوقفنا في هذا النص الإبداعي الموسوم كذلك بالتخييلي، عنوانه باعتبار العنوان هنا عتبة أولى في هذه القراءة التأويلية لما يريد أن يقوله المؤلف في دلالة المعنى الذي يحيل إليه هذا النص، على أساس أن المؤلف هنا هو قائله ومالك زمام كلامه، أو على الأقل حامل خبايا  تأويلاته، ولسنا نحن في هذه الإحالة التأويلية إلا متلقيه، في محمول معناه الذي قد يتعمده المؤلف، وهكذا سنتدرج في قراءة عتباته، وتتبعها بما يلزم من إحالات تأويلية، قد يؤدي بنا إلى استكمال هذا المعنى، أو على الأقل الاقتراب منه بما يسعفنا عليه هذا التدرج والتتبع. وهكذا سنعمل على تأمل أولى معاني دلالة هذه العتبة من خلال عتبة عنوانه ونعتمد معنى “الجرح”  في دلالة تعريفه وموقعته في عضو رجل أي ما يدل عليه أو يكتسبه تعريف الجرح في ما يشبه الجملة في تركيبه اللغوي بالإضافة : “جرح في عضو رجل ” حيث يستدرجنا هذا التركيب اللغوي إلى  التساؤل عن أي عضو للرجل في هذا الجرح أو القريب من الجرح والقابل للاجتراح ؟ حيث تكاد الإجابة تنحصر في بعدها الديني والعقدي لمعنى الختان، رغم أن هذا الجرح لم يثبت وقوعه أو إحداثه في أي نص من النصوص المقدسة، بخلاف ما قد تشير إليه لفظة وعد الله والمطالبة به والايفاء به كما تدعو إلى ذلك الديانة اليهودية في وعد ابراهيم وأبنائه والوفاء به في هذه الديانة[2]، وفي ما يعرف بالضبط بوعد الله؟ لكن لنا أن نتساءل عن انفتاحات هذا الجرح في عضو الرجل في متخيل هذا النص، والذي نحن بصدد قراءته قراءة تأويلية كما أسلفنا، وكأن هذا النص التخييلي يحمل دلالة خاصة لمعنيي “الجرح” و”العضو”، ولنقل مع ذلك في تساؤلنا هذا ما دلالة ارتباط الجرح بالعضو؟ و ما دلالة ارتباط العضو بالرجل؟ وكأن هذا الارتباط له ارتباط خاص بتعريف العضو في علاقته بالرجل إلى حد أنه كاد الافصاح عنه وذكره باسمه، في ما يقصده في تعريفه اللغوي، حسب ما أشرنا إليه في مستهل قراءة هذه العتبة وإحالاتها التي شكلت في تداعيات هذه القراءة مجمل معطيات النص. وعندما نعود لتعريف العضو، نجد أنه عضو رجل وكما نرى في تعريفه اللغوي، هو محمول على العضو، العضو هنا هو عضو رجل وتأكيدنا هذا يأتي وكأن لفظة رجل المضاف إليه في تركيبه اللغوي هنا تعني ما تعنيه في سياق هذا التخييل، وكأن القصد من هذا البناء اللغوي في منطوق التعريف الملمح إليه يحيلنا في هذه العنونة إلى معنى المعتقد الديني الإبراهيمي[3] ومحموله الذي يدل في ما يدل عليه حدوث الجرح ووقوعه في هذا الحدوث مما يدل على أن صاحبه واقع في دائرة الايمان أو أنه متلبس بهذه الحالة الايمانية والاعتقاد بها مما يجعل هذه التساؤلات في هذه العتبة توحي لنا  بالعكس، أو محاولة التشكيك فيها والخروج من دائرة الإيمان في ما كان يتم الاعتقاد فيه وبه سابقا، لأننا لا نعثر على ضرورة حدوث مثل هذا الجرح في ما تدعو إليه الطقوس والشعائر الاعتقتادية في الديانات الابراهيمية، اللهم ما تم تبرير القيام به إيفاء بالوعد الذي قطعه ابراهيم على نفسه وعلى بنيه من بعده،  لكن رغم ذلك يبقى التساؤل قائما حول ضرورة وقوع الجرح وإلزاميته أو عدمه وهنا تكمن  مشكلة صراع الرجل  مع جرحه، إن لم نقل مع معتقده، ووجود الجرح هو دليل على  وقوع هذا الصراع، علما بأن وقوع الجرح في عضو رجل كما هو وارد في عتبة العنوان الموسوم به هذا النص التخييلي، يحاول أن يجعل من دلالة هذه المعطيات وجوب  سردها وحمل محكيها بما هي عليه في المنطوق السردي لمعطيات النص، وكأن الجرح يمثل هنا دلالة الحدث الدرامي  باعتباره هو لب الصراع الحقيقي في وجود هذه الحالة من التوتر بين الانسان ومعتقده والمتمثل هنا في جرح عضوه أو كما هو وارد في هذا النص على لسان حكمة الضرير “تريزياس”.

إن مأساة الانسان تتوالد مع معتقده  وفي هذه البنية السردية التي جاء عليها النص يتضح لنا ذلك أكثر، أي أن الجرح هو الحدث المركزي إن لم نقل إنه الحدث الرئيسي ومنشأ هذا الحدث، وتخصيص الجرح كحدث درامي يجعل لمعنى الإضافة اللغوية في تعريف الجرح وحامله معنى أكثر عمقا وإحالة على ما سيأتي من عوالم هذا النص في أكوانه الذي جاء منسوجا في بنائه اللغوي، ومتصلا بما يريد أن يحمله إلينا من معنى مخصوص به، وكأن البناء اللغوي هذا هو الشفرة المراد التنويه بها في هذه الدلالة في محمول معنى الجرح وعلاقتنا نحن بالعضو، وبالضبط عضو رجل وليس العكس. ومرة أخرى نتساءل هل عضو الرجل هذا هو المخصوص بهذا الجرح حيث لا التباس في المعنى لو تعلق الأمر بعضو امرأة مثلا؟  أم أن الأمر هنا سيان في حالة الجرح ومعناه![4] لكن لماذا تم التركيز على تعريف العضو هنا بإضافته للرجل؟ مما يؤكد هذا التخصيص الذي يؤكد انفتاح هذا النص على معنى العتبة كما نعرف في مثل هذه التحاليل اللغوية وبنياتها السردية، بل إن ما وراءه لدلالة اكثر انفتاحا على منطوق عوالم وأكوان أخرى في عمق ما تؤدي إليه إحالات هذه التحاليل. فماذا يتبقى لنا من تساؤلات في محمول هذه العتبة؟ أليس هناك معنى آخر في دلالة طبيعة انكتابية هذا النص ذاته ليس اعتباره نصا تخييليا، بقدر ما نتساءل عن أجناسيته المركبة، والتي هي كذلك في ازدواجيتها أو بالأحرى ثنائية أجناسيته التي تراوح في تزاوجها هذا بين السرد الروائي وانبثاقه في منعطف السرد المسرحي مثلما نجد ذلك عند الرواة والشعراء الحكائين في المسرح[5] ، مما يقرب مثل هذا النموذج في الكتابة من المحكي الشفاهي حيث يمكننا القول في هذه العتبة المتفرعة عن العتبة الاولى لهذا النص، بالنص المنكتب من الشفاهية، وكأن المكتوب هنا هو نص سبق قوله وتناوله شفاهيا، أي أن مركزيته تتحدد في هذا السبق الشفاهي، أو أن منطوق شفاهيته قد سبقت كتابته انكتابا، واستدراجه هنا حسب هذا المنطوق ليصبح نصا مكتوبا ومنكتبا.  إن طبيعة هذه الثنائية الاجناسية تحملنا على معنى مستحدث في الأدب إن لم نقل توليد معنى ثالث  أشر عليه توفيق الحكيم وعرفه  بالمسراوية وهو ما صار يعرف به هذا الجنس في المصطلح المستحدث هذا والمنحوت أصلا من جنس الرواية والمسرح والغلبة في هذا النعت كما هو واضح في الكتابة أكثر، ستكون لجنس المسرح على الرواية أي أن جنس الكتابة المسرحية، في هذه الكتابة أو بالأصح في إعادة كتابته في هذا النص التخييلي واضحة وجلية. فماذا تعني طبيعة هذه الكتابة؟ هل تعود هذه الطبيعة الكتابية أو الاجناسية في تداخلها المزدوج للعمق الذي تحيلنا عليه عملية التخييل والذي يكاد يؤشر في معناه هذا لما تتضمنه الإحالة على عوالمه التخييلية لمسرح الالتباس عند المؤلفين الدراميين في المسرح الطليعي والمنعوت كذلك بمسرح العبث أو اللامعقول على حد تعبير الناقد “مارتن ايسلان” [6]، ونشير هنا وبالتأكيد الذي سنوضحه في قراءة عتبة صورة الغلاف، ونقصد الإشارة إلى العلاقة المفترضة بين هذا النص المتخيل و النص الدرامي لـ”صموئيل بيكيت” الموسوم بعنوان “في انتظار غودو” الذي تنطوي معطياته على نفس المعطيات الواردة في مكونات هذا النص، الشيء الذي يجعله نصا محاورا للنص الدرامي ” في انتظار غودو ”  إن لم يكن كذلك فهو على الأقل يعتبر نصا محايثا لمعطياته إلى حد أن نص “جرح في عضو رجل” يدخل معه في جدال إلى حد أنه يكاد يكون نقيضا له، مما يجعله من نصوص النقائض كما هو معروف في بعض الدراسات الأدبية[7]، كما أن الأصل في كتابة النص الدرامي “في انتظار غودو” أنه  كتب أول مرة من قبل “صاموئيل بيكيت” كنص سردي بنفس روائي إلا أن بعض أصدقاء بيكيت، وبعد اطلاعهم عليه اقترحوا عليه أن يحوله إلى نص درامي مما يجعل مسرحته أيسر وهو ما تم فعلا [8] من قبل بيكيت نفسه، ولعل هذه الحالة تكاد تتكرر في هذا النص التخييلي الذي نحن بصدد قراءته هنا.

إن نقاط الالتقاء هاته بين نصي “جرح في عضو رجل ” ونص “في انتظار غودو” لا تعني أنها نقاط تطابق، بل إنها منطلقات تخييلية مفارقة، ومفارقتهما هاته قائمة على التأويل الذي يعني تعميق الفهم ،  الشيء الذي يعني هنا أن هذا التأويل الذي نقوم به في هذه القراءة  قائم على الفهم المعكوس أو التأويل المرتد خاصة إذا علمنا أن ما يصدر عنه نص بيكيت قائم على قناعة فلسفية تراوح بين التشاؤم والتمرد من منطلق قناعة فكرية تنبذ طبيعة الحياة، كما نحياها وبما هي عليه من تشاؤم وعذاب حسب ما تذهب إليه رواسب قناعة لا جدوى هذه الحياة والعيش فيها بل وتحمل تبعات الوجود هاته،  واعتبار هذه الحياة مجرد خطيئة أو بالأحرى هي استمرار للخطيئة الأولى التي اقترفها الإنسان، وأن هذا الإنسان غير مرغوب فيه في هذه الحياة بخلاف ما نجد عليه نص الجرح الذي يقوم على أساس نبذ ورفض تحقيق الوعد، الذي عهد الله به الإنسان، إذا ما تم بالفعل هذا الوعد ومن خلال إحداث جرح في عضوه، باعتبار أن الإنسان المقصود هنا هو إنسان بصفته الذكورية أي أنه رجل لكونه بهذه الصفة يمتلك عضوا، بحيث يكون جرح العضو بمثابة القربان الذي يجب الوفاء به والإخلاص له،  ولا يتم ذلك إلا إذا قام أبناء إبراهيم بهذا الجرح في ذواتهم بتحقيق العهد الموعودين به، لكن هذا لن يتحقق مادام أن الشجرة التي كانت مورقة في عهدهم قد خرفت وتساقطت أوراقها مما يلزم الانتظار لتورق مرة أخرى، وهذا ما تقوم به شخصيات بيكيت في نصه المعروف “في انتظار غودو”، لكن الانتظار يطول، وتطول معه مرارات الحياة إلى حد السأم منها، غير أن الانتظار في طول مدته لم يعد انتظارا مرتبطا بعودة أوراق الشجرة بل هو انتظار لمن يحدث عودة هذه الأوراق للشجرة والتي أصبحت هي كذلك موقعا للانتظار الممل، حيث لا أوراق عادت للشجرة ولا مجيء لمن سيعيد لها هذه الاوراق.

الانتظار هنا ليس زمنا ضائعا أو ميتا كما يدعي “استراكون وفلادمير” الشخصيتان الرئيسيتان في مسرحية بيكيت، رغم أن واقع هذا الانتظار لا يحدث فيه أي شيء مما كان يتوقعانه، وكما أن واقع الانتظار هذا غير محدد زمانيا. فلا هو في ظلمة الليل ولا في  وضوح شمس النهار كما هو حال زمان طرق باب أحمد في نصه المتخيل، والذي استفاق على هذا الطرق دون انتظار ليوضع هنا في حالة انتظار أو أنه كان فيه فنسيه، كما أن حالة الانتظار هاته لا تعني أننا لا في حلم أو يقظة، واليقظة هنا تكاد تكون هي الأقرب، إن لم نقل إنها زمانيا تعني ليلة حلم يقظ أو حلم ليلة يقظة أو في ما يشبه اليقظة في تداعيات اللاوعي أو ما يمكن  نعته باللغة المنسية لأن ما يتم استرجاعه في الحلم ليس إلا دلالة على معنى هذه اللغة التي هي  سمة من سمات اللاوعي، مما يكاد ينطبق على معنى التخييل ، المنعوت به هذا النص الذي يدل على أن المؤلف احمد امل يدفعنا للإحساس بأن ما يسرده علينا في هذه المسراوية ليس إلا من تداعيات حلمه، وما يشعر فيه بأنه فعلا حلم اليقظة أو العكس، خاصة إذا عرفنا أن المؤلف  في نصه التخييلي “جرح في عضو رجل” يختار له توثيقا زمانيا لا هو بالليل ولا هو بالصباح وتحديدا أنه يوقف هذا الزمان في توقيت يحدده هو نفسه بالساعة الثانية بعد منتصف الليل، أي أنه زمان مفارق بين الحلم والواقع وكأن هذا الزمان المحدد هكذا يعبر عن فترة  زمانية رمادية لا يتم التأكد فيها إلا من خلال هذا الالتباس الذي يفرض زمانية وقوعه وكأنه زمان غير محسوب على الحياة ولا حتى على الممات، أي أنه البين بين، أي أنه برزخ هذه الحياة التي نحياها رغما عنا، زمان فيه الكثير من السعي للهروب والترحال أكثر منه زمان للمكوث والاستقرار أي أنه زمان الغياب الذي يفرض نفسه كمعنى في استحالة الحضور والوجود، مما يعني في هذا التوصيف تمديد زمان الانتظار واستطالته، حيث لا حياة ولا موت وكأن المتخيل هنا وفي موقع تخيله هذا ينبني في إعادة حكيه و استرجاعاته بما يعني هنا أن هذا المحكي هو إعادة لسرد وقائع هذا المتخيل، حيث “يمثل المتخيل كما يقول نيتشه التفكير في الواقع”[9]، مادام المتخيل في عرفه هذا يبني الواقع من المتخيلات، وفي تحديد آخر نجد أن التخييل  عرف حضورا لافتا في مختلف المجالات الإبداعية مما يخفف هيمنة الواقع والواقعية باعتبار أصله الذي هو الخيال عند أرسطو، قرين مصطلح آخر ورديف هو مصطلح المحاكاة[10]، كما أن زمانية هذا التخييل وبهذا الشكل لا تعني إلا اللازمان في رواية ما وقع ، أي أنه دلالة أخرى للرفض والتعيين الزماني مادام ما نتخيله يجري وفق ما يسعف لا وعينا الجمعي على تخيل أحداثه التي هي أحداث ، كما أسلفنا، وليدة تداعيات ما تبقى لنا في هذه اللغة التي نعتناها باللغة المنسية، والتي هي في محكي هذا النص وكأنها في نسيانها هذا تجاوزت شفاهيتها في ما آلت إليه في انكتابها كما رأينا، وتأكيد استمرارية هذا الزمان المتوقف رغما عنه في حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهذا العود المتكرر في استطالة الزمان الموقوف هو ما يتكرر في الفصل الثاني كما هو الشأن في الفصل الأول مما يؤكد تكرار العدم، تكرار  السكون أي أن حدوث الانتظار في  النص المسرحي “في انتظار غودو”، الذي يوقع حدثه الدرامي هذا في عدم حدوث  أي شيء جديد. وتبعا لاستنتاجنا هذا في سيادة اللغة المنسية، نجد كذلك أن الشخصية الرئيسية والبطل “في انتظار غودو” وكما في “جرح في عضو رجل ”  هو الكلام مادام الكلام في هذه اللغة المنسية والتي أشرنا الى بعض معطياتها بالكلام  الذي هو نفسه ما يمثل الحدث  الرئيسي في مسرح بيكيت عموما وفي النص الدرامي “في انتظار غودو” بالخصوص اذ لا شيء يحدث إلا الكلام، ومعنى الكلام هنا يؤخذ من الطبيعة التي ينطق بها في شفاهيته وهذه الشفاهية هي الأصل في انكتاب النص المسراوي “جرح في عضو رجل” لأمل أحمد، كما أن الحدث بهذه الصفة هو السياق،  الذي يتبع مجراه، وسياق هذا المجرى هو الذي يجعل الانتظار يطول، وبذلك يصبح الالتباس موقفا حاسما في النصين معا (نص في انتظار غودو ونص “جرح في عضو رجل” دون أن ننسى أن اللغة هي في الأصل إنسانية مما يعني في الوقت نفسه ان وجود الانسان في العالم هو وجود لغوي. ولهذا فهو ينسى كما تنسى لغته.

