عودة الرواية الفرنسية إلى الجذور مع ساندرين كوليت

جميع الأعوام في فرنسا هي للرواية، التي ترسخت منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومنذئذ وهي تتنوع وتتوزع خططا وأساليب وتخييلات ودائما في سياق التغيرات الاقتصادية والبنيات الاجتماعية وثقافات المحيط الصانعة كلها لأنماط عيش وأنواع سلوك وسيكولوجيات فردية هي مضمار الرواية الواقعية مواضيعها ومشاغل شخصياتها المنبثقة من عالم جديد خارج من رحم قديم ، ولذلك احتاج إلى شكل إلى جنس أدبي سردي موضوعي ومنفتح على خيال خصب، تعبير الفرد الحر عن مشاعر وليدة وقيم صاعدة من أولوياته، فلا الأدب كتابة صدفة، ولا التعبير عن الأنوات رغبة شخصية محض، الأدب حسب «ماشيري» إنتاج فعالية اجتماعية إنسانية مطورا بذلك ذلك الانعكاس البارد لربطه المباشر بالواقع وكذلك العلائق شبه الميكانيكية التي تقيمها سوسيولوجيا الأدب في آخر تنظيراتها كما ناقشتها منذ قديم مع أستاذي جاك لينهارت. إن التحول الباهر الذي عرفته الرواية الفرنسية في العقد الثاني من القرن العشرين مع مارسيل بروست(1971ـ1922) مصدره عمل ضمير المتكلم لسانا لخزان الذاكرة وتشكيلا للذات في آن، فيجتمع في» البحث عن الزمن الضائع» مكونان، بالأحرى يلتحمان، ومن هذه التجربة لن يعود بعد للرواية الغربية والفرنسية خاصة فكاك من أسر الأنا وتحددها مركزا لمحيط.
هي نقلة كبيرة وواسعة، مسافة وزمنا نصيا وفنيا، قطعته الرواية منذ ذلك التاريخ إلى الحاضر.
يجد قراء الرواية الغربية، والفرنسية على الخصوص، أنفسهم اليوم، أمام ظاهرة استفحال الكتابة عن الذات وجعلها محورَ الحكي ومجالَ الفعل واستثمارِ الذاكرة وإنتاجِ الخطاب. لا أتحدث عن السيرة الذاتية جنسا أدبياً مستقلا بطريقته وخصائصه، منذ وضع جان جاك روسو(1712ـ1778) نموذجها المعتمَد» الاعترافات»(1782) توارثه ونمّاه رعيلٌ من الكتاب أهمهم شاتوبريان في القرن التاسع عشر(1768ـ1848) وليس انتهاءً بسارتر في القرن الماضي، بسيرته» الكلمات»(1963)، تُعدُّ النصَّ الأبرزَ تمثيلا في نوعها. أريد لفت النظر مجدّداً إلى طغيان نوع فرعي اصطلح على تسميته» التخييل الذاتي» أضحى متسيِّداً في حقل الرواية في فرنسا حتى لا يكاد يُكتب غيرُه منذ حوّلته مارغريت دوراس (1914ـ1996) ونضج عندها في صيغة سرد واقعٍ مزيج من سيرة الذات ومحكيِّ ووقائع المحيط والتاريخ، وتُوِّج نقدياً بحصولها على جائزة غونكور(1986)عن روايتها» العشيق»L’Amant(1984).
