في عطلة هذا الصيف الفائق الحرارة والجفاف الحاد، سنحت لي الفرصة أن أزور بعض القرى والبوادي بالجهة الشرقية، وقد وجدت، بكل صدق، أن المواطنين في هذه المناطق والفضاءات القاحلة يعيشون أسوأ أيامهم تحت وطأة الجفاف والقحط وندرة الماء الصالح للشرب وشظف العيش، فالكثير منهم من يعيش على وجبة واحدة في اليوم وسط النهار، ومنهم من يكتفي بالخبز والشاي في أفضل الأحوال لقلة الحيلة وقصر ذات اليد وغياب دخل قار… ومن أول وهلة تبدو لك نظرة الضعف والفقر في أعين الرجال الغائرة، يلتحفون التراب وينتظرون الذي يأتي ولا يأتي… ويذهبون إلى السوق الأسبوعي ويعودون بخفي حنين دون أن يستطيعوا إدخال الفرحة على أبنائهم بما تشتهيه أنفسهم نظرا لقلة المال والغلاء الذي عرفته المواد الأساسية والغذائية… فخسارتهم كانت كبيرة مع هذا الجفاف الذي أتى على الأخضر واليابس وترك الأفواه مفتوحة والبطون جائعة، وكثيرة هي تفاصيل المعاناة والشقاء التي يعيشها هؤلاء المواطنون، تدخلك في حزن وغضب لا ينتهي وأنت تطوف بين هذه القرى القاحلة… وحتى الشباب الذين كانوا يعملون في الحقول ويساعدون العائلة على مواجهة عوائد الدهر تجدهم عاجزين عن فعل أي شيء أمام هذا الواقع المرّ مما اضطر بعضهم إلى اختيار الهجرة إلى المدن بحثا عن العمل إن وجدوه، وبعضهم يحلم بركوب قوارب الموت إلى «فردوس أوروبا»… لقد فقدت أغلب الأسر مداخيلها الفلاحية التي كانت تعينها على مواجهة السنة من حبوب وقطاني وزيت الزيتون، التي كانت بمثابة الغذاء الأساسي لهم، والآن أعينهم مرفوعة إلى السماء لما ستجود به من أمطار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه…
وأنا وسط هذا الشقاء القاسي والوضع البئيس لهؤلاء المستضعفين، استحضرت خطاب المسؤولين الحكوميين وعلى رأسهم رئيس الحكومة، وكذا الخطابات المعسولة والوردية للمسؤولين في مجلس جهة الشرق حول الوضع الاجتماعي في هذا العالم القروي، الذي يشكل أكثر من 90 في المائة من مساحة خريطة الوطن، والذي لا يزال يعيش على وقع الفقر والبطالة، وضعف قدرات العائلات الشرائية مع الغلاء الذي عرفته أسعار كل المواد الأساسية، وعجز وخصاص كبير على مستوى التوزيع المجالي الترابي للبنيات التحتية والخدمات الأساسية والاجتماعية لكل القطاعات التي كانت معنية بالإصلاح، ولاتزال التفاوتات والفوارق الطبقية كبيرة وكبيرة جدا بين العالم الحضري والقروي، والذي لا يمكن قياسه نظرا لعمقه وشساعته.. واستفسرت نفسي وأنا أقف على هذا الوضع المأساوي عن الأموال التي خصصت لتنمية العالم القروي، والحرب التي دارت رحاها بين حكومة العدالة والتنمية وعزيز أخنوش الذي كان وزيرا للفلاحة في عهدها حول من يكون آمرا بالصرف لصندوق تنمية العالم القروي، وبعد السجالات والملاسنات والتدافع الذي حصل آنذاك انحنى بنكيران ووزراؤه ونوابه للعاصفة، ليكون وزير الفلاحة هو الآمر بالصرف لميزانية هذا الصندوق التي بلغت ما يناهز 50 مليار درهم، حسب ما ورد في المادة الثلاثين في مشروع قانون المالية آنذاك، موزعة على خمس قطاعات أساسية في العالم القروي وهي الطرق والمسالك، والماء الصالح للشرب، وكهربة العالم القروي ثم التعليم والصحة ؛ انطلاقا من برنامج التقليص من الفوارق المجالية والاجتماعية الذي أعلنه الملك في خطاب العرش في يوليوز 2015، ولأن الأمر كان أكبر من بنكيران وحاشيته، حيث قال في ما يشبه التبرير، بعد التنازل لوزير الفلاحة لتسيير وتدبير الصندوق، «الأهم عندنا هو إنهاء آخر سنة من الولاية الحكومية بانسجام بين مكونات التحالف الحكومي…».