ومن هنا نفهم لماذا يعتمد “بيكيت ” في جل نصوصه الدرامية على كثرة الكلام إلى الحد الذي يئس معه من مجاراة هذه المقولة ليستعيض عنها مؤخرا بالصمت بدل هذه الثرثرة الكلامية التي لم يحقق معها وجوده أو قناعته بهذا الوجود خارج نطاق عدم إيمانه بهذا الاعتبار لوجوده الإنساني في هذا العالم مادام اعتقاده هو مبني أساسا على أن الانسان لايزال يعيش على الخطيئة، ولهذا كان هذا العذاب الذي عاشه بل إنه دفعه لعدم الاستمرار على قناعته الدينية التي نشأ أو تربى في كنفها كما حرصت عائلته على ذلك في تلقينه هذه التربية الأولى في طفولته.

  1. عتبة صورة الغلاف:

إن ما استوقفنا في العتبة الأولى لهذا النص، هي عتبة العنوان التي تؤشر كما رأينا على مداخل مهمة ودالة على ما يحمله نص “جرح في عضو رجل “وكأن هذه العتبة تمثل مجمل معطيات هذا النص والإحالة عليها، والعتبة الثانية في هذا النص تتمثل في الصورة المتوسطة للدفة الأولى من غلاف الكتاب الذي يحتويه، والتي تكاد تفصح في دلالتها عن كيفية انبناء هذا النص ومنطوقه الفعلي في هذا الانبناء و ما يدل على دواعي سرد محكيه. إن لم نقل انكتاب هذا المحكي من أصله الشفاهي، ولعل في هذا سر ما تحمله دلالة صورة الغلاف الأمامية وتأكيدها في إحالته على ما يرصع هذا المحكي ويجعله أكثر وضوحا في هذا الانبناء السردي خاصة وأننا في هذه القراءة نسعى لتأويل منطوقه عندما كنا بصدد تحليل أسباب ودواعي جعله أكثر تعبيرا على محمول معانيه وكيفية تأثيثها بما تستدعيه عملية الانبناء هاته من الإحالات سواء في دواخله أو ما يمثل خارجه النصي أي ما يجعل فعلا تخيلاته أكثر قابلية للتفكير كما أسلفنا القول عندما كنا بصدد تحليل أسباب ودواعي معنى صفة التخييل في هذا النص. وهكذا نتساءل عن مدلول هذه الصورة وتعبيراتها في منطوق هذا النص لأنها ليست صورة تخييلية بقدرما هي مجمل ما أمكن لمؤلف نص “جرح في عضو رجل” أن يقوله لنا  ويفصح عنه في علاقته بالنص الدرامي “في انتظار غودو ” و كأنه نظيره المتمثل في هذا النص الحامل للعنونة التي كانت محمولة في تحليلنا لهذه العنونة، وما قصدناه بالعتبة الأولى، بل إننا اعتبرناها عتبة النص الاولى فما هي دلالة هذه الصورة؟ وما هو التوصيف الذي يعبر عنها في دلالة هذه القراءة التأويلية التي نحن بصددها؟

في تعريف الصورة في القراءات السيميائية نجد أنها تعني لغة الشكل والتمثال وتعني أيضا الصيغة والهيئة، أما الصورة اصطلاحا فترد بمعان متعددة وفقا للسياق… كما يمكن أن تكون الصورة الشيء ونقيضه[11] ومن هذا التعريف نجد أن الصورة الموظفة في الغلاف الأمامي لكتاب هذا النص تعتبر تعبيرا عن نصف وجه صاحب نص “جرح في عضو رجل ” أحمد أمل، ونقيضه المتمثل في نصف وجه مؤلف نص “في انتظار غودو” بيكيت، وكأن نصفي الوجهين يمتلكان ما يشكل صيغة الوجه المزدوج في هذه الصورة وهو ما يعني محمول هذين النصيين ولذلك قلنا إن هذه الصورة تعبر تعبيرا أكثر ايجازا  في دلالة معناها… في النص ونظيره.

وهو ما تمثله صورة الغلاف في هذا النص المؤلف و نؤكد هنا على معنى “مؤلف” الذي يعني التأليف والتآلف المندمج في منطوق الصورة التي هي مقام قراءتنا في هذا التأويل أي أن مكونات هاته الصورة والتي هي وجه مزدوج يتوسط الغلاف الامامي في لونه الأسود والصورة في حقيقتها تركيب مزجي كما نعتناها بمعنى التأليف والتألف: تركيب وجه الصورة المحمول هنا والمكون من نصفي وجهين لأعطائنا هذا المعنى المركب المزجي  كما سبق ورأينا في المركب اللغوي للعنوان أي أن التركيب هو المنطق السائد والمتحكم في منطوق هذا النص التخييلي الذي زاده تشكيله الثنائي في ازدواجية اجناسيته وفي مراوحته التركيبية بين شفاهية الحكي ومحكي الكتابة أو الانكتابية وهكذا نتعرف في هذا التركيب المؤطر لصورة وجه الغلاف أنه وجه يمثل في شقه الأيمن نصف وجه المؤلف “أحمد أمل” موقعه بهذه الصفة وفي شقه الايسر نصف وجه “بيكيت” وكأننا بمعنى اخر أمام محمول الكتاب ومنطوقه الفعلي الذي هو تركيب بين نصيين: نص “في انتظار غودو” ونص “جرح في عضو رجل ” والحصيلة التي نحصلها هي وجه مزودج التركيب في مخرج صورة غلاف كتاب في “جرح في عضو رجل” الذي يخفي في عنونته هاته نص “في انتظار غودو” والذي سيصبح هو مفعول النص الأول ودلالة دواعي انكتابه أو بالأصح متخيله مادام المتخيل هنا هو المقصود بالتفكير على حد رأي نيتشه كما سبقت الإشارة إلى ذلك لكن ما سر حضور نيتشه هنا أليس هذا الحضور هو حضور عمق هذا النص وتداعياته في هذا المركب النصي التخييلي ولسنا نحن من استحضر نعت التخييل بل مؤلفه الذي نعته بالتخييل؟ إن النعت هدا موجود في محمول الغلاف الذي نحن بصدد استنطاقه في هده القراءة التأويلية من خلال قراءة التخييل الأيقوني لصورة غلاف الكتاب.

ونقصد بالكتاب هنا النص التخييلي “جرح في عضو رجل” أو غلافه الذي يمثل عتبة ثانية في هذه القراءة التأويلية كما أسلفنا القول في ذلك وأول استنتاج نستخلصه من هذا التحليل هو أن نص “جرح في عضو رجل” ينبني على قانون هذه الثنائية: ثنائية وجه الغلاف وثنائية المزواجة السردية سواء دراميا أو روائيا في كتابة هذا النص وانمحاء شفاهيته في هذه الكتابة التي نسميها نصا في طي كتاب بإضافة ثنائية التخييل القائم على وهم  الواقع أو ما نعتناه بالتباس اليقظة والحلم أو الوعي واللاوعي والذي وجدنا  تعبيره أكثر فصاحة في اللغة المنسية والتي هي عند ايريك فروم لا تعني إلا اللاوعي الجمعي، و لما لا تكون الصورة المحمولة في الغلاف، هي عنوان النص المتخيل والمعبر عنه في هذا التخييل الذي ليس إلا تخييلا تشكيليا له معنى  في هدا المضمون مما يجعله هو نفسه مضمونا أو محتوى، إن لم نقل لا مضمون أخر يزيحه عما يدل عليه منطوق الصورة التي ليست أيقونة تزينية بقدر ما هي تعبير يحمل دلالته فيما يشير إليه مضمون النص ومحتواه ولو بشكل ملتبس، خاصة إذا علمنا أن دلالة الصورة في شقها الأيسر أي نصف وجه صورة بيكيت تعبر عن دلالة هذا الالتباس الذي تعنيه مضامين المسرح الطليعي حتى لا نقول مسرح العبث أو اللامعقول مما يدل على أن العبث هو هذا الالتباس الموارب في صيغة الواقع المعيش والمنتهك بهذه السخرية والهزء في التعبير عن هذه الحياة التي هي حياة اللايقين والشك المتمرد عن حقيقة ما يعيشه الإنسان، وهنا كذلك ثنائية أخرى تتمثل في اللايقين القائم على تباين  يقينه فيما تعيشه وكأنها ثنائية الحياة المعيشة رغما عنا في حضور زوالها وكأنه زوال لمن يعيشونه في واقع هذا الحضور المؤشر فيه  كما رأينا على حضور الخطيئة الأولى واستمرارها معنا في هدا الحضور المفعم بمرارة وجود جرحنا في هذا العضو الذي نحن نصفه بصفة رجل. كما  نحن عليه أو كما يريده تركيبنا في هذا الجسد، وفكرة الجسد هنا هي العمق الذي يريده “نيتشه” الذي تساءلنا عن معنى ذكره هنا.

إذن، فإن الخلاصة المؤكدة في عتبة الصورة هي نفسها ما تمت قراءته في تأويل عتبة العنوان، أي أننا نعني تلك الازدواجية أو الثنائية المركبة في هذا النص وكأنه نص يستدعي نظيره أو بمعنى آخر يستدعي وجهه الثاني، إن لم نقل عمقه في تداعي معنى هذا السرد تمثلا بتقنية إنكتابه أصلا من حالته الشفاهية إلى حالته الكتابية أو ما نعتناه بالانكتابية،  وها هي الآن الصورة تعيد تأكيد هذه الثنائية حتى لا نقول الازدواجية مادام أن لكل نص من هذين النصين منطقه الخاص به والمتحكم في بنائه ونسج أحداثه التي هي نفسها أحداث النص الأولـ ولكن بسؤال حجابي متواتر في حواريته المتسائلة عن معنى الوجود والحضور  في هذه الحياة التي أصبحت لا تحتمل جراء تبعات الخطيئة الأولى، والتي تبقى في الأخير  أحداثا لا تعيد إلا تركيب كلمات منطوقها وكأنها تقال في هذا الكلام للمرة الأولى. فماذا تحمل باقي العتبات المعاد صياغتها في هذا النص لتؤلف نصا نظيرا أو ما يمكن أن يحتمل أن يكونه في وجود مركبه النقيض هذا ومحاوره في هذا الجدل الحجاجي.  وهكذا ننفتح في هذا العود على قراءة عتبة الحلم أو بمعنى أكثر عمقا عتبة اللاواقع، بما يعني في هذا النفي للواقع مما نذهب فيه إلى اعتبار الحلم معاودة لزمان الالتباس والنفي، الذي لا يدل على أي شيء لأن اللاشيء هذا  أكثر واقعية من الشيء نفسه[12] كما يقول بول شاوول في مقدمته لمسرحية “في انتظار غودو” يظهر في ما بعد أن تفرد هذا الشعب يجب أن يكون في كونه ملة عهد مع الله، عليها أن تكون من منظور طبيعي ملة الختان…

كما يقول في موقع آخر من هذا الكتاب ص32: اعتبر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بصفته اسماعيليا منحدرا من نسل إبراهيم مثل إسماعيل نفسه وبهذا الصفة اعتبر أنه قائم في العهد (عهد الختان) الرسمي مع الله …

  1. عتبة الحلم:

أي أنه إعادة وبصيغة ضمير المتكلم الذي هو وراء هذا الحلم تحت المسمى أحمد كما  هو وارد في نصه الملتبس هو الآخر في واقعه هذا مع هذا الحلم. فماذا تحمل عتبة هذا الحلم؟ هل تحمل هذه العتبة معنى غير معنى اللاوقع؟  وكأن معنى الحلم يأتينا في هذه العتبة بمعنى النفي المؤكد  للاواقعيته، أي أنه اللاشيء المكرور في إعادته في حكي النقيض،  الذي يتكلم به أحمد في محكيه هذا دخولا في الجدل والحوار مع سابقه إلى حد النقيض المفروض عليه هنا من جراء ألم الجرح في عضوه. ورغم أن الألم المحدث قد تم فعلا في زمان آخر غير زماننا هذا،  لكنه ورغم ذلك  فإنه كان زمانا معلوما في الأصل بالفرح المغمور بنشوة الولادة والانتماء للهوية الأصل[13]. وكان قد تم التأشير عليه بزمان الدخول في العهد والايفاء به في هذا الانتماء وهذا ما يعتبر دينا يلزم الإيفاء والإعلان فيه بالوفاء بالعهد والدخول في نطاق الولاء له علما بأن لحظة الحلم هاته هي من لحظات الإفلات، أو ما يمكن اعتباره اللاولاء أو على الأقل التنكر له في ردة معلنة وفي كراهية لعهد المختنين وليس العكس ، أي أن اللعنة التي تلاحقنا كما يقول بيكيت هي لعنة الخطيئة الأولى التي لازلت تطارد الانسان في صراعه مع معتقده المحدد لانتمائه لهوية الأصل، والتي هي هنا معتقد متعلق بالختان أي عضوه  الجريح حسب الكناية التي ينعته بها المؤلف أوالراوية “أمل أحمد”، وكأن أحمد الراوي لمحكيه الابراهيمي [14] هذا الذي يدخل به نطاق هذه اللعنة والموسومة بمأساة الانسان مع جرحه، إن لم نقل مع معتقده،  كما هي حال العديد من الكتاب والمبدعين في الغرب.[15] كما يؤكد المؤلف نفسه ذلك عندما يفصح عنه: عندما يقول “إن جميع الابداع الغربي” كتب ضدا على الدين ونحن نعلم أن هذا هو موقف بيكيت وهو واحد من صانعي هذا الابداع في الغرب أو الداخلين في نطاقه وهو رد كذلك على الكتاب المقدس[16]. ونحن لم نعلن بعد عن حالنا مع هذا الجرح أو أننا لا نقوى على ذكر ذلك أو الإفصاح عنه مثلما قام به الآخرون مثلنا في هذا الابتلاء. تلك هي دعوى المؤلف وكأني به يريد أن يقولها، إن لم يكن قد قالها بمعنى آخر في مؤلفه هذا. ألا ينطبق علينا مثل هذا الابتلاء؟ ما دمنا نمثل هذا الانسان الذي يوصف بصفة الكائن المتدين أي أنه يوصف بهذه الصفة كائن متدين. أليس المعتقد الديني شأنا جمعيا بالضرورة؟ كما أن آلهة المعتقدات بحاجة إلى البشر حاجة البشر إليها [17]. وعلامة تديننا هي هذا الجرح وبالتحديد في الجرح الذي اجترح به عضونا مادام عضونا هذا هو عضو رجل كما سبق ورأينا ذلك في عتبة العنوان. ومن هنا ألا يحق لنا أن نكون في موقفنا هذا مأخوذين إلى حد الفتنة مع هذا الصراع المتمثل في هذا الجرح الذي يمثل هويتنا ، إذ لا هوية لنا إلا هوية هذا المعتقد إلى حد الاندماج، الذي نحن في مواجهته. ولو في الحلم الذي نحلم به أن يكون ممثلا لنا في مما نحتمل أن لا يكونه واقعنا، حيث يمثل الحلم نوعا من الهروب واستعاضته بمحكي الكلام، وهنا نجد كذلك أننا نمثل حقيقة معنى الانسان، الذي ليس في هذه الحقيقة إلا متكلما مثلما هي حقيقته باعتباره متكلما في إنسانيته  هاته للجهر بهذه الحقيقة ولو أن حقيقته هاته وفي هذا الحلم الذي أعطاه هذه الكينونة في هوية انتسابه لمعتقد جرحه كما رأينا.

