قصة قصيرة : اَلنَّاس يَقُولُونَ ذَلِكَ

 

مَا هَذَا اَلْمَسْخِ ؟ لَا شَيْءً عَلَى حَقِيقَتِهِ ؟ لَا شَيْءً اِكْتَمَلَ؟ بَلدَةُ تائِهَةُ بِجَسَدٍ قَرَوِيٍّ، تُكَافِح لِتَتَخَلَّصَ مِنْ بَدَاوَتِهَا اَلْأُولَى سَاعِيَة لِمَجْدٍ بَعِيدٍ لَكِنَّهَا سُرْعَانَ مَا تَفْشَلُ فِي ذَلِكَ فَتَعُودُ مَدْحُورَةً لِحَالِهَا اَلْأَثِيرِ. هَوَاجِس كَثِيرَةٍ تَجَوُّل فِي حشَاشَةِ هَذِهِ اَلْمَدِينَةِ اَلْفَتِيَّةِ، حُلْمُ اَلتَّغْيِيرِ لَا يُغَادِرُهَا، يَقضُّ مَضْجَعُهَا عَلَى اَلدَّوَامِ. لَا تَسْتَطِعْ اَلْقَفْزَ عَلَى كُلِّ اَلْمُسْتَنْقَعَاتِ اَلرَّاكِدَةِ فِي مَسَارِهَا وَالْعُبُورُ إِلَى اَلضَّفَّةِ اَلْأُخْرَى حَيْثُ حَيَاةٌ جَدِيدَةٌ وَأَمَلَ جَدِيدٌ .
اِمْتَلَأَتْ اَلْمَطامير اَلَّتِي أنشأها اَلنَّاسُ بِجوارِ مَنَازِلِهِمْ لِجَمْعِ اَلْمِيَاهِ اَلْعَادمَةِ وَغَابَتْ عَنْهُمْ شَّاحِنَةُ «البلَديَةِ» اَلْمُكَلَّفَةُ بِتَفْرِيغِهَا كَإِجْرَاءٍ تَرْقِيعِيٍّ. فَاضَ اَلْمَاءُ وَتَسَرَّبَ إِلَى وَسَطِ اَلْمَدِينَةِ فَتَحَوَّلَتْ الأزقّةُ الضيقةُ إِلَى مُسْتَنْقَعات أَسِنَة ينفُرُ اَلنَّاسُ مِنْها .
يرشّ سائقو اَلسَّيَّارَاتِ اَلدَّارِجَيْنِ وَالرَّاجلِينَ بِمِيَاه كَرِيهَةِ اَلرَّائِحَةِ فَتَلْتَصِقُ بِهمْ طَوِيلاً لَا تُغَادِرُهُمْ . يَسُبُّونَ بَعْضُهُمْ اَلْبَعْضُ بَلْ وَيَحْتَدِمُ اَلنِّقَاشُ أَحْيَانًا إِلَى عِرَاكٍ حَقِيقِيٍّ يَنْتَهِي فِي مَخْفَرِ اَلشُّرْطَةِ .
فِي مَقْهَى « اَلْعَرَبِيِّ « اَلْعَتِيقِ اَلْمُتَدَثِّرِ بِدِثَارِ اَلسِّينَمَا، حَيْثُ يَشْتَرِي اَلنَّاسُ نَصِيبَهُمْ مِنْ اَلْفَرَحِ. قبلَ أَنْ يَدْلِفُوا مِنْ اَلْبَابِ اَلْحَدِيدِيِّ اَلْمُوَارِبِ يُؤدونَ ثَمَنُ اَلْمَشْرُوبِ وَالْفِيلْمِ مَعًا. مَقْهَى مُظْلِمٌ يَسْمَحُ لِلْمُتَفَرِّجِينَ بِمُتَابَعَةِ اَلْفِيلْمِ بِتَرْكِيزٍ عَالٍ، عُيُونُهُمْ مُعَلَّقَةً على الشاشةِ وَجَاحِظَة، أَفْوَاهُهُمْ فَاغِرَة، اَلْمُخَاطُ يَتَدَلَّى مِنْ أُنُوفِ اَلصِّغَارِ دَلِيلَ اَلتَّرْكِيزِ اَلْمُفْرِطِ مَعَ تَفَاصِيلِ اَلْفِيلْمِ اَلْمُشَوِّقَةِ، يَعِيشُونَ اَللَّحْظَةُ بِمَا تَحْمِلُ مِنْ مَشَاعِرِ اَلْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ أَحْيَانًا وَالْحُزْن وَالْغَيْظ أَحَايِينَ أُخْرَى ، وَلَحَظَات رُومَانْسِيَّة مَسْرُوقَة مِنْ عَلَاقَةٍ حَمِيمَةٍ بَيْنَ اَلْبَطَلِ وَعَشِيقَتِهِ .
