التنكير بين زفزاف وبنيس

 

كلما قرأت كتاب «مع أصدقاء « لمحمد بنيس، أحس أن للغة العربية نفيرا خاصا بداخلي، تنماز به عن باقي اللغات الأخرى. فعلى هذا الأساس، يكون الإحساسُ ممزوجا بالحيرة والغربة في تصيد ألفاظ وعبارات مناسبة للوصف، وتقصي المعاني الغائمة في ملكوت علاقات ربطت بين أدباء وشعراء ومفكرين ، عبروا من زمن إلى زمن آخرَ.
فعندما يضع الكاتب التنكير، لأصدقاء كانت تربطهم أواصر المعرفة والثقافة و النضال، هنا … ننظر إلى جبروت لغة استأسدت على القارئ، بل غلفته في غموض وتناقض ظاهري . فلأغراض التنكير في اللغة العربية غايات ومرام، من بينها نجد ما يل : التقليل والتعظيم . فالظاهر أن محمد بنيس على معرفة تامة بالغرض، الذي يلقى من أجله التنكير في اللغة العربية، والمتمثل أساسا في الرفع من منسوب القيم الفكرية والإبداعية والنضالية لأصدقائه ، الذين ذكرهم في كتابه السالف الذكر، إلا أن التأويل المعرفي يزيغ عن هذا كله ، وقد يخرج عن مقتضى الظاهر أو المألوف، مادامت اللغة تُحَبَّر بالواقع، ومن تحت ظلاله تتفيَّأ .
فلماذا نكَّرهم محمد بنيس؟ وما الفائدة التي تُجنى من ذلك؟
في عرض هذا الموضوع نعود إلى علاقة محمد بنيس؛ الشاعر المغربي الذي بصم المشهد الثقافي بدواوينَ تغنت بالقيم الحضارية والإنسانية والأخلاقية أيضا، والذي رفع، لعقود، لواءَ الانفتاح في الشعر المغربي الحديث، بالأديب و القاص محمد زفزاف، وهو في هزيع من مرض جاثم على صدره. يبدو أن العلاقة بين الشعر والنثر، هي نفسُها العلاقة التي نسج رُواءها كل من ؛ بنيس وزفزاف. وفي ذات المعاني تصبح الصداقة ذاهبة في تجاويف الذات، بل في شعاب الروح. فصحيح أن أول ما خرج من أصلاب زفزاف، وهو مازال في مرحلة الثانوي ، كان شعرا ؛ قصيدة « أغنية الرماد « . وبما تنبأ له أستاذه إبراهيم السولامي، بثانوية التقدم بمدينة القنيطرة، أن له شأوا أدبيا ماثلا أمامه، والذي سيكون آخر أديب يحترق كالعنقاء، ويعود متجددا كما كان للكلمة العارية؛ متمرغا ومتعفرا بأزلام الطبقة المسحوقة اجتماعيا .
كان الشعر ولايزال الثلمة الضيقة، التي عبرت منها صداقات عابرة كالطربيد، في الستينيات من القرن الماضي كان يقام مهرجان الشعر على شرف، كما يحلو لعبد اللطيف الوراري أن يسميه، ناسك الجبل ؛ عبد الكريم الطبال بمدينة شفشاون، وما تزخر به من مناظر تأسر النظر. فتم اللقاء الأول بين بنيس وزفزاف ، أي بين الشعر والنثر مستقبلا . بالموازاة مع ذلك، انتقلا سويا إلى مجلة « شعر «، التي كان يديرها الشاعر اللبناني يوسف الخال . إلا أن أبطال السرد، عند محمد زفزاف، تمردوا على الوزن والقافية، فأدركتهم واقعية تشيخوف كخيوط عنكبوتية لزجة، ومن ثم نظروا وتبصروا إلى رحاب الحكي؛ فكانت القصة القصيرة والرواية رذاذا يبلسم جروحهم .
سعى يحيى حقي، في مجلة « المجلة «، لأن يكون خير محتضن لزفزاف إلى جانب « با ادريس « كناية على العملاق الراحل إدريس الخوري . فالكلمة العارية أبت إلا أن تكشف عن ساقيها عن كعب متخيل جماعي من خلال الأيديولوجية السائدة. فجاءت قصة « الديدان التي تنحني « لتكشف عن حياة قاسية تتمرغ خارج الحدود، وهي القصة التي أبهرت مدير مجلة « المجلة « يحيى حقي . وكان لهذا النشر أثر بالغ على القصة القصيرة العربية ؛ لأن الإبداع ينفتح على تجاربَ جديدة، وبمتخيل غني بانتقادات إيديولوجية، تعيد تشكيل العالم على أساس من العدل والحرية والديمقراطية .