وبعد تأكدنا من خلال هذا التحليل أننا حقيقة في محكي هذا المتخيل لسنا إلا في حلم كما أن الحلم المحكي لنا هنا هو في حد ذاته ليس إلا مبررا لقيام الحالم المتيقظ الذي لم يتم استيقاظه من نوم حلمه هذا، إلا بذريعة طرق الباب ليحكي لنا في متخيل هذا النص، الوقائع التي أرقته في يقظته وهو في كامل وعيه قبل نومه، الموقظ  رغما عنه للاسترخاء والاستسلام لتداعيات حلمه في مسرود محكيه هذا والذي وسمناه في عتبة سابقة بالمحكي الشفاهي وإعادة انكتابه، مما يعني أن هذه الإعادة في كتابة المحكي الشفاهي بأنها وبالضبط عودة ليقظة الوعي الذي تفترضه هذه اليقظة في محكي الكتابة كما أسلفنا. فهل عتبة الحلم هاته مازلت في حاجة لدعوة واقعها بما هو واقع مناف للحلم، أم أن هذه اليقظة مكتفية باللاواقع المتمثل في عتبة الحلم هاته، أم أنها مكتفية بهذا اللاواقع إلى حد الانتشاء والاسترخاء والتلذذ بالبوح به، ذلك ما سنحاول استقراءه في “عتبة المرآة”.

  1. عتبة المرآة ومحاولة رؤية الوجه:

عتبة المرآة أو محاولة رؤية الوجه في عتبة الظلام إن هذه العتبة تفرض علينا طرح السؤال التالي: لماذا لا يستطيع أحمد القائم بشخصية الراوي في هذا النص رؤية وجهه في المرآة رغم أنه حاول ذلك عدة مرات؟ وهل هذا الاستعصاء في رؤية وجهه إلى الحد الذي جعله يتردد على المرآة مرات ومرات وهل تردده هذا راجع إليه هو أم أن ذلك مرجعه إلى ظلمة الطواليط؟ أو لما تمثله معنى الطواليط نفسها؟ [18] ثم لماذا يريد رؤية وجهه فقط من خلال المرآة الموجودة في الطواليط كما يؤكد ذلك هو نفسه في هذه المرات المتعددة؟[19] أليس المانع في كل هذا هو تتالي الطرقات على الباب كلما حاول ذلك؟ وما علاقة هذه المحاولات بتتالي هذه الطرقات التي تعلن بإيذان فتح باب البيت لدخول ضيوف جدد وكأن طرق الباب هو استئذان مما يجعل الراوي أحمد مشغولا به إلى حد الغفلة عن التحقق من سحنة وجهه.

لنفترض أنه كان في عجلة من أمره، أليست هذه العجلة هي التي حالة دونه ودون أن يرى وجهه في المرآة ويتطلع إليه بما يفرضه عليه سؤال هذه العجلة؟ ثم لماذا المرآة هنا وفي وضعها الحالي هي المخبر له عن حالة وجهه؟ وأي مرآة هاته التي يريد أن يرى وجهه من خلالها؟ أليست  هي مرآة المرحاض أو الطواليط كما يريد أن يسميها وينعتها بهذه الصفة التي فيها الكثير من السخرية والاستهتار كما يحلو لصمويل بيكيت أن يختار شخصياته ويجعلها في مثل هذه الأماكن: صناديق القمامة وعدم التسمي بأسمائهم رغم أنه يختار لهم أسماء معينة، وهذا ما يعيد تكراره أحمد هنا في توصيف الشخصيات التي يختارها عفوا إنه لا يختارها بل هي التي تختار أن تأتي هكذا وكـأن اختياره فتح الباب لها يأتي عفو الخاطر وإلا في ما يخص حالة الحكيم الضرير، والمهرج والمرأة الحية أم أنها شخصيات آتية من عمق ما يعكسه قعر المرآة والذي يمثل هنا بعدا من أبعاد عمق اللاوعي، وهذا ما يؤشر عليه كذلك اختياره لهذه المرآة التي يريد أن يرى وجهه من خلالها؟[20] ولماذا وضع المرآة هاته هو هكذا: توجد في مكان مظلم علما بأنها فعلا هي مرآة الطواليط الذي يعني في لغة هذه التسمية بيت النظافة، والتي هي منزوية هنا في بيتها هذا المظلم أو الذي تغشاه هذه الظلمة ألا تشبه هذه الظلمة التي توجد فيها عمقا سحيقا؟ ويمثل بذلك أغوار النفس وأعماق دواخله. وماذا يمثل معنى البيت في هذا المحكي؟ أليس البيت هنا يأتي بمعنى الذاكرة؟ أم أن ظلمته تشبه الرحم؟ ألا يكون الحنين للبيت الأول كما يقول الشاعر هو الداعي الخفي للبحث عن وجهه في مرآة توجد في عمق عتمة الظلام، ومعنى البيت هنا دليل للبحث عن الحنين ودفئه الذي افتقده، فجاء هذا الحنين والشوق بمعنى البحث عن الوجه؟ أليس هذا الحنين المبحوث عنه هو الحنين الذي جعله يبحث عنه اتقاء لشر لعنة الخطيئة الأولى والتي كانت سببا في شقاء الانسان منذ خطيئته هاته والتي أخرجته من الجنة هو وزوجه حيث تعادل الجنة هنا دلالة الرحم أو بيت الرحم ودفئه ومن تمة توالت عليه اللعنة إلى الحد الذي يشعر معه أنه مرصود لهذا الشقاء ومن ثمة وهو يسعى للبحث عن الخلاص، حيث لا معنى هنا للطواليط إلا هذا ومن ثمة كان بحثه عن هذا الخلاص متواصلا لا لرؤية وجهه كما يدعي بل لاستعادة دفء ما افتقده جراء خروجه إلى هذه الحياة، وما البحث عن وجهه ولونه إلا ذريعة للبحث عن حقيقة وجوده وحقيقة من يكون، أليس هو في الأخير إنسان يقع له ما يقع لكل إنسان مثله يلج للطواليط برغبة الحاجة وإفرازاتها التي هي إفرازات نعيدها للحياة مرة أخرى حتى نعيد استنساخ ذواتنا؟ هذه الحياة التي كلها تعاسة وشقاء، والطواليط الذي نلجه ليس له من معنى إلا ما سبق لنا ذكره في هذه التسمية الفرنسية، والتي رأينا أنها لا تعني إلا بيت النظافة. لهذا نجد الولوج إليها هو ولوج لقضاء الحاجة، بل الطواليط هو المكان الوحيد الضروري تواجده في كل بيت، وليس ضروريا أن يكون واسعا، بل فضاء يتسع لشخص واحد .إنه مكان لا يتحمل اثنين …  هكذ ا يصفه أحمد[21] كما أن هذا التوصيف الذي يستحضره أحمد الراوي يؤكد ما ذهبنا إليه لأن “صرف ما نفرزه” في المرحاض لأن الطواليط  عبارة عن ثقب غريب، يمتص كل ما نفرزه. إن هذا التوصيف للطواليط وحاجة كل بيت إليه تجعل من الطواليط ضرورة حياتية من أجل إعادة صياغتنا كأناس يحيون حياتهم في ظل هذه الخطيئة وأحمد هنا باحث عن كنه هذه الحقيقة وحقيقة هذا المصير الذي نحن سائرون إليه أو على الأقل نعاود المراوحة في ظله ذهابا وإيابا، وهذا ما أصبح أحمد يكرهه ويمجه، وكأنه أدرك لعبة هذه الحياة، أو ما توصل إليه بيكيت عندما أعلن نهاية هذه اللعبة ذاتها بعد أن أعياه انتظار غودو الذي لا يأتي، حيث يعني بذلك لعبه أن نحيا الحياة أفضل مما نحن عليه الآن.