يَنْتَهِي اَلْفِيلْمُ فَترفَع اَلسَّتَائِرَ وَيَزُولُ اَلظَّلَامُ بِفَتْحِ اَلْبَابِ اَلْيَتِيمِ لِلْمَقْهَى وَنَوَافِذِهِ بَعْدَ أَنْ يَضْرِبَ « اَلْعَرَبِيُّ « اَلْمَوْعِدُ لِمُرْتَادِي اَلْمَقْهَى اَلْأَوْفِيَاءِ مَوْعِدًا لِلْيَوْمِ اَلْمُوَالِي مَعَ فِيلْمٍ جَدِيدٍ. يَنْصَرِف اَلْبَعْضُ وَيَبْقَى اَلْبَعْضُ يَتَهَامَسُونَ وَيَتَنَاقَشُونَ حَوْلَ أَحْدَاثِ اَلْفِيلْمِ، فَهَذَا يَتَذَمَّرُ مِنْ تَصَوُّرِ اَلْمُخْرِجِ اَلَّذِي قُتلَ اَلْبَطَل باكِرا وَذَاكَ تَمَنَّى لَوْ طَالَتْ لَقْطَةَ اَلْبَطَلِ وَهُوَ فِي أَحْضَانِ حَبِيبَتِهِ، وَآخَرُ يَقُولُ بِأَنَّ اَلْمُخْرِجَ مَاسُونِيٌّ نَجِسٌ وَخَسِيسٌ لِأَنَّ اَللَّوْحَةَ اَلتَّشْكِيلِيَّةَ اَلَّتِي ظَهَرَتْ فِي اَلْفِيلْمِ تَتَضَمَّنُ رُمُوزا مَاسُونِيَّةٌ مَعْرُوفَة. وَطَرح سُؤَالاً ذَهَبَ أَدْرَاجَ اَلرِّيحِ :
_ « هَلْ يَعْتَقِدُ هَذَا اَللَّعِينِ أَنَّنَا نَأْكُلُ اَلتّبْن ؟ «
يَشْرَبُونَ اَلشَّايُ وَيَأْكُلُونَ اَلْخُبْزَ بِزَيْتِ اَلزَّيْتُونِ أَوْ بِالسَّرْدِينِ اَلْمُعَلَّبِ. وَيُغَادِرُونَ كُل إِلَى وُجْهَتِهِ اَلَّتِي أَتَى مِنْهَا.أنْزَوي وَرِفَاقِي إِلَى رُكْنٍ يَسْمَحُ لَنَا بِرُؤْيَةِ اَلْغَادِي وَالرَّائِحِ، نَشْرَبُ اَلشَّايُ وَنَأْكُلُ لَحْمَ اَلْعَابِرِينَ اَلنَّيِّئَ اَلصَّعْبِ اَلْمَضْغِ وَالْمَسْمُوم . . .
قَالَ أحد رِفَاقِي بَعْدَ أَنْ عَرَجْنَا عَلَى مَوَاضِيعَ كَثِيرَة :
_ « أَنَّ سَيِّدِي حَمُو طَالَبْ اَلْفَقِيهُ اَللَّبِيبُ وَالشَّاعِرُ اَلْمَشْهُورُ اَلَّذِي قَالَ شِعْرا كَثِيرا فِي وَصْفِ اَلْمنْطَقَةِ وَفِي اَلْحُبِّ وَفِي اَلصِّدْقِ . . . كَانَ يَجْلِسُ فِي هَذَا اَلْمَقْهَى بِالذَّاتِ . «
عَلَتْ اَلدَّهْشَةُ تَقَاسِيمَ مَحيَايَ وَقُلْتُ وَأَنَا أُوَجِّهُ إِلَيْهِ اَلسُّؤَال :
_ « أَيْنَ قَرَأتَ ذَلِكَ ؟ «
أَجَابَنِي وَهُوَ يَنْظُرُ بَعِيدًا فِي اَلْفَضَاءِ اَلضِّيقِ أَمَامَنَا وَيَتَأَمَّلُ فِي اَلْفَرَاغِ :
_ « اَلنَّاسُ يَقُولُونَ ذَلِكَ . «
