قراءة في لوحة الفنانة التشكيلية مونية بوطالب

تندرج  هذه اللوحة ضمن سلسلة من آخر  أعمال التشكيلية مونية بوطالب التي يتم عرضها منذ 10 نونبر 2022 تحت شعار» جذور» برواق محمد الفاسي بالرباط ، وذلك بدعم من وزارة الشباب والثقافة و الاتصال  – قطاع الثقافة ، فهي بمثابة جزء من هذه الفنانة المقتدرة، تسافر من خلالها في الزمان والمكان للوصول إلى تحديد هويتها، بحثا عن جذور مفقودة استنبتتها من الطبيعة لتجسيد إحساس انتابها وهي في لحظة تأمل ، فكان هذا الفضاء  الذي يبعث على الرهبة، خاصة من خلال ألوان غامقة تطمس الضوء ولكنها تسبر أغوار حقائق خفية وغير معلنة، متعلقة  بذلك الخيط الرفيع الذي يربط الإنسان بجذوره وأصوله التي بدأت في الاندثار والتلاشي مع مرور الزمن. وقد أبت الفنانة إلا أن تشير إلى ذلك باستحضار الشجرة التي ترمز إلى قضية وجود الإنسان كما ورد في قصة ابن طفيل «حي بن يقظان» ، من خلال عنصرين نباتيين يمثلان فرعين ينأى كل واحد عن الآخر  للدلالة على التباعد وعدم الترابط ، لقد فقدا  نضارتهما وأوراقهما بفعل نيران  تذكر بالموت والدمار، أتت على اليابس والأخضر  ولم تترك وراءها إلا بقايا تفحم يحيل إليه الأسود ، ودخان بلونه الرمادي السلبي،  فهي بذلك طبعا لاتحاكي غابة تحترق لكي لا تمنح بعدا واقعيا للعمل مرتبطا بالبيئة ، فيصبح بدون عمق سيما وأنه قد صيغ وتم بناؤه على أساس مرتبط بالسلالة وسيرورة الإنسان.
إن السيدة مونية بوطالب، بفعل منهجيتها وتكوينها الأكاديمي، غالبا ما تثور وتتمرد  على تلك الاتجاهات الكلاسيكية التي تعتمد بشكل كبير على الرسم الدقيق للطبيعة والتركيز على كل ما فيها من أصول جمالية ، لكنها لم تتردد أبدا في اقتحام  هذه الطبيعة  بكل تقلباتها وتناقضاتها الجوهرية ، فقد ظلت مصدر  إلهام بالنسبة لها،  استمدت  منها  أفكارا تم تجسيدها أمامنا في قالب فني تشكيلي، يتأرجح بين التجريد والتجسيد، يستفز  المتلقي ويسحبه من غياهب الضبابية ، فتجده يشعر بهذه القماشة أكثر مما يراها، سيما وأن الفنانة  لم تكتف بحصر  ذاتها داخل بقعة جمالية محددة، بل تجاوزتها لعلها تصادف بريقا ينبثق من جوف العتمة، أو تلامس ومضات من ماضيها العريق الممتد إلى مدينة تارودانت  برمزيتها الحضارية وهويتها الأمازيغية الموغلة في القدم، وظفت في ذلك تقنية المزج، حيث جمعت بين ما هو شكلي مرتبط بالفرشاة وما هو لوني صباغي بطريقة متجددة ، استمدت مرجعياتها من تكوينها الأكاديمي وسفرياتها خارج الحدود ، وزخم ثقافي معاصر، وبأسلوب جميل فيه خاصية متفردة  تكشف عن لمسة شاعرية تخفف من حدة التباين وقوة الظلمة ، تحيلنا على رسم يؤجج المشاعر ويجسد جمالية القبح بكل تجلياته، ويستجيب لنداء طبيعة لا تبدو دوما عبارة عن منظر جميل يسر الناظرين بل إطارا يغوص في الجوهر ويستحضر أشياء حتى لا يطالها النسيان. ولذلك حضرت لغة تشكيلية أساسها الإيحاءات  والدلالات، تم توظيفها  بقصدية واضحة تتضح حين تفكيك هذه العناصر وإعادة تركيبها لتنصب كلها في البناء الكلي للوحة.فالحقل الدلالي لهذه العناصر مرتبط بالانقراض وعدم الاستمرارية.
تبقى هذه اللوحة التي تبدو بدون خلفية و بعناصرها المحدودة، و كأنها كتلة رماد ودخان، غاية في الجمال، فهي تحفة، فيها شيء من الانطباعية وبعض التفاصيل مما يدور أحيانا في ذهن  فنانة ، قامت بالبوح بها  عبر خطوط وبقع لونية تشكلت  بفعل مزج الصباغة ، فتحول البياض إلى كتلة رمادية وليس إلى فراغ، وتخلى السواد عن فوضويته، فأصبح له شكلا و معنى مادي، وأضحت المساحة رغم شساعتها من السهل احتواؤها بفعل رسم مرئي يعبر عن اللامرئي، يغيب فيه التوهج وتحضر فيه الألوان الأحادية، ينظر إليه من جميع الجوانب كوحدة متكاملة، مما منح نمطا خاصا لريشة فنانة حائزة على جائزة «خوسي دياس فونتيس» الإسبانية  لسنة 2017 ، ورثت حبها  للضوء والمساحة المفتوحة على بيئتها الأصلية المتواجدة في الجنوب ، مما انعكس على أعمالها حيث تجدها تأخذ أحجاما كبيرة.شغفها بالرسم لازمها  منذ الصغر، كبرت وكبر معها طموحها، فتخلت عن وظيفتها داخل شركة متعددة الجنسيات  للتفرغ إلى هذا الفن الراقي المتعلق بالجمال وسرعان ما أصبح لها حضور وازن في الساحة الفنية المغربية. والمعروف عنها أنها تشتغل على فكرة، حيث لا يوجد شيء عندها بالصدفة ، فهي تسخر ريشتها لتخط بالألوان رسائل تدعو من خلالها إلى عدم جز الحبل الذي يربط المرء بعرقه وحسبه.فالعواصف القوية كما قال جورج هربرت، عالم الاجتماع الأمريكي، تقتلع الشجر إلا أنها غالبا ما تدفع الشجر القوي لبناء جذور أعمق.


الكاتب : عبد السلام صديقي

  

بتاريخ : 26/11/2022