إن ولوج أحمد للطواليط وقيامه بتقديم هذا الوصف لها يدل على بحثه عن فرصة أخرى لإعادة خلقه من جديد، خلقا فيه نوع من البراءة من تسربات تبعات ما لحقه من لعنة الخطيئة الأولى، والمرآة هنا تمثل معادلا موضوعيا لهذه النظافة التي يدخل بيتها المنعوت في هذا النص بالطواليط من أجل هذا الخلق الجديد، وصفاء روحه، خاصة وأنه يقدم وصفا لهذه المرآة بأنها لوح من الزجاج الصقيل في معادلة حقيقة بحثه فعلا عن الخلاص، والخلاص ليس من الخطيئة فقط باعتبار الخطيئة كانت نتيجة بسبب نزوع ذاتي مقترف وفوق طاقة الانسان وبإغراء ممن يستحضره أحمد في نصه المتخيل هذا والمنعوت بمسمى الحية “الافعى” والتي يمكننا اعتبارها في شكلها هذا تمثل رمزا للعضو الجريح أو أنها بهذا الشكل قبل أن يكون نعتا للمرأة أو الانثى أو ما يمثل الأداة لمعرفة الخلق الذي يتمنى أن يمتلك القدرة عليه لإعادة خلق نفسه من خلالها خلقا جديدا كما يطمح إلى ذلك في معنى الطواليط، وبالتحديد في هذا النص الذي يؤدي إلى معنى بيت الراحة والاستجمام رغم أن دلالته في لغته الأصل [بالفرنسية] يؤدي إلى معنى النظافة، كما أن معنى بيت الراحة والاستجمام نستنتجه من النص التخييلي”جرح في عضو رجل” حيث يقول مؤلفه أحمد أمل في الصفحة  64 من هذا النص:… الكثير من الناس تكثر الجلوس بهذا المكان لحظة الافراغ لترتخي  أعصابهم، وينكمش المصران الغليظ ليرتاح من تمدده ويعطي راحة للعقل ليفكر)[22] ويزيد في توصيف هذه اللحظة من الراحة والاستجمام التي يمنحها لهم  الطواليط عندما يؤكد قول صديقه الذي قال: حين أخرج من الطواليط أرتخي ويكثر علي الإلهام  والابداع في الكتابة… يردف بعد توصيفه  هذا بقوله: كلما خرجت من الطواليط، إلا وتوقف رأسي عن التفكير الفلسفي …[23]

في هذا اللجوء لمرآة الطواليط التي تمثل ملجأه الأخير في مسعاه هذا بحثا عن هذا السبب الذي كان دافعا لارتكابه هذه الخطيئة والتي كلفت الانسان كل ثقل هذه الأوزار، بل إن حياته صارت كلها وزرا ثقيلا عليه وها هو جرح العضو يمثل لديه القربان البديل وكأنه تكفير عن اقتراف خطيئة الاقتراب من المحرم عليه في هذا الاقتراب، بل إنه هو من اقترف فعله. إن هذا القربان وبهذه الصفة التي تم بها  أصبح يعرف بالايفاء بعهد الله “… القائم في العهد (عهد الختان) الرسمي مع الله …”[24] والقربان المقدم هنا ليس فقط الإيفاء بالعهد كما أمر الله إبراهيم القيام به، بل أنه عربون عهد بالمقدس، مادام المقدس لا يبرر وجوده، إلا بوجود هذا المحرم حسبما يعرفه به “ميرسيا إلياد” وقبله “إميل دروكهايم” ولجوء أحمد المؤلف في هذا النص إلى الطواليط كان بداعي الخلاص كما أسلفنا القول. ومادام أن الخلاص هو مسعاه في كل هذا رغم أنه لم ينله، و لم يتبق لديه  بعد هذه المعاناة إلا هذا الصراع مع جرحه، الذي يعادل فيه صراعه مع معتقده، وهذا الأخير هو ما يكمن في دواخل أعماق ذاته ويمثل جوهرها في هذا الوجود، وكأن وجوده هذا أصبح في غير صفاء مع ذاته وعدم استقرارها على هذا الصفاء الذي ينتابه  نزوعه نحو هذا الوسواس وهذه الظنون الذاهبة به إلى حد الهوس إن لم نقل الفتنة، وهو نفس الوسواس الذي نجده عند بيكيت متمثلا في جوهر انتظار شخصياته اللامسماة  بأسمائها التي أطلقها عليها بيكيت نفسه، وهي على كل حال تعيش انتظارها لغودو الذي قد يأتي أولا يأتي بل إنه فعلا لا يأتي مادام الالتباس حاصلا في هذا المسمى “غودو” حيث هو الله كما يحيل إلى ذلك اللفظ الإنجليزي في هذه التسمية وهناك تسمية أخرى تطلق على الحذاء الثقيل في نفس اللغة وبنفس اللفظ.  فأيهما يقصد أحمد الذي يؤكد في متتالية حوارية  “غودو” هذا لا أعرفه …[25] لا شك أنه شخصية وهمية خلقها المرفهون عن الناس …، وهذا التأكيد يعيدنا إلى منطق بعض الفلاسفة الذين يقولون: إن الانسان هو الذي أبدع آلهته  على صورته… وفي معنى آخر أن الانسان هو الذي خلق آلهته، وفي معنى آخر إن الله خلق الانسان ذكرا وأنثى على صورته … [26]

إن موقف أحمد في التأكيد المتتالي هذا، يعبر عن حيرته: أيهما يصدق في محمول القولين المذكورين؟ وهذه الحيرة متأتية من الجرح الذي اجترح به في عضوه، حيث صار يحلم أو بالأصح يخاف من أن يتحقق خوفه في حلمه من أن يتم تفتيش بيته في غيابه من طرف اللجنة المكلفة بسلامة الجسم من الجرح[27] ، وخوفه هذا متأت من كونه فعلا يحمل جرحا في عضوه و إلا ما كانت كل هذه الفتنة التي يحياها، وهذا كذلك هو سبب ارتباكه وعيشه كابوس حلمه الذي هو في واقع أمره يقظة وعيه في ما صار يعيشه في مأساته هاته، والتي لا تعني في الواقع إلا رفضه وتمرده على حاله هذا الذي وجد نفسه تعيشه وتقبل به على أنه استسلام لما لا ترضاه حقيقة يقظته تلك، وما كان يعيشه في واقع حمله لهذا الجرح في عضوه وكأنه وصمة عار حدث له وهو في غفلة رغم يقظته، أو بسبب تأخر هذه اليقظة. لهذا فإنه أصبح يتمنى أن ينام مرة أخرى لعله يفيق وهو في كونه هذا لم ينم أبدا، ومعنى الكون عنده هو امتلاك حقيقة يقظته التي تمثل بالنسبة إليه يقظة هذا الوعي الذي صار عليه.

  1. عتبة السؤال:

نعتبر هذه العتبة مفتاح مغلقات النص التخييلي: “جرح في عضو رجل” و كأن السؤال هنا هو العمق المركزي في هذا النص، والسؤال بهذه الصفة يمثل المبرر الأساسي في إعادة صياغة المحكي الشفاهي إلى محكي انكتابي والخروج من شفاهية الأصل في محكي هذا النص إلى رحابة الكتابة وامتداداتها، لأن منطق السؤال في إعادة هذه الكتابة، هو الذي أعطى لهذا النص التخييلي تماسكه في هذا الانبناء السردي الذي جاء في بنيته الحجاجية، والتي هي الصيغة الملائمة في مثل هذه النصوص ذات الصفة الحوارية المنبنية على صيغة السؤال والاستفهام والتحكم في مخرجاته وكأنه وبصيغة أخرى، يمثل معادلة موضوعية تسعى في حجيتها تلك للإقناع بما حصل ويحصل لأحمد في روايته المفعمة بالشك واللايقين حتى جاء محكي قوله هذا مأخوذا بكل هذه الفتنة ليقنعنا بها  أو على الأقل يكتسب مشروعية في ما يحكيه، وفي ما دفعه لإعادة  صياغة محكيه من مقول شفاهي إلى مقول كتابي، ومن ثمة إعادة صياغة سؤال معنى وجوده وحضوره  المفروض في هذه المعادلة التي يحاجج فيها صاحب النص النظير “في انتظار غودو” بما يعطيه في هذه المشروعية أحقية امتلاك نصه التخييلي هذا أو بأصح تعبير نصه النقيض الذي يمثل نزوع صاحبه  ومؤلفه أحمد في قول محكيه الذي جاء في طي كتاب سماه “جرح في عضو رجل” الذي هو نص  معاند ومكابد لمعاناته والذي نخصه هنا بنعت النص النظير مثلما هي عليه صفة النص السابق أو النص النقيض، وكأننا في ترادف هذه الصفات والتسميات أمام نوع من التناص المحدث بين هذين النصين المتنازعين إلى حد محايثتهما لبعضهما البعض وتماثلهما مع بعضهما إلى حد الفتنة المأخوذ بها صاحب نص ” الجرح ” وكأنه استفاق وفي غفلة منه على حدوث جرح في عضوه، وكأن طرق الباب هو طرق تنبيه لما هو عليه جرحه في عضوه الذي يمنحه صفة الرجولة رغما عنه. ولذلك جاء سؤال هذه العتبة لإعلان هاته الاستفاقة والتي لم يكن الطارق على باب بيته هما اللذان أحدثا هده الاستفاقة بقدر ما هو دافع الفتنة المأخوذ بها كما أسلفنا. خاصة وأن عتبة السؤال تفرض علينا في قراءتها وتأويلها هذا المعنى القائم كذلك على النوعية المميزة لصيغة السؤال، وهو سؤال غير عادي، حيث لا يجابه به أي طارق لإعلان حضوره ووقوفه امام أي باب وكأن أحمد فضل في سؤاله أو أن أراد لسؤاله في هذه العتبة أن يكون بهذه الصيغة الاستفهامية للاستفسار عن حقيقة من طرق بابه ـ ومباغتته في هذا الوقت المتأخر من الليل أو بالتحديد الدقيق في وقت غير معلوم: أهو آخر الليل أو بداية الصباح؟ المهم أنه وقت ملتبس إن لم نقل إنه وقت  رمادي. كما هي حال معطيات النص النقيض” في انتظار غودو” باعتبار الانتظار في حد ذاته وقتا ليس بالوقت الحي والمعيش أو بالوقت الميت والمنتهي، بهذه المعطيات كلها يأتي سؤال أحمد لطارقي باب بيته بهذه الصيغة الملتبسة كذلك: سأل أحمد من تكونا؟[28] بعدما وجد أمامه شخصين أثناء فتح باب بيته. ومن هنا يبدأ السؤال، وكأن مبتدأه هذا هو مبتدأ فتح باب الحكي وتتابع سرد محتوياته التي لا تنتظم إلا في معطاها الكتابي أو بعد انكتابها لتشكل كتابه النص النقيض أو المعاند في حواريته وتعدد أصواته بعد أن كانت في المحكي الشفاهي أحادية. فماذا قال أحمد في مروي سؤاله المحمول في متن كتاب نصه التخييلي؟

قال أحمد : سألته  ص 19 [29] من تكونا؟ وماذا تريدان؟

والسؤال بهذه الصيغة يعتبر سؤالا عن الهوية، وكأن الهوية هي هنا وبصيغة سؤالها الذي جاء منطوقا من الراوي أحمد ذاته، يمثل المدخل الأساس لفتح مغاليق النص التخييلي، وماذا يتوخاه منه صاحبه الذي هو في نفس الوقت صاحب سؤال الهوية في صيغة طرحه لطارقي باب بيته. وكأن الهوية المطروح سؤالها هي ما أسميناه بالعمق المركزي في طرح هدا السؤال؟ مادام أن السؤال ذاته كان جاهزا لإجابة الطارق على الباب، وكأن الطارق لم يطرق الباب أصلا لأن طرق الباب هو في حد ذاته سؤال؟ حيث لا ينتظر السؤال إلا سؤالا مثيلا له للإجابة عنه، وهنا يكمن عمق مركزية سؤال الهوية، وهو ما لم يخفه أحمد في سؤاله الافتتاحي هذا عن الهوية بأكثر ما يكون من إلحاح، أي أن أحمد لم يكن يبحث في سؤاله عن من هما الطارقان باب بيته في ذلك الوقت، بل يريد معرفة أي انتماء يخفيان عنه في زيارتهما تلك، وبتلك الفجائية في اختيار التباس توقيتها، وأحمد في طرح سؤاله وبتلك الصيغة المرتبكة كان يعبر عن معاناته مع جرحه إلى الحد الذي جعله يلوك سؤاله ولا يفكر إلا هكذا تفكير في صيغة طرح سؤاله بالصيغة التي جاء عليها في طلب تحديد الهوية خاصة إذا علمنا أن هوية الانسان الأصل هي الهوية الدينية، باعتبار أن الانسان كائن متدين ….[30] وكأن أحمد لم يطرح سؤاله هذا إلا أنه لما فتح باب بيته بعد سماعه للطرق عليه وجد أمامه شخصين الشيء الذي جعله يستحضر وبكل عفوية سؤاله هذا الذي رأينا من خلال استجلاء معطيات نصه التخييلي في معارضاته للنص النظير “في انتظار غودو” والبعد الهوياتي هذا في سؤال أحمد هو الذي أخذنا بتأويله في الافصاح عن معطيات نصه التخييلي، والذي جاء في معظمه إن لم نقل إنه كله يقع في صيغة انبنائه الحواري ومن منطلقه هذا يأخذ صفته الحوارية والحجاجية لتمثيل ما يعطي لصراعه هذا شكله الدرامي. أي أن الحدث الفاعل في صراع أحمد مع جرحه هو في مكمن سؤال الهوية، أليست هوية الإنسان هي هوية معتقده.

واعتبارا لهذه الخصوصيات وبالتحديد المشار إليها أعلاه، نكون في مفتتح مغاليق النص التخييلي بطرح سؤال الهوية، والتي رأينا أنه يريد من طرح سؤاله تعرف هوية طارقي باب بيته من تكونا؟ أي أنه سؤال يحدد ما يريد، وهذا ما جعلنا أمام سؤال لا يعمل على فتح مغاليق النص بقدر ما يفصح عن كنه وعمق معطياته في جداليته مع النص النقيض له في محاججته في قناعاته تلك، والتي هي قناعات من لايزال في فتنة مع جرح عضوه إلى حد ما وصفناه فيه بالصراع، إن لم نقل قمة المأساة في عنفوان هذه الفتنة واجتراحاتها. إن المعطيات السردية أو ما يمكن نعته بالمنعطف السردي في محكي هذه الدراما في هذا النص التخييلي تجعلنا حقا أمام نص حواري بكل معنى الكلمة. وحسب ما وصفه به باختين مثل هذه النصوص البولوفونية، إذ لا محيد لنا عن وصف هذا النص هكذا واعتباره كذلك وبمعنى آخر نصا سجاليا، كما ان هذه الصفة لا يمنحها لهذا النص إلا من اعتباره كذلك يمثل تناصا أو أنه متناص مع نص سابق له، وهذا النص هنا وكما أشرنا إلى ذلك عدة مرات هو نص “في انتظار غودو” الذي وجدنا هناك عدة نقاط التقاء وتشارك بينهما، الشيء الذي يفسر لنا كذلك معنى عمق السؤال ومركزيته في هذا العمق الذي يريد أن يستجلي فيه أحمد المؤلف والراوية في نفس الوقت خبايا النص السابق له أي نص “بيكيت” ومكانته في كيفية بنائه هذا البناء الاستفهامي وضمنيته له في نفس الوقت، وهو الشيء الذي يفضحه سؤال الهوية هذا حيث نجد أنه ليس سؤال هوية من كتب النص واستتبعه بتناصه النصي الذي جاء محايثا له إلا في مضمنات السؤال الذي لم يعطه فقط نقيضه أو محايثته في هذه الحوارية النصية، وكأن فعل التناص هذا هو الإجابة الممكنة لسؤال الهوية هذا والذي هو سؤاله الحجاجي من أجل بنائه المنطقي في صيغته السردية أو إعادة هذه الصياغة الكتابية بما يفرضه هذا المنطق في نصه التخييلي، بحيث جاء هذا البناء وفق ما يمكن أن يجعل من هذا التخييل في صيغته تلك ممكنا من ممكنات التفكير في الواقع، ومنطق ما تكون عليه هذه الحياة التي رأينا أنها حياة تعيد مبتدأها الأول لإعادة العيش والحياة به في ما عرف بالخطيئة الأولى للإنسان، وهذا هو المنطلق الفلسفي لأعمال “بيكيت” وخاصة مسرحيتيه ” في انتظار غودو” والتي ينهي انتظاره هذا بمسرحية “نهاية اللعبة”. وهو ما يعطي معنى لمنطق السؤال، خاصة إذا علمنا أن الزائرين لأحمد والطارقين باب بيته في ذلك الوقت الذي لا هو بالليل ولا بالنهار، كانت زيارتهما له بقصد تبليغه دعوة بيكيت لزيارته وهو يحتضر، فهل أراد أحمد الراوية بسؤاله هذا إعادة استفاقة بيكيت من نومه بل عفوا إعادة بعثه حيا يرزق بيننا لتبليغ رسالة هويته التي هي كما رأينا هي الأصل.

