الرأسمال الخاص والصحراء‫:‬ حي على الوطنية الاقتصادية patriotisme économique

عبد الحميد جماهري

ربط الخطاب الملكي بمناسبة المسيرة الخضراء بين الأجواء الاحتفالية المطبوعة بروح المسؤولية الوطنية، وبين دعوة القطاع الخاص، «إلى مواصلة النهوض بالاستثمار المنتج بهذه الأقاليم، لاسيما في المشاريع ذات الطابع الاجتماعي»‫…‬.
وهي دعوة استندت إلى قيمة روحية ممثلة في المسؤولية الوطنية وتحثنا، كمغاربة، على استحضار ضمني للسؤال الأخلاقي المطروح على المستثمر الوطني.‫..‬
وهو سؤال نريده ألا يغطي على الحقيقة المادية العصية لكل استثمار وما يطرحه من قضايا، لكنه سؤال في الوقت نفسه يجعلنا نضع الرأسمال الوطني الخاص موضع مساءلة، على قاعدة الروح الوطنية وتعزيز الانتماء والمساهمة في استكمال تحرير الأرض والإنسان‫..‬. فإذا كانت نسبة الاستثمار الخاص في المغرب كله ما زالت دون المطلوب، والمجهودات متواصلة والاستراتيجيات متعددة لكي يتحقق الانتقال البناء إلى ثلثي الاستثمارات من مجموع المحفظة الوطنية‫، فليس سرا أن نسبة القطاع الخاص في الاستثمارات بأقاليمنا الجنوبية ما زالت دون المستوى الوطني العام‫.‬
وهو أمر غير مقبول البتة‫..‬ ذلك أن المستثمر في معادلة استكمال التحرير للأرض والإنسان يصبح جنديا أكثر من بائع منتجات وباحث عن الفرص‫.‬
من حق المستثمر الأجنبي أن يجبن ويخاف، ومن حقه أن يطلب الشروط الكاملة لكي يغامر بماله الخاص، فماذا نقول عن رأسمالي وطني، يرتعد ويتردد في المغامرة؟
نقول ليس من حقه‫….‬
ومع ذلك فإن المغرب لم يكتف بالمعطى الرمزي الأخلاقي والوطني وحده، ولا بيداغوجية الوعظ والإرشاد بل يتوفر اليوم على ثقافة ومقومات وشروط قمينة بأن تدفع المستثمر الوطني إلى الخروج من منطق« صندوق البريد» إلى منطق المساهمة في بناء التاريخ وتجديد الرأسمالية الوطنية، التي كانت من طلائع التحرير والدفاع وبناء الوطنية المغربية الجديدة في الأربعينيات والخمسينيات وما تلاهما‫…‬
أولا، هناك معاينة تقوم بها المؤسسات الكبرى‫،‬ والتي تجعل بأن مناطقنا الجنوبية صارت هدفا لاستراتيجيات الاستثمار الخارجي لكبريات الكيانات الاقتصادية العالمية والشركات المتعددة الجنسية
وهو ما يجعلها فرصة سانحة وصالحة للمستثمر الوطني للدخول في شراكات عالية القيمة، وفرصة لتأسيس علاقات ذات نفع عالمي تمكنه من «إنشاء سلاسل قيمة إقليمية ذات قيمة مضافة عالية »، كما يحلو لأهل الاقتصاد أن يسموها‫!‬
ثانيا، يصدق على المستثمر الوطني ما يصدق على المستثمر الأجنبي بخصوص شَرْطي الأمن والاستقرار، وإذا كان المغرب قد أمَّن حدوده وأراضيه، كما أمَّن المعيش اليومي، فمن الواجب الأخلاقي الوطني أن يسارع المستثمر الوطني إلى تثمين هاته الوضعية، بل أن يكون الشاهد السباق إليها من خلال الانخراط الفعال فيها، لا أن ينتظر أن تقوم الدولة بأدواره ومهامه، وأن يترقب جني الأرباح وقد يركب على مجهود الدولة، أكثر من مجهوداته…
ومن الشروط التي توضع على جدول أعمال أي لقاء يهم الاستثمار الوطني، هناك ما يسمى في أدبيات المستثمرين بكل اللغات، محفزات الاستثمار ومنها الوعاء العقاري ‫!‬