قَلَّتْ مُعَقِّبا وَتَقَاسِيمَ اَلدَّهْشَةِ ذَهَبَتْ أَدْرَاجُ اَلرِّيحِ :
_ « اَلنَّاسُ يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّونَ اَلْحِكَايَاتُ، حكيٌ خَيَالِيّ بَعِيد عَنْ اَلْحَقِيقَةِ وَبَعِيد عَنْ اَلصِّدْقِ ، يَحْكُونَ كَثِيرًا فَيَمُوتُونَ وَيَتْرُكُونَ اَلْكَثِيرَ مِنْ اَلْحِكَايَاتِ اَلَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، فَتَتَفَرَّعُ حِكَايَاتُهُمْ اَلْخُرَافِيَّةُ. وَلِأَنَّ اَلنَّاسَ يُحِبُّونَ اَلْخُرَافَةُ وَتُتْعِبهُمْ اَلْحَقِيقَة، لِذَلِكَ تَجِدُ اَلنَّاسَ لَازَالُوا إِلَى اَلْيَوْمَ يَتَنَاقَلُونَ حِكَايَاتٌ قَدِيمَةٌ جِدًّا لَا أَحَدَ يَعْرِفُ تَارِيخُهَا وَأَصْلُهَا. لَا زَالَتْ حَيَّةً رَغْمَ مَا فَعَلَتْهُ اَلتِّكْنُولُوجْيَا بِالْأَجْيَالِ اَلْحَالِيَّةِ . «
صَمْتُ رَدَحًا مِنْ اَلزَّمَنِ ، اِنْكَبَّ عَلَى شُرْبِ اَلشَّايِ ، اِرْتَشَفَ رَشْفَةً خَاطِفَةً ، وَأَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا وَطَوِيلاً مِنْ سِيجَارَتِهِ اَلرَّخِيصَةِ ، نَفَث غلَالَة من دُّخَّانِ لتَرسم مَسَارهَا إِلَى اَلْأَعَالِي تم قَالَ :
_ « هَلْ تَرَى اَلْجَبَلَ اَلْجَاثِي هُنَاكَ أَمَامنَا مُبَاشَرَةً ؟
« أَجَبْتُهُ فِي اَلْحِينِ بِأَنَّ حَرَّكَت رَأْسِي وَهَمَست قَائِلاً :
_ « نَعم ذَلِكَ اَلْجَبَل اَلْأَسْوَد ذَو اَلرَّأْسِ اَلْأَسْوَدِ اَلْحَادِّ . «
_ نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ ، هُنَاكَ كَانَ يَجْلِسُ عَبْدَ اَلْمُومِنْ اَلْمُوَحِّدِي ، عِنْدَمَا زَارَ هَذِهِ اَلْمَدِينَة.
قَلَّت بِذَاتِ اَلدَّهْشَةِ اَلسَّابِقَةِ :
« أَيْنَ قَرَأَتَ ذَلِكَ ؟»
قَالَ وَهُوَ يَنْفُث اَلدُّخَّانُ إِلَى اَلْأَعْلَى مجددا فِي حَرَكَةٍ بَطِيئَةٍ :
– « اَلنَّاسُ يَقُولونَ ذَلِكَ . «
قُمْتُ وَهَمَمْتُ بِالْمُغَادَرَةِ مُتَذَمِّرًا مِمَّا يَقْذِفُنِي بِهِ مِنْ حَمَاقَاتٍ لا تنتهي. وَقَالَ وَهُوَ يُحَاوِلُ رَدْعِي مِنْ اَلِانْسِحَابِ وَإِقْنَاعِي بِصِدْقِ قَوْلِهِ :
– « اَلنَّاسُ لَا يَتَكَلَّمُونَ منْ فَرَاغٍ ، كُلُّ مَا يَقولونَهُ حَقِيقَةً لَا يَرَاهَا اَلْجَمِيعُ، أَوْ سَيُصْبِحُ حَقِيقَةً ذَاتَ يَوْمٍ . «


الكاتب : حَسَنْ بُوَازْكَارْنْ

  

بتاريخ : 30/12/2022