  • الهوامش والاحالات:
  1. جرح في عضو رجل، نص تخييلي من تأليف د. أحمد أمل، صدر في طبعة أولى من الحجم المتوسط في 73 صفحة، الطبعة الأولى سنة 2022 مطبعة وراقة بلال فاس /المغرب.
  2. أ. د. رينهارد لاوت: ابراهيم وأبناء عهده مع الله، ترجمة أ. د. غانم هنا، الطبعة الأولى، تشرين الأول، دمشق، سورية سنة 2006، دار خطوات للنشر والتوزيع.
  3. م. س، حيث يقول المؤلف المذكور أعلاه في الصفحة 429 والصفحة 424 يظهر فيما بعد أن تفرد هذا الشعب يجب أن يكون في كونه ملة عه مع الله، عليها أن تكون من منظور طبيعي ملة الختان ومن منظور روحي ملة العدل أمام الله.
  4. في بعض الحالات الاعتقادية إلى حد الإيمان نجد أن حتى النساء لا يسلمن من وقوع مثل هذا الجرح في عضوهن كما هي حال جرح عضو الرجل، أي حالة ختان النساء كما هو واقع في السودان والأمر سيان في مأخذ الجرحين المنبني وقوعهما على هده الحالة الاعتقادية في الديانة الابراهيمية مادام الكل من نسل اسماعيل عليه السلام.
  5. يشير المرحوم الطيب الصديقي إلى مثل هذه الصفة في شعراء المسرح الحكائين في مقدمة مسرحيته الشامات السبع.
  6. انظر كتاب تشريح الدراما للناقد مارتن إيسلان.
  7. كما يمكننا نعت هده الحالة من النقائض في الدراسات الأدبية النقدية القديمة بالتناص أو ما صار يعرف مع ميخائيل باختين بالحوارية أوالبوليفونية، انظر جوليا كريستيفا وتزيفان تودوروف.
  8. بول شاوول: مقدمة مسرحية في انتظار غودو، التي قام بترجمتها والتقديم لها، سلسلة المسرح العالمي، العددان 270 و271 نونبر /دجنبر سنة 1999، الصفحة 8 وما بعده.
  9. إيهاب حسن: تحووت الخطاب النقدي لما بعد الحداثة، دار شهريار بغداد الطبعة الأولى سنة 2018، ترجمة السيد إمام.
  10. د. سعاد الناصر: التخييل الروائي العربي للعنف والمقاومة، مطبعة الخليج العربي، تطوان /المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011 ص 12 و14.
  11. أنظر: محمد التهامي العماري، سيميائيات، الصورة البيداغوجية، مجلة عالم الفكر عدد 184 أكتوبر/ دجنبر 2021- ص .128
  12. بول شاوول، مرجع سابق.
  13. الهوية الأصل هي الهوية الدينية أو هوية الانتماء الديني، حسبما تذهب إلى ذلك بعض الدراسات الاتنوغرافية.
  14. يقول: أ، د، رينهارد لاوت في كتابه: إبراهيم وأبناء عهده مع الله في الصفحة 423، … يظهر فيما بعد أن تفرد هذا الشعب يجب أن يكون في كونه ملة عهد مع الله، عليها أن تكون من منظور طبيعي ملة الختان…

كما يقول في موقع آخر من هذا الكتاب ص32: اعتبر محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بصفته اسماعيليا منحدرا من نسل إبراهيم مثل إسماعيل نفسه، وبهذه الصفة اعتبر أنه قائم في العهد (عهد الختان) الرسمي مع الله…

  1. انظر الصفحة 67 من النص التخييلي: “جرح في عضو رجل” كما يؤكد ذلك عندما يفصح.
  2. نفس المرجع، الصفحة ذاتها 67.
  3. فراس سواح، دين الانسان، منشورات دار علاء الدين دمشق/ سورية، الطبعة 4 عام 2002..، انظر الصفحتين 48و49 من هذا الكتاب.
  4. يعتبر الطواليط أو بيت الماء بالدارجة المغربية أو المرحاض، مكان يخشى دخوله دون توجس الخوف منه، للاعتقاد تفرضه الثقافة الشعبية المغربية في كون هذا المكان يتطيرون منه لأنه في هذا الاعتقاد الشعبي بيت مسكون بأرواح خفية بخلاف ما هي الحال في ثقافات أخرى، حيث يمثل بيت راحة كما هو وارد في عرف واعتقاد بعض الناس الشعبيين.
  5. انظر الصفحة 62من النص: “جرح في عضو رجل”.
  6. يمكن فهم معنى المرآة بالتأويل الذي يمنحها إياه جاك لاكان في تحليله النفسي للمهوسين بها.
  7. د. أحمد أمل، مرجع سابق، ص 63.
  8. في هذا المعنى الذي يؤكده المؤلف احمد أمل، نجد فريدريك نيتشه قول: في كتاب ما وراء الخير والشر ص115: …وإن الإنسانية وتقدمها لا يعتمد على العقل ولا تسير وفقا لتصوراته، بل إن كل ما حققته الإنسانية يعود بالفضل إلى أعضائه السفلى…، ويوضح نيتشه ذلك بأن الوعي مجرد أداة بيد الجسد، أداة جسدك هو عقلك الصغير يا أخي. وتأكيدا لدور الجسد يقول نيتشه أيضا: …الجسد هو ماهية الانسان الفاعلة، أي أننا لا نستطيع معرفة الجسد إلا بالجسد عينه وبما يمتلك من قوى عن كتاب فكرة الجسد. (نفس المرجع، الصفحة 112).
  9. د. أحمد أمل، مرجع سابق، الصفحة 64 وما بعدها.
  10. . د. رينهارد لاوت: ابراهيم وأبناء عهده مع الله، مرجع سابق، ص32.
  11. أحمد أمل، مرجع سابق، ص68، وفي هذا الصدد نجد أن فكرة الايمان بوجود إلاه (غودو) اقترنت بالخطيئة والذنب، وهي فكرة تحول مشاعر الانسان التي هي موجودة في جسده غريزيا… ص159 من كتاب فكرة الجسد د. هجران عبد الأله، أحمد الصالحي، دار الفرقد الطبعة الأولى سنة 2014، دمشق/سورية.

وفي فقرة ثانية نجد الدكتورة هجران تؤكد في الصفحة 157 عن نفس المرجع أن الإله هو نوع من السيكولوجيا، سيكولوجيا الخطأ، وأن الايمان به يبعث في النفس أسباب عدم الرضا ويغذي الشعور بالذنب والخطيئة…) وهذه هي الحال التي عليها مفهوم غودو عند بيكيت…

  1. جاك مايلز: كتاب سيرة الله، ترجمة ثائر ذيب صفحة 17، يقول جاك مايلز: في المعتقد الديني أن الله خلق الانسان على صورته ذكرا أو أنثى… وفي نفس الصفحة يشير إلى أن الأوروبيين رجالا ونساء ومن بعدهم الأمريكيين ذهبوا إلى صوغ أنفسهم على غرار الإله…
  2. أحمد أمل، مرجع سابق، ص72.
  3. المرجع السابق الصفحة 13،
  4. المرجع السابق، ص19.
  5. فراس سواح، دين الانسان، ص 19، منشورات دار علاء الدين دمشق/ سورية، الطبعة 4 عام 2002.

 

 

 


الكاتب : سالم اكويندي

  

بتاريخ : 11/11/2022