هذا المشروع الذي انطلق سنة 2017 ويمتد إلى غاية 2023، يهدف إلى فك العزلة عن الساكنة القروية والبدوية والجبلية وتحسين ظروف عيشها، وولوجها إلى الخدمات الأساسية في مجال الماء الصالح للشرب والكهرباء والتعليم والصحة؛ بالإضافة إلى الطرق والمسالك القروية من أجل تيسير التنقل، كما سلف الذكر، سينتهي بعد سنة ونصف على أبعد تقدير، ولا تزال دار لقمان على حالها ولا يزال المواطنون في جبال وبوادي وقرى المغرب بصفة عامة والجهة الشرقية بصفة خاصة يعيشون معاناة مركبة لا حد لها… والحقيقة أن مناقشة معطيات هذا البرنامج الكبير الذي خصصت له أموال كبيرة لتنمية العالم القروي تحتاج إلى وقفات ميدانية لمعرفة أين صرفت الأموال، وما هي النتائج الملموسة التي استفاد منها المواطنون، والتي تعنيهم مباشرة وأسرهم الفقيرة، فالعبرة ليست بالأرقام، التي يتم سردها في مناسبات ولقاءات البهرجة، ولكن العبرة هي بمستوى العيش، الذي يعيشه المواطنون في هذا العالم القروي، إنها حياة شقية وصعبة للغاية!! وقبل هذا المشروع ومنذ سنة 2008 تم اعتماد مخطط المغرب الأخضر كرافعة أساسية للنهوض بالوسط القروي وتحسين المؤشرات السوسيو- اقتصادية، وخصصت له ميزانية تعد بالملايير من أجل إعداد البرنامج المندمج لتنمية المناطق الجبلية وإحداث الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان…
والأسئلة المطروحة هي ماذا استفاد المواطنون في العالم القروي من نجاح المخطط الأخضر الذي مرت على انطلاقته أكثر من 10 سنوات إن كان كما تقولون حقق نجاحا كبيرا وحقق أهدافه الكبرى؟؟؟ والواقع أن المستفيد الأكبر من المخطط الأخضر كانوا هم أصحاب الشركات ومكاتب الدراسات وكبار الفلاحين… وأي نجاح هذا الذي حققه مشروع تنمية العالم القروي، وأي إنجازات ملموسة تحققت للمواطنين هناك ؟ إن التحقق من نتائج هذا المشروع الذي أهدرت فيه الملايير يجب أن يبدأ من القيام بزيارات ميدانية إلى القرى والأرياف والبوادي للتعرف على أحوال المواطنين المستضعفين، وكيف هي أحوالهم وهل تحسنت أوضاعهم في هذه السنوات التي تم فيها اعتماد المخطط الأخضر وإنشاء صندوق تنمية العالم القروي، الذي تم إسناد تدبيره المالي لعزيز أخنوش، في عهد حكومة بنكيران، التي قال عنها مؤخرا إنها دمرت وعطلت عجلة التنمية لمدة عشر سنوات، ناسيا أنه كان يقود أكبر قطاع حيوي في البلاد… فماذا حقق هو للمغاربة في هذه العشر سنوات؟؟؟
إن الواقع الذي يعيشه العالم القروي واقع مرّ بما للكلمة من معنى؛ لأنه يعرف كل مظاهر العجز والنقص في جميع المجالات لذا وجب أن يكون أولوية من الأولويات التي لا تحتاج الانتظار ، والعمل على إخراجه من هذا الوضع المتردي وبناء مستقبل أفضل للمواطنين الذين يعيشون فيه في إطار الدولة الاجتماعية التي لا تقصي أحدا من سياستها كم يحلو لهم أن يقولوا، ولأن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في المجتمع إلا إذا أعطيت الأولوية لمواطني العالم القروي، وخاصة الشباب منهم الذي يعاني الإقصاء والتهميش وغياب المساواة في أسلوب الحياة والعمل والدارسة… مما جعل الهجرة مستمرة ومتواصلة للشباب من البوادي في اتجاه