أخواتي إخواني:
يشكل هذا اليوم الدراسي بين فريقنا البرلماني بمجلس المستشارين وقطاع المحامين الاتحاديين فرصة سانحة تتيح لحزبنا تملك رؤية واضحة حول أوضاع مهنة المحاماة، خاصة بعد المعارك الأخيرة التي عاشتها المهنة، ونحتاج إلى تقييمها بالموضوعية الضرورية واستخلاص ما يتعين من دروس وخلاصات. وهو ما يقودني إلى طرح الاستفسار الأولي الذي يفرض نفسه، وفي حضور السيد وزير العدل، ورؤساء سابقين لجمعية هيئات المحامين بالمغرب، ونقباء، وقيدومين ممن عاصروا تاريخ المهنة وتحولاتها، ومن شباب في بداية المسار.. هل مهنة المحاماة في حاجة إلى إصلاح قانوني جديد؟
إنني لن أبالغ بالقول إن مهنة المحاماة من بين المهن التي تأثرت بشكل جلي بالتحولات المجتمعية التي عرفتها بلادنا، تحولات أحدثت تغييرات جوهرية في الأوضاع المادية والاعتبارية للمحامين، وفي الأدوار والأدبيات التي طبعت مسار المحاماة من خلال مؤسساتها ومنتدياتها ومواقف مؤتمراتها منذ بداية الاستقلال ولأزيد من نصف قرن حيث شكل المحامون طليعة النضال من أجل الديمقراطية ودولة المؤسسات والحق والقانون وحقوق الإنسان، وقيادة الحركة السياسية ببلادنا.. وإذا كانت الأوضاع المادية لشرائح واسعة من المحاميات والمحامين لم تعد تضمن الكفاف، فقد تأثرت نتيجة لذلك، بالإضافة لأسباب أخرى، تقاليد وأعراف المهنة، ومبادئ ومقومات طبيعتها كرسالة إنسانية وحقوقية، ومن تم ريادتها للفعل السياسي في مختلف تجلياته الديمقراطية والتعددية والحقوقية، حيث لم يعد البعض يجد حرجا، كما سجلنا ذلك في مناقشات لجن المؤتمر الأخير بالداخلة، في الدعوة لتنافي الانتماء السياسي للمحامين من تولي مهام في المؤسسات المهنية..
وإذا كان القانون 28.08 المنظم لمهنة المحاماة قد اعتمد إصلاحات استجابت لحاجيات كانت تفرضها الظروف وقتذاك، وساهمت في تمنيع وتقوية استقلالية المهنة وحصانتها، ووسعت من مجال احتكار تمثيلية الأطراف أمام القضاء، وعالجت اختلالات الودائع، فإن كل محاولة لإصلاح المهنة اليوم، يتعين أن تنطلق من تشريح علمي موضوعي وعقلاني لأوضاع المهنة، ومن تم الاستجابة لما تحتاجه من تدابير وإجراءات تعالج اختلالاتها وتروم تعميق حصانتها واستقلاليتها وتوسيع مجالات احتكارها وتعزيز مكانتها وتحديث أساليب ممارستها.
أخواتي إخواني:
لقد اختارت سكرتارية قطاع المحامين تأطير هذا اليوم الدراسي تحت شعار «من اجل إطار قانوني حداثي لمهنة المحاماة»، فإنني أراهن على أن تشكل العروض التي سيتفضل بها الإخوة والأخوات من ذوي التجربة والخبرة، وكذا النقاشات الجماعية الخصبة التي ستتلوها، والخلاصات التي ستنتهون إليها، ستوفر للحزب وفريقيه البرلمانيين، الرؤية الواضحة، والمقترحات الإيجابية، التي سنغني من خلالها مساهمتنا في تجويد المشروع الذي تعتزم الحكومة عرضه في المسار التشريعي في قادم الأيام.
وأسجل في هذا السياق ما تم التوافق عليه بينكم السيد وزير العدل وبين مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب بشأن اعتماد مقاربة تشاركية في إعداد مشروع إصلاح قانون المهنة، وهي مقاربة تجد سندها في الدستور، وفي التقاليد الديمقراطية العريقة، وهي مقاربة لا يمكن إلا أن تنضج مشروعا في مستوى تطلعات المحاميات والمحامين المغاربة. وفي انتظار ما ستسفر عنه مداولات اللجنة المشتركة بين الوزارة والجمعية، وما ستقدمه الهيئات ونقباؤها من مساهمات؛ فإننا نعتبر هذا اليوم الدراسي لبنة من لبنات هذه المقاربة التشاركية، إذ سنحاول خلاله تقديم مساهمة حزبنا في هذا المجهود الجماعي لوضع إطار جديد لمهنة المحاماة.
أيتها الأخوات، أيها الإخوة:
اعترافا بأهمية المحاماة في تحقيق العدل؛ عمدت دول عديدة إلى دسترتها، فإذا اتجهنا شرقا نجد أن مصر قررت في الفصل 198 من الدستور أن «المحاماة مهنة حرة مستقلة، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة، وسيادة القانون، وكفالة حق الدفاع، ويمارسها المحامي مستقلا..»، كما قرر الدستور التونسي في باب الحقوق والحريات حق المتهم الموقوف بالاستعانة بمحام.. وإذا اتجهنا شمالا نجد الدستور الاسباني يقرر حق المتهم في الاستعانة بمحام، سواء في مرحلة البحث التمهيدي أو أثناء المحاكمة، كما قرر إشراك المحامين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية. لذلك اعتبرنا في الاتحاد الاشتراكي أن تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية كان من المفروض أن تمثل فيه هيئة الدفاع، تأكيدًا لكونها جزء من أسرة القضاء.
وفي سياق إصلاح قانون المهنة، وتفاعلا مع النقاش الجاري في أوساط المحامين، واستكمالا للنقاش الذي عرفه مجلس التنسيق الوطني للقطاع، واجتماعات السكرتارية المنبثقة عنه، ينتظر من هذا اليوم الدراسي الذي يستضيفه فريقنا في مجلس المستشارين، من خلال العروض القيمة التي ستقدم أمامكم والنقاش الذي سيتلوها، أن يبلور قطاعنا الحزبي مقترحات في مختلف القضايا التي يقترحها حزبنا لتجويد الإصلاح المنتظر لقانون مهنة المحاماة، وفي هذا السياق لا بد من استحضار بعض القضايا التي اعتبرها أساسية في هذه المرحلة، وقبلها استحضر التوجيهات السامية التي تضمنتها الرسالة الملكية للمؤتمر الدولي للمحامين المنعقد بفاس شهر غشت 2005، حيث أكد جلالته وهو يتحدث عن مهنة المحاماة «.. وبقدر ما أصبح لمهنة المحاماة من طابع عالمي، فإنها تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، واعتماد التكوين المستمر، والاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، والتوفيق بين وجوب احترام الحريات، وصيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء. دون أن ننسى أنها قبل كل شيء، مهنة إنسانية مثالية تقتضي إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل، من أجل مساعدة القضاء، الذي يُعتَبَر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، وشريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق ورفع المظالم، على أسس العدل والإنصاف وسيادة القانون، ونشر الثقة والاستقرار، اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، وتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية الاقتصادية». (انتهى المنطوق الملكي).
تأسيسا على كل ذلك، أود أن أشارككم بعض القضايا التي أعتقد أنها ذات راهنية في كل محاولة لإصلاح المهنة والقانون المنظم لها:
أولا: بالنظر لما ترتب عن دسترة استقلال السلطة القضائية، وصدور القوانين التنظيمية المؤطرة لهذا الاستقلال، ولما أصبحