الحياة التي نحارب من أجلها… الحياة التي نمارسها أمام العلن… والحياة التي نتمنى أن نعيشها… لا علاقة لها بما نعيش حقا !!
والجزء اللامع المغري والممتلىء من الكأس يحجب الفراغ القاتل والجفاف السام… يحجب المعارك الدموية… لحظات اليأس والعجز… وحجم الضعف والهزيمة…
ولعل الجزء المحجوب هو حقيقتنا…
هو صورتنا غير المعدلة…
هو نحن!!
يقول جبران خليل جبران، في إحدى الروائع التي خطها قلمه: «لا أحد يعلم ما أصابك، لا أحد يعلم كيف هي معركتك الخاصة مع الحياة، ما الذي زعزع أمانك، وقتل عفويتك، كم كافحت وكم خسرت، لا أحد يعلم حقاً من أنت».
فالمسار الذي تقطعه، بخيبات أملك، بلحظات تعثرك، بالحرب الضروس التي تخوضها، والأحلام التي تنهال فوق رأسك وأنت ترسمها مرارا… ذاك أنت!
والسبيل الطويل والمضني… المليء بالحفر والأحجار، والمنعرجات الخطيرة… السبيل الذي هدد استقرارك كثيرا وجعلك تخاف الاستمرار… تهاب مواصلة السير، وتتخلى أكثر من مرة..
ذاك السبيل هو حياتك!
فلا أحد يعلم من أنت!
لا أحد يستطيع اكتشاف آثار دموعك صباحا، وقد تسرب اليأس إليك ليلا…
ولا أحد بوسعه أن يفهم خلطتك السحرية !
لا أحد يدرك أن القارب تهشم مرارا قبل أن يبحر، وأنه أضاع خريطة العبور أثناء الإبحار…
لا أحد يعلم أنه قاوم الأمواج العاتية، وإكراهات السفر، قبل وصوله سالما!
لا أحد!
لا أحد يعلم كيف كبر الطفل الذي بداخلك، ومتى؟
كيف تعلم من هفواته…
كيف لمع نجمه وصار راشدا ينطق بالحكمة…!
إلا أنت! أنت فقط؛
فكن أنت،
كن أنت، وأفتخر بهزائمك العديدة… بلحظات ضعفك… بطيبتك التي تسببت في تعاستك، وبالابتسامات الكاذبة أحيانا التي ترسمها لتقول أنا بخير…
كن أنت… وقف تحت بقعة الضوء الساطعة… أمام المرآة الواضحة… وخلف النور المتوهج…
كن أنت فقط، وحرر العُقد التي ربطها الزمان على قلبك…
حررها واسمح لها بالشفاء…
وقدرها…
قدر نفسك، واعشقها!
فهي الوحيدة التي تساندك وتمد يدها لانتشالك،
الوحيدة التي تعيش معك فصول حياتك، وتتواجد متى كنت في الحاجة إليها…
الوحيدة التي تقف بجانبك، مهما ابتلعك الحزن… ومهما ظننت أن دورك في المسرحية انتهى!
ومن أروع ما كتبت الشاعرة العراقية نازك الملائكة وهي تصف توحد الذات بنفسها وبخيبات أملها:
«الليلُ يسألُ مَن أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون ؟
الريحُ تسألُ مَنْ أنا
أنا روحُهَا الحيرانُ
أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنَى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإذا فضاءْ !
والدهرُ يسألُ مَنْ أنا
أنا مثله جبارةٌ
أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضيْ البعيدْ
من فتنةِ الأملِ الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ
أنا
لأصوغَ لي أمساً جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ مَنْ أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في الظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَلّ يحجُبُه سرابْ
وأظلّ أحسبُهُ دَنَا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ»
* شاعرة وإعلامية