بجرة قلم : أزمة تواصلية

مظاهر التمدن، التحضر، التطور العلمي والمعلوماتي لم تنجح في صناعة حياة مثالية أو طبيعية على الأقل… كما أنها لم تملأ الغياب الواضح لركائز بناء هذه الحياة…؛
حياة يستطيع أن يُعبر فيها الأشخاص عن أفكارهم ومكنوناتهم بسلاسة، ويتقنون فيها، بشكل أو بآخر، فن التواصل. إذ يكاد يفشل أغلب أبناء الجيل الجديد، في التواصل مع ذواتهم أولا، ثم مع المحيط الذي ينتمون إليه، وأقصد هنا التواصل الاجتماعي «البسيط» ، حيث يُستصعب على الفرد صياغة جملة مفيدة بفعلها وفاعلها وبعباراتها المسترسلة… مع إيصالها كما يجب أن تصل، رغم مستواه التعليمي، الاجتماعي والفكري اللافت… ورغم ما حصل عليه من شهادات وتكوينات…
سؤال التواصل هذا، اعتراني وأنا أجلس رفقة جد صديقة لي، رجل من الزمن الجميل، عاش ما عاش من السنوات وعايش العديد من الأحداث السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية و… التي تعاقبت على المملكة، ولا تزال ذاكرته تحتفظ بأدق التفاصيل… ولا تزال مهاراته التواصلية عالية للغاية، بل أفضل بكثير من مهاراتنا الفاشلة أنا وأبناء جيلي…
جلسنا إلى جانب «البَرَكة»، وأخذ يحكي لنا قصص التاريخ القديم، ثم «الخرايف» الممتعة بشكل متواصل، رصين، لا تأتأة فيه ولا تعثر… وبسرعة بديهة لافتة… يفتقد لها أصحاب الهواتف الذكية، ولم ننتبه لمرور الوقت أو تقدمه ونحن نستمتع بالجلسة الدافئة…
الجلسة ذاتها ذكرتني بلحظات انقطاع التيار الكهربائي بمنزلنا ونحن صغار، إذ كان يفاجئنا الظلام أحيانا ونحن نؤدي واجباتنا المدرسية بتذمر، وسرعان ما تسود الفرحة وتعم أرجاء البيت، لأننا سنتخلص من “الحْفاظَة” أولا، ولأن موعد الحكايا قد حان، لتجدنا نسارع للالتفاف حول المائدة في بهو البيت بشموع موقدة، نطلب من أبي أو أمي إضافة جو من التشويق للجلسة بقصة شعبية «خرافة»… وكم كنا نشعر بالغضب حينما تشهر المصابيح نورها…
لكن الغريب في الأمر والمثير للإعجاب، أنه في كل مرة كنا نقيم هذا الطقس، كانت القصص تحتفظ بحيثياتها، دون نسيان أو تعديل… وكنت أستمتع بقدرتهما على التذكر والتواصل… فطريقة السرد تلك، بأساليب الوصف والتشبيه، وبالحرص على أدق التفاصيل وأصغرها وبالتشويق في الأحداث، لم أرها في أبناء جيلي قط… وقد ألهبتنا السرعة وطغت على أحاديثنا، كما ضاق صدرنا وقلّت رغبتنا في التواصل… ليصير الحديث مقتبضا، متعَبا، سريعا، متشائما، يفتقر للجمال والهدوء، ولعلامات الترقيم التي تريح النفَس.
لا أظن أن التكنولوجيا بريئة مما حل بنا، ولا أظن أن لا يد لها في تخريب العلاقات وجمال العلاقات، وملح العلاقات الذي يتمثل في التواصل…! كان الله في عون الجيل الصاعد والذي لن يسمع القصص التي تنمي خياله وتطور مهاراته في التحليل والتعبير…  كما لن يستمتع بالجلسات الأسرية الدافئة الهادئة القادرة على امتصاص الطاقة التكنولوجية السوداء.

* شاعرة وإعلامية


الكاتب : مريم كرودي *

  

بتاريخ : 07/12/2022