بينما وجدنا هذا الطرز من السرد التخييلي(افتراضاً) يحظى بتقدير عالمي بنيل آني إيرنو لنوبل للأدب بمجموع أعمالها كَتبت على منواله مع تميّزها بتبديل مركزية الأنا بالمجال الاجتماعي. في الشهر الماضي فازت بريجيت جيرو بالغونكور 2022 عن روايتها « Vivre vite» تحكي فيها قصة خسارات حبٍّ فات وتسترجع آلام مصرع زوجها في حادث مع احتمالات بقائه، وهكذا دواليك نجد في عشرات روايات لرجال ونساء جلّها أنوية وسرودٌ مُموَّهةٌ لذوات. بالطبع، لا نعدم أعمالا خارج هذا الاهتمام وبغير نمطه الفني الذي يكاد يصبح بديلا للرواية الواقعية الفنية بتياراتها وأساليبها المتنوعة، فحقل الرواية في فرنسا كان ويبقى دائما واسعا تتعايش فيه الظواهر والطرائق الفنية والأجيال، وهي لم تغادر الواقع أبدا وإنما تُغيِّر المنظور. يرجع هذا إلى تعدد مظاهر الحياة وأشكال العيش وأوضاع ومصالح الفئات الاجتماعية، وغنى العوالم الداخلية للأفراد هنا في الغرب حيث الفرد قيمة ٌراسخة والقلم حر بلا رقيب أو مقدس.
في هذا المناخ المنفتح والمتعدد تتحرك ساندرين كوليت(Sandrine Collette) تنخرط في بداياتها (مطلع الألفية الثالثة) في موجة الرواية البوليسية ذات التاريخ العريق والتقاليد والاتجاهات، اعتُبرت لونا شعبيا أكثر منه أدبياً في جميع البلدان الغربية حيث سادت ثم ما لبثت تقضِم حصة كبيرة في السوق تبلغ ربع مبيع الرواية سنويا في فرنسا(إحصاء 2020) ولها معلمون كبار، وصعدت أدبا راقيا حين دخلت دار غاليمار من محراب سلسلة (لابلياد) للخالدين المخصصة للكلاسيكيين، بنشر الأعمال الكاملة لسيمنون، هو من هو في هذا القصة البوليسية. انجذبت ساندرين كوليت أولا إلى هذا النوع وحققت سريعا شهرة بروايتها»Les nœuds d’acier»(2013) صدرت في سلسلة للأدب البوليسي عند دار(دونويل) وحازت جائزته السنوية بامتياز. ثم أتبعتها بأخرى من جنسها «vents de cendres»(2014) رسختها في هذا المضمار. وبما أنها سيدة مترحِّلة في دراستها واهتماماتها، بدأت بدراسة العلوم وقدمت أطروحة جامعية في العلوم السياسية، واشتغلت في قطاعات تجارية لتغادر المدينة وتستقر في منطقة( لومورفان) متفرّغةً للكتابة.
هنا في أرض الغابات حيث الطبيعة خلابة وسيدة، ستغيّر كوليت مجرى قصتها وتقلّب تربة جديدة لم تطأها، تخوض في أراض وهموم أبعدَ وأنفذ ستراها تدريجيا في قلب تكوين الحياة وشواغل الإنسان، الفزع والتخلي والأمان الضائع أقواها، تحضر في خط تحوّلها الروائي مثل حكاية عجيبة»Et toujours les forets»(2020). ويهمنا هنا الوقوف على روايتها الأخيرة «On était des loups»(ج ك. لاتيس) نترجمها مؤقتا» كُنّا ذئابا» تُعدّ من أهم إصدارات الموسم الروائي الحالي في فرنسا، ورُشّحت لأهم الجوائز، وأخيرا نالت جائزة رونودو لتلاميذ الثانويات، وجائزة جان جيونو وهما مهمتان، والأهم أنها تحظى بإقبال لافت، فأقوى الجوائز لم تعد مقياسا حاسما في الجودة، منها الغونكور أخطأت هذا العام فائزها وتحظى رواية دا أمبوليا المنافسة «Le Mage du Kremlin»(غاليمار) بقصب السبق في الاهتمام والشيوع.
