كيف يشتغل الجسد في الفكاهة ؟

 

إن أية قراءة لعالم فرقة « عطا»  لابد من أن نستحضر بالضرورة شخصية المؤلفة ذاتها، ككائن من لحم و دم لا ككائن ورقي و استشعاري كما ترى، لأن ما تقدم مسكون بأسئلة الكتابة الجسدية، وبأسئلة الواقع، وأية قراءة واصفة لهذه النصوص الممسرحة جسديا فهي تربط جدليا بين سؤال الكتابة وسؤال وجود الإنسان، و بين الإبداع الدرامي وسؤال الاسترجاع، فهي قراءة تنتج معرفة حقيقية بالجسد، وتعدو أن تكون ترجمة للأنا كنص مواز له.
من هنا استطاعت لبنى المستور والمجموعة أن تكسر هذا الصمت الذي يدب في أوصال المسرح، وأن تخلق شبكة من العلامات والتفاعلات بين العالم الداخلي والخارجي لكي تصنع لنا مستويات و تجليات متراكبة، لأن الفرقة «عطا» وحدت بين الحكي والمحكي، وبين الإبداعي والإرجاعي ومارست نوعا من الاستفزاز لهذه الأنا الخارجية، لأن الفرقة غايرت المألوف، ووحدت الفكر بالواقع وذلك من أجل تعرية المسكوت عنه وكشف اللثام عن الآثام كما يقول الناقد محمد برادة.
فهذه الفرقة شقت عصا الطاعة فأفردت إفراد البعير المعبد، حيث وحدت كما قلت بين المحكي والمعيش بلغة درامية لتقربنا إلى الجغرافية الداخلية لهذه الذات ولمناطقها الممنوعة والمقموعة.
فحفل افتتاح مهرجان فاس للفكاهة « الضحك فيه و فيه» وتقديم عملها المسرحي المميز «كيف ما كان يكون» بالمركب الثقافي بتازة العليا، فهذه الفرقة ليست سليلة الهامش وليست معقلا للبطولات والملاحم، بل هي فرقة مسكونة بأسئلة ما بعد كورونا طرحت قضايا المعرفة، والوجود، والقيم وأسرار هذا الجسد لتغطي مرحلة زمكانية تتراوح بين الكيف والحاضر . فالمخرجة لبنى نسجت هذا الجسد السردي بلغة دراماتيكية وبطابع إيروسي يهدهد أفق انتظار القارئ رغم بعض التقاطعات والانتقالات بين الممثلين، فالفرقة (عطا شخوصا وفضاء وعلائق، و علامات) عالجت التيمات برحلة سيزيفية تمتد بين أرصفة الركح وجدرانه، هاربون بهذا الجسد كالمستجير من الرمضاء بالنار فالمخرجة لبنى تحرك هذه الأجساد وفق هذه الطبوغرافية الحكائية، حركة لولبية ومكوكبة بين الأجساد والفضاء والإنارة، والديكور، حيث تتسابق الأمكنة والأزمنة، وتكون الميتا اللغة الدرامية عبارة عن ممرات أكثر منها مساكن.
إننا هنا أمام ما يسميه مخائيل باختين فضاء العتبة الموزع بين الخارج والداخل حيث ينعدم الصمت، والاستقرار الجسدي المعياري، مما يجعلنا نحس إحساسا شديدا بالشجو وبرقصات تضيء شعلة هذه الأجساد دون قهر رمزي، ولا صفح زجاجي، وهذه الرؤية كما أرى مهووسة بالتوحد الكياني كأولويات دفاع ضد غيثو المجتمع وبلادته. فالتيمات المركزية المهيمنة واقعا و إبداعا هي عبارة عن عنف الحاجة كما يقول ماركس، لأن الممثلين يكشفون عن الاستراتيجية التي تسكن ذاكرة الجسد ونفوذ خطاه ومسعاه الأبدي، فالفرقة ساهمت في تغيير أفق المتفرج ونوعت من هذا الوتر الساخن الذي يلف هذه الأجساد ودون تحاشي القضايا الفنية و البنيوية التي تطرحها هذه الأجساد الممسرحة، لأن سؤال الفكاهة ليس سؤالا مبتذلا بل ينطلق من قناعة نظرية وإبداعية فهو المعادل الموضوعي الرمزي حسب إليوت للواقع المعيش، كما أنه مستودع أسرار وخفايا. فهذه الأجساد لا تقف عند الحقيقي وإنما اندمجت في هذا الملمح الفني لتحديد هوية الجسد المضاعف بامتياز، لأن طاقته الدرامية قادرة بقوتها على تأدية ووظائف متعددة بلغة الصور الرمزية، كما يقول أوغيست شليجل. والواقع أن هذا الجهد الجسدي لا يمكن أن ينحصر في الممكن و المنفي، وإنما ينبغي امتداده في دراسة الحقيقة المرتبطة بالحاضر (يكون)، لأن هذه الأجساد الممسرحة تنادي بعدم تقبل (الواقع) كوثيقة وصورة فوتوغرافية، بل ينبغي تقبله كواجد الوجود لأنه يفرض نفسه على الذات الفردية بنفس الدرجة من الموضوعية كباقي ظواهر الوجود الحقيقي أو الواقع الخارجي (الأخلاق و المجتمع زكريا ابراهيم ص42) فالجسد القدسي يتخذ بديلا عن الروح الخارقة التي تتضمن بنية لغوية تتعدى المستوى الجمالي للتجربة بالمعنى الكانطي.


الكاتب : د. الغزيوي أبو علي

  

بتاريخ : 29/12/2022