مسرح البدوي يستعيد بريقه

 

تخليدا للذكرى السبعين لتأسيس مسرح البدوي، استعاد أعضاء الفرقة لحظات من الماضي المجيد لتجربة إبداعية، تميز مسارها الفني ببعده الاجتماعي، وانخراطه الجاد في الكشف عن جوانب من اختلالات العلاقات الاجتماعية وما يرتبط بها من تفاوتات في السلوك والمعاملات. كما شكلت استثناء ابداعيا في شكل كتابتها وطريقة عرضها. في هذه الأمسية الخاصة كان الفقيد عبد القادر أكثر من حاضر، عند الاستقبال ببسمته الباسقة التي اعتاد أن يبسطها عند كل لقاء. صور منتقاة من لحظات أدائها لأدواره المختلفة بما أقنع اخراجا وأبهر أداء.
إعادة عرض مسرحية «الهاربون» بعد ستين سنة من عروضها الأولى وما لقيته ساعتها من نجاحات، فيه تأكيد على أن الحضور الفعلي للفرقة في زمن الابداع ممتد، وأن راهنية موضوعها مازالت تحمل كل سمات التباين المجتمعي وأثاره المختلفة.
كيف نستعيد تفاصيل الحكاية؟ كيف نعيد بريق الأيام، لحظات تظهر وتختفي كإشراقة صبح بعد ليل بهيم. لا يرف الجفن من الدهشة ونحن نستعيد مع بنات الفقيد العزيز، مساء فاتح دجنبر، أصداء ما تركته المسرحية لحظة عروضها الأولى من تفاعل وتأثير في الرأي العام، في سياق نقاش عام حول ما كانت البلاد مقبلة عليه من تحولات. فقر زاحف وتراء ظالم يحد من تطلعات كل من ساقته ظروفه التهميش والإقصاء والإبعاد عن كل مداخل الرقي ومسايرة الركب. العرض يعيدنا من جديد إلى المفترق الذي لم نتجاوزه كمجتمع بما هو مطلوب. نص المسرحية حكاية زكريا وعيدة والروابط التي جمعتهما، نكتشف أننا ما زلنا عند ذات اللحظة وعلى إيقاع نفس الملابسات. أقوى من ذلك نسترجع قوة المشاهد والأداء الباذخ للرائد أستاذ الأجيال الفنان عبد القادر البدوي. كريمة تفوقت على والدتها سعاد الهناوي التي أدت ذات الدور منذ ما يزيد على نصف قرن. اختلف الإخراج والسينوغرافيا، وظلت الوقائع تحمل كل تفاصيل الهروب من واقع أصبح لا يطاق. الاستغلال المفرط والعيش على الهامش يقود العاملين ببيت أحد الأثرياء إلى البحث عن سبيل للخلاص مما كانا يتعرضان له من استصغار وسوء معاملة لا يتناسب وما يقدمانه من خدمات. حرما من حقهما في التعبير عما أصبح يجمعها من حب ومودة، يخفيان علاقتهما حتى لا يطالهما غضب الأسياد. لا يمكن أن يتخلصا من قبضة الاستغلال إلا بتصعيد الصراع واعتماد كل الأساليب لتحقيق حلمهما في أن يعيشا معا، بعيدا عن من سلبوا منهما كل آمالهما في أن يعيشا حياة كريمة مفتوحة على كل الآفاق.
النهاية السعيدة بانتصار العاشقين، وانتزاع حقهما في العيش وفق ما يتطلعان إليه، مغادرة فضاء تتواتر فيه معاناتهم وشعورهم الدائم بالدونية والاستعباد، تكشف عن ما سعى إليه صاحب النص، وهو التأكيد على أن الحق ينتزع بالنضال المستمر واعتماد كل الأساليب والوسائل لتحقيق الأهداف، والانتقال من حال إلى حال، وفق لازمة الاستغلال تصده المواجهة الصبورة والإصرار على التخلص من كل عوامل القهر والاستبداد.
تحية عالية لكريمة وحسناء، على سعيهما لتخليد تراث والدهما بكل حمولته الفكرية ونظرته الخاصة في بسط القضايا المجتمعية، وقدرته على الكشف عن كل خفايا معيقات تطور العلاقات المجتمعية على قاعدة الحرية وحفظ الكرامة.
وكان لا بد أن يستعيد الحضور بعضا من عطاءات مبدع أسس لتجربة مسرحية عكست بكل صدق لحظة تحول فارقة في تطور المجتمع المغربي، تجلت خلالها جوانب متحولة في طبيعة العلاقات وما صاحبها من ردات الفعل في مستوياتها المختلفة. هكذا قدمت الفرقة في نهاية العرض باقة من الصور لمشاهد مختلفة من أعمال قدمتها الفقيد على امتداد مسار متميز طيلة سبعين سنة. لكل ذلك ومن أجله تستحق مدينة الدارالبيضاء أن يحمل مسرحها الكبير اسم البدوي، تعبيرا عن الوفاء لروحه الإبداعية.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 21/12/2022