رواية «كنا ذئابا» تخترق المعيارية النقدية وتتحول بسرعة إلى نص حدث أدبي، نعم، هي لكاتبة اسم علم في السوق والمحيط الأدبي رغم أنها اعتزلت المناخ الباريسي وطقوسه، لكن، لأن هناك أيضا تخمة من السرود الحميمية فاضت عن الحاجة بينما الحياة تعجّ بالهموم وفوق العابر. سنقصُّ القصةَ لنعرف الفرق: هو رجل في منتصف العمر، وحيد، يعيش في منطقة جبلية مكسوّة دائما بالثلوج، تشبه القطب الشمالي، فالمكان غير محدد، شأن الزمن لا معلوم، نظرا إلى أن ما سيجري ويعاش يمكن أن يحدث في كل مكان وزمان، ويلمح في آن إلى المراد الأبعد من الرواية. البطل لِيام تمضي حياته المعزولة بين بيته الجبلي المعزول بينه وأقرب جار فراسخ وعن المدينة مسافات. يذهب إلى صيد الطرائد أياما مع فرسيه، سنرى أنهما يتحولان شخصيتين آدميتين تقريبا فكل ما في الطبيعة الفطرية البيضاء حيٌّ وفاعل. ثم يعود ويهدأ أياما أخرى. يتعرف ليام في السوق صدفة على امرأة شابة، آفا، تُعجب بنمط عيشه فتفارق أهلها ويتزوجان وتنجب طفلا يسميانه آرو. يمضي العيش هنيّاً وإن ظهر الزوج أقرب إلى الاحتفاظ بعزلته السابقة وعلاقته بزوجته محايدة، كل منهما في شغله، بينما العلاقة بالابن شبه منعدمة، هو في ذهنه لا يعرف كيف جاء ولماذا ويعتبر أنه موجود لأمه التي أنجبته، فقط. مع استثناء واحد يكسر جليد جموده العاطفي تجاهه، وهو حين يعود من رحلة الصيد يكون أولَ من يرى مثل نار على جبل فيُقبل عليه الصبيُّ ويعانقه ثم ينصرف إلى أمه، كالعادة.
إلى يوم يعود فلا يرى، لا يجد الطفل ابنه ينتظره، يبحث في البيت وخارجه ويكتشف أخيراً زوجته مرميةً مُدمّاةً بمخالب دُبّ، قتيلته، وبعد أن يبحث طويلا عن آرو يعثر عليه تحت عطف وسربال أمه التي حمته من الحيوان. هنا تبدأ القصة الحقيقية لليام. ها هي حياته ستنقلب رأسا على عقب. كيف سيواصل الصيد بعبء الطفل؟ كيف سيرُبي الابن؟ كيف سيعيش من الآن فصاعدا؟ وبما أنه يفتقر إلى أي عاطفة أبوية يقرر الرحيل به إلى عمة له في المدينة بعد مشقة سفر جبلية عسيرة، تنتهي برفض زوجها إيواء الطفل، فيعودان معا عبر جبال وشعاب، وفي الطريق إلى مسكنه البعيد يقرر الوفاء لزوجته الراحلة بما لم يستطع تلبيته في حياتها، أن تُعمِّد ابنها في بحيرة تحبها، فيمضي هو والإبنُ والفرسان نحوها يعانيان مشاقا عسيرة ويتعرضان لأشد المحن أخصّها محتال يتاجر في الأطفال أراد سرقة الولد وسمّم الأب حتى كاد يُسلم الروح لولا أنقذه آرو نفسُه. ابن الخامسة أطلق الرصاص على المحتال وأمكنه الذهاب لإحضار النجدة ونقل أبيه من الجبال وإنقاذه من موت محقق، وبعد شفائه يعودان للمنتجع لتنسج علاقة أبوة حقيقية بينهما.