ولا أحد يمكن أن يشكك في توفر هذا الشرط أوالمحفز في أقاليمنا الجنوبية، في الداخلة كما في العيون كما في غيرهما‫…‬
قبل هذه الدعوة في جو المسيرة، كان ملك البلاد قد جعل من الاستثمار مدخلا أساسيا في المرحلة الجديدة التي يريدها للمغرب، سواء في إعادة تشكيل وظائف الدولة على قاعدة الدولة الاجتماعية، وفي صلبها مهام الصحة والتعليم والتغطية الاجتماعية، أو في توفير مناخ جيد للاستثمار يسمح للرأسمال الوطني بتفجير طاقاته والمساهمة في تطوير القاطرة الطلائعية للاقتصاد الوطني‫.‬
ومنذ رسالته الشهيرة إلى الوزير الأول في 2002، ووصولا إلى الخطب الأخيرة، كان موضوع الاستثمار والإصلاح، الذي يتطلبه توفير شروط نجاحه، في صلب السياسة الملكية‫.‬
وإذا اكتفينا بالخطابين الأخيرين، في الدخول البرلماني وقبله خطاب العرش، نجد موضوعة الاستثمار حاضرة بقوة‫.‬
وكل مرة هناك مقترحات ومحفزات وعمليات ملموسة في التشريع وفي مصادر التمويل وفي التتبع الإداري‫..‬.
فقد أكد الملك على ضرورة تفعيل ميثاق الاستثمار، الذي من شأنه أن يحول اقتصاد البلاد إلى اقتصاد جاذب للاستثمار.
وقال الملك – في خطاب أمام أعضاء البرلمان في افتتاح السنة التشريعية الجديدة- إن دخول الميثاق حيز التنفيذ يجب أن يترافق مع تعاون جميع القطاعات لرفع العراقيل أمام الاستثمارات وضمان تجويد الخدمات المقدمة، وقبله في خطاب العرش لهذه السنة شدد الملك على القطاع البنكي والمالي، مطالبا بدعم الجيل الجديد من المستثمرين والمقاولين وتمويله، وكشف عن توجيه الحكومة بتعاون مع القطاع الخاص والبنكي، لترجمة التزامات كل طرف في تعاقد وطني للاستثمار، بهدف تعبئة 550 مليار درهم (50 مليار دولار) من الاستثمارات، وخلق 500 ألف وظيفة في أفق العام ‫‬2026.. (في شق الاستثمار العمومي).
يضاف إلى ذلك تركيز جلالته على ضرورة وجود مخاطب واحد هو المراكز الجهوية للاستثمار‫!‬
وعليه فالمستثمر لم يعد ملزما بالبحث عن الإدارات المركزية، كما نص الخطاب الملكي حول الاستثمار، وتم لأجل ذلك تأسيس بنية مالية بنكية استثمارية تجلت في صندوق محمد السادس للاستثمار، والتي رأت فيه اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، أنه «يمكن أن يتطور لكي يصبح مؤسسة بنكية عمومية للاستثمار، يقـوم بدمج مجموع أدوات دعم تنمية المقاولات المعمول بها حاليا (الضمانات، التمويل، الاستثمار، المواكبة، الترويج …إلـخ)‫..‬
ونستفيد من ذلك،ولا شك، وجود خطة مؤسساتية مرنة وفعالة تروم جعل المستثمر الخاص قادرا على قيادة ديناميكية أكثر جرأة ووضوحا…‬
ومع ذلك فإن هذه المرافعة لا تروم« إقناع » الرأسمال الخاص الوطني بضرورة بل بإجبارية المساهمة في تحصين التراب الوطني والنمو في مناطق منذورة لمستقبل دولي وقاري غير مسبوق، بل هي مرافعة للتذكير بمبادئ الوطنية، التي ترفع أحيانا كدروع أخلاقية عندما تريد سن سياسة حمائية‫..‬ أو توفير أرباح وبل احتكار أفضل‫.‬
هذه الوطنية الاقتصادية ، patriotisme économique
المنشودة أساسها أخلاقي روحي ووطني طبعا، بدون إغفال قواعد الربح والخسارة، في قضية سقط فيها شهداء وتحملت فيها فئات متوسطة ومحدودة الدخل سنوات بل عقودا من التضحية لفائدة البلاد…

الكاتب : عبد الحميد جماهري - بتاريخ : 10/11/2022