فالحداثة، التي وصف بها الشاعر محمد بنيس، القاص والروائي محمد زفزاف، لا تكمن في تصيد الحدث القصصي أو الروائي بعيون قناص خبر الحرفة عن كثب، وإنما تتجلى في ابتكار لغة عارية وشفافة وقريبة من زخم القارئ. فتلك دمغة زفزافية، كآخر طائر يخرج من عباءة غوغول، ويحلق عاليا، كنسر ضل عشه . قلما نجد كتابا أوفياء لطبقتهم الاجتماعية ، وقلما نجد أيضا قراءً ملتزمين بنهجهم في تشجيعهم للإبداع والمبدعين.
إن الخصوصية التي جمعت بين بنيس وزفزاف، صدحت في كل الآفاق؛ فالأمكنة التي كانا يترددان عليها، تشي بأن العلاقة، فعلا ، توطدت بحبال إبداعية متينة، لا يشق لها غبار . ففي السبعينيات التقيا معا بمدينة الدار البيضاء وبالضبط في مقهى « لا بريس « بالمعاريف صحبة العديد من الشعراء والقصاصين ؛ ملحمة امتزجت فيها الصورة الشعرية بالوصف الذي يبطئ من سرعة السرد، كما يقول حميد الحمداني. فمادام الحلم يكبر وينمو ككرة الثلج ، في صفوف الأدباء ، فالأمر طبيعي أن تجمع مقهى « لا بريس « بالمعاريف، كلا من محمد بنيس و أحمد الجوماري إلى جانب « با إدريس « وأحمد المجاطي، وأحمد المديني وغيرهم . فالتنطع، على الزمن البوليسي، ديدنُ هؤلاء الشبان، الذين لاحظوا أن منع ومحاصرة الأنشطة الثقافية، هو بمثابة مصادرة حق من حقوق الإنسان .
فإلى جانب محمد زفزاف، توقف محمد بنيس في كتابه « مع أصدقاء « عند العديد من الكتاب والسوسيولوجيين أمثال : عبد الكبير الخطيبي صاحب « ثلاثية الرباط « و «صيف في ستوكهولم « ، والكتاب الذائع السيط « الاسم العربي الجريح « . كما أشار ضمن رفقاء دربه الشعري؛ إلى عبد الله راجع ومحمد الخمار الكنوني وأحمد المجاطي من المغرب، ومحمد درويش شاعر المقاومة من فلسطين، الذي كان يشغل منصب مدير مجلة الكرمل ، التي كان يديرها من بلاد قرطاج تونس، إلى جانب المقارن الفلسطيني إدوارد سعيد صاحب كتاب « الاستشراق « . أما خارج الدائرة العربية، فنجد هنري ميشونيك ، وجاك دريدا .
نعود إلى سؤال التنكير في اللغة العربية، فإلى جانب التعظيم ، يظهر أنه ثمة قراءة تأويلية تنفلت من عقال المألوف والاعتيادي . فهؤلاء عظماء لا غبار في ذلك، فمن ينكر سطوة محمد زفزاف في السرد المغربي، أو من يتجاوز ما فعله محمد شكري في سيرته الذاتية ؛ «وجوه « و «زمن الأخطاء « و «الخبز الحافي « .
يبدو أن التنكير، هنا، موجه للقارئ، مادام الكاتب قد ربط، مع هؤلاء الكتاب والشعراء والسوسيولوجيين، أواصر عن كثب تتجاوز كل الحدود . فتوظيف التنكير تصبح له دلالة بلاغية تتخطى المستوى المعرفي إلى المستوى الطلبي ، لذا فالذي يجهل أصدقاء الكاتب هو : القارئ العادي أو المجتمع، الذي يتنفس هواءه الكاتبُ. فلكي يحقق هذا الأخير الغاية من الإبداع الأدبي، ألا وهي تجسير التواصل بين القارئ ومحيطه، لا بد من رفع المنسوب الثقافي للمجتمع ؛ ليكون التواصل رفيعا ؛ وبالتالي يتحقق الهدف من الأدب.


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 30/12/2022