ليست حكاية فيلم “رايسبوي ينام” للمخرج الكندي أنتوني شيم حكاية عن أم كورية جنوبية تحاول أن تتأقلم رفقة ابنها مع الحياة في كندا فحسب. بل أساسا حكاية مُعَدَّلة (مقلوبة) عن الصعود إلى جبل “ناراياما” المقدس. الصعود بالابن إلى القمة لتحقيق الانعتاق من الغربة والاغتراب، وسفر إلى الموت هربا من الألم في شقه النفسي والوجودي والمادي. رحلة شاقة، لكنها تتجه نحو مسار تحسيني، لاسترداد الأصل، وبناء شجرة الأنساب التي ضاعت في منحدرات الغربة: العنصرية/ الغربة/ التحرش/ تغيير الأسماء/ التخلي عن عادات الطعام/ الاعتداءات المتكررة/ المخدرات…).
ينقل هذا الفيلم الرقيق والمرهف والمأساوي حكاية مستوحاة من تجربة خاصة يختصرها المخرج في “سرد افتتاحي مكتوب”. فسو يونغ، الأم، طفلة متخلى عنها أمام معبد كوري سنة 1960، نشأت وترعرعت في دار للأيتام، ولمّا أصبحت فتاة شابة أحبت طالبا قرويا دفعته أزمة نفسية (أو مرضية) إلى الانتحار، تاركًا لها ابنًا حديث الولادة ولد خارج الزواج. لذلك، انتقلت إلى كندا خوفا من العار. إنها حكاية أم عازبة وابن مفصول عن جذوره، مع ما يستتبع ذلك من صدام مع بيئة اجتماعية جديدة، خاصة أن عمق الفيلم يفشي أمامنا فشل الانفصال عن الأصل، ومأساوية التخلي عن الجذور. فالابن (دونغ هيون) أصبح مراهقًا قويًا، بشعر أشقر مصبوغ، وعدسات لاصقة وأصدقاء. بينما صارت الأم تعيش توازنا ملحوظا على مستوى مشاعرها وعملها وأسرتها وصداقاتها. ولن يأتي الانقلاب إلا حين طلب الأستاذ من تلاميذه، ومنهم الابن، بناء شجرة أنساب لعائلاتهم، مستظهرا أمامهم مقتبسة لمايا أنجيلو: “إذا كنت لا تعرف من أين أتيت، فأنت لا تعرف إلى أين أنت ذاهب”. البحث عن الجذور، إذن، صار إلزاميا، مما يعني أن الأم لم تنجح، رغم محاولاتها الكثيرة والمتكررة، في بناء جدار بينهما وبين الماضي. فالأسئلة حول والد دونغ هيون التي تتأجل باستمرار إلى أجل غير مسمى، طفت على السطح، مع “الواجب المدرسي”، وأصبحت تكتسي أهمية بالغة. إنها قضية حياة أو موت. ولم يعد الانحناء أمام الصمت ممكنا.
في هذا الفيلم تظهر الأم بأنها غير مرئية. ذلك أن التأطير يحصرها في أغلب الحالات، في الخطوط الجانبية، حيث يعزلها زملاء العمل الكنديون ويتجاهلونها. كما أن المنزل مليء بظلال صامتة إن لم نقل كئيبة بعض الشيء. إنها لمسة خانقة من المخرج لنقل الإحساس بأن ما من ملاذ من العالم الخارجي بالنسبة للأم وابنها المغتربين إلا بعضهما. الضيق والتضايق والانعزال هي العناصر المهيمنة. بالمقابل، حين تنتقل الحكاية إلى كوريا (العودة إلى الجذور) تتسع الرؤية وتضيء الشاشة، إذ تمنحنا الحقول المضاءة بالشمس والمساحات الخضرء المفتوحة ودفء المرتفعات تباينًا بصريًا تحسينيا (بمفهوم الناقد الفرنسي كلود بريمون)، وهذا ما يجعلنا ندرك أن الانعتاق من الحياة المقيدة في كندا يمر من مجموعة من الطقوس المرتبطة بإضاءة الأصل واخضراره وبهجته(طقس الطعام، طقس الشرب العائلي، حلاقة الشعر، الاغتسال في الحمام، الصعود إلى الجبل لتقديم الاحترام للأب). إن هذه التفاصيل الصغيرة تضفي على القصة نسيجًا من الحميمية والخصوصية، ليس أقلها أهمية الطعام على مستوى صراع الهويات، منذ بداية الفيلم حتى نهايته.
لقد نجح الفيلم في أن يعرض أمامنا حساسية كبيرة تجاه الشخصيات والمواقف التي تجد نفسها فيها، مما يدفعنا في الكثير من المشاهد إلى الانحناء والمراقبة والتماهي وتقييم المشاعر التي تبنى تدريجيا.
فمن المؤكد أن المخرج أنتوني شيم أراد أن ينقل إلينا الشعور الخاص والمؤلم والثقيل بالوقوع بين عالمين. لكن الشيء الرائع في الفيلم هو أنه ينقل إلينا حكاية حول “حقيقة الأشياء التي تبدو صغيرة وغير مرئية في البداية”، وكيف تتراكم تلك الأشياء التي نتوهم أنه من الممكن التخلي عنها خارج إطار الهويات المتصارعة. كما ينقل إلينا معنى آخر للحب بين الأم وابنها. فعلى خلاف أسطورة “ناراياما” التي يحمل فيها الأبناء الأمهات ليموتوا، تحمل الأم ابنها إلى قمة الجبل ليعيش، في نوع من ربط الفرع بالأصل. بل يمكن اعتبار الحكاية، في مستوى أعمق، تضعيفا للأسطورة التي تحكى هذه المرة بتبئير حب الأم لابنها. إنه إرشاد إلى مخرج ما، بينما تعرف أنها تنحدر نحو الموت (سرطان البنكرياس).
لقد نجح الفيلم في جعلنا نقتنع أن العودة إلى التاريخ الخاص أمر ضروري ومحفز. كما جعلنا نفهم أن الاقتلاع ليس من صميم بناء الهوية التي يصنعها الشوق العميق إلى الجذور . إنه ببساطة فيلم لا ينسى، وهو بالتأكيد أحد تلك الأفلام الجميلة التي تجعلك تقترب من ألمك الخاص، ومن ذلك التحدي الذي يلزمنا رفعه ضد الموت والنسيان.