المدن بحثا عن رغيف خبز.. إن الوقت الذي سترفع فيه المعاناة عن هذه الفئة العمرية التي يمثلها الشباب والشابات الموجودون في القرى والبوادي والمناطق الجبلية المعزولة والصحراوية الصعبة والمبعدة والمقصية من برامج الحكومات المتعاقبة على التسيير، آنذاك يمكننا أن نتحدث عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أما اليوم فإن مخططات الحكومة ووعودها الانتخابية هي مجرد حبر على ورق وكلام يتبخر في السماء.. وفي هذا الصدد يمكننا أن نتساءل عن الدعوة التي وجهها الملك إلى المسؤولين من أجل تعبئة مليون هكتار من الأراضي الفلاحية الجماعية لتحفيز ودعم الشباب في العالم القروي، عن طريق خلق المقاولات المرتبطة بالقطاع الفلاحي لامتصاص البطالة وتقليص عدد العاطلين ؟؟ وفي إطار الجهوية المتقدمة واللاتمركز ماذا حققت مجالس الجهات في المغرب بصفة عامة وجهة الشرق بصفة خاصة لأبناء العالم القروي؟؟ ميزانيات كبرى تنفق في الاجتماعات الفارغة والسفريات داخل الوطن وخارجه والسيارات الفارهة والإطعام والفنادق المصنفة والتعويضات عن المهام للمنتخبين التي تقدر بالملايير والذين يلهثون وراء تنمية مشاريعهم الشخصية والعائلية عوض الإسهام في مساعدة الشباب القروي ورفع المعاناة عنه، وإخراج المواطنين من مناطق التهميش والحرمان والإقصاء، وضمان كرامة الإنسان القروي التي بدونها لا يمكن أن يعيش إنسانيته ولا يمكن للديمقراطية أن تستقيم….
إن الموارد المالية التي خصصت لصندوق تنمية العالم القروي والمخطط الأخضر لا تختلف عن الموارد المالية التي خصصت للبرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم، والتي قدرت بالملايير ولم نر منها إلا القشور؛ واستفاد منها ضعاف النفوس والمفسدون ذوي البطون المنتفخة بنهب المال العام على مرأى ومسمع من أصحاب الحال… إن رهان التنمية الحقيقية والعدالة المجالية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أوليت العناية لسكان العالم القروي على غرار العالم الحضري، وأن تشمل جميع الجهات لتجنب الاختلال المجالي للنمو وتفادي اللاعدالة المجالية، ومن أجل بناء مستقبل أفضل لهم ولأسرهم، في إطار الدولة الديمقراطية التي لا تقصي أحدا من سياستها، آنذاك يمكننا أن نقول إن حكومة أخنوش قطعت أشواطًا مهمة في تجسيد الدولة الاجتماعية….
وختاما، نقترح للخروج من هذا الوضع المأساوي الذي يعيشه العالم القروي، ضرورة تنظيم مناظرة وطنية تشارك فيها جميع القطاعات المعنية حول واقع التنمية القروية، وارتباطها بكل ما هو فلاحي للوقوف على المنجزات والمؤهلات واستشراف الآفاق، التي يجب أن تعطى للفلاحة والتنمية القروية من أجل الإنعاش الاقتصادي، وتسريع تنفيذ جميع البرامج الفلاحية، وفق استراتيجية فلاحية جديدة تكون نتائجها ملموسة وتظهر تجلياتها على مستوى عيش المواطنين بالعالم القروي واستقرارهم النفسي والمعنوي وتضمن لهم تنمية مستدامة حقيقية، وأن لا تبقى تنمية العالم القروي مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي أو المناسباتي والانتخابي…
معاناة أهل القرى والبوادي

الكاتب : إسماعيل فيلالي
بتاريخ : 07/12/2022