نستطيع أن نتبين الخطوط الجغرافية والفكرية والنفسية لخريطة هذه الرواية. هي مشيدةٌ أولا في فضاء مجردٍ معمَّرٍ بالجبال والثلوج والغابات، العزلة والخوف، تقطنه الحيوانات وقليل من البشر يقتاتون على جلودها وفرائها وهي صامدة في معقلها وتقتات بقتلهم، هذا الصراع الأزلي في طبيعة متنازع على ملكيتها. والوحدة، كذلك، اختيار العزلة بعيدا عن المدينة الملوثة، والعودة للطبيعة، للمكان الأول. ثم هذه العلاقة المفترضة مسلماً بها بين الأب والإبن، إحساس الأبوة الذي يرفضه ليام، بل يمقته ولا يفهمه، حتى إنه يَهُمُّ بإغراق ابنه وهو بصدد تعميده. ثم، حين يداهمه، يداهمهما الخطر بِعدوٍّ غيرِ متوقّع، الحقيقة أنه عدوٌّ حاضرٌ دائما في الحياة، إذذاك وإثر معاناة طويلة هي امتحان للنفس الإنسانية والغريزة، تعود الأشياء إلى طبيعتها، ويمكن للأب أن يتصالح تدريجيا مع غريزة وشعور الأبوة، والوجود نفسه، فكرة الميلاد الإنساني المأمول من جديد في عالم الخراب.
كتبت ساندرين كوليت رواية جديدة حقا خارج السياق السائد والذي صار رتيبا ومملا. كتبت قصة مرهفة بثقافة فلسفية وروح مغموسة في التراجيديا الإنسانية بين البقاء والفناء ، الحب والكراهية، وخصوصا من يمتلك الحق في ملك هذا العالم، إذ هذا محط نزاع دائم. تستحق» كنا ذئابا» قراءة أخرى تظهرها على مستوى تقنيتها ولغتها وأسلوبها ومعمارها وحبكتها البوليسية المحكمة المليئة بالتشويق رغم أنها تجري كلها في مجال جبلي قروي، فقد استفادت من تجربتها في كتابة الرواية البوليسية، ومن البساطة التي تقتضيها هذه في الكتابة ليقرأها الجميع ويتابع أحداثها ونموها، وإنه هنا نموٌّ سيكولوجي، عاطفيٌّ حاد، حجمه أكبر وأقوى من الأحداث، لذلك يمكن أن تُصنف روايةً سيكولوجية بامتياز، بمهارات أداء مباشرة وموحية، معا. منها على الخصوص استعمال طريف ومخاتل لضمير المتكلم المتنقل بين وضع السارد وصوت الشخصية(البطل) الأب ليام، وثالثا هو صوت آخر يقولهما معا ويحكي الشخصيات الأخرى والأمكنة كلها والماضي والحاضر، سارد كليِّ وفي الوقت ليس عليما فتحتفظ معه الرواية بإثارتها ولأنها أيضا شخصية تصارع مشاعرها وتتحول ببطء وعَنت، وهذا الإيقاع لا يأتي متناغماً ومحكماً إلا عند معلمات ومعلمي الرواية، بهم يخلد هذا الفن ومنهم نتعلم.
ذكرت أعلاه أن هذه الرواية نالت جائزة رونودو لتلاميذ الثانويات، جذبت اهتمامهم وخاطبت ذائقتهم، ليس لبطولة وصراع طفل داخلها وتنازع شعور الأبوة فحسب، بل لأن كاتبتها نجحت في أن تتوجه لأعمار الكبار والفتيان في آن، وتحرك المشاعر البسيطة الفطرية لدى الإنسان بصرف النظر عن سنه، الأمومة والأبوة، لا شك شعوران عظيمان غريزيان ويُكتسبان. ولكي تبلغ الروائية هذا الخطاب عمدت خصوصا إلى استخدام أسلوب نصف فصيح نصف عامي، كتابي وشفوي ، وإنك لتقرؤه وتسمعه في وقت واحد، على طرز الحكاية، لذلك فقصة ساندرين كوليت رواية وحكاية كما هي كتابات باولو كويلو، مثلا، وهنا أجد حكايتها أرقى وأبلغ.


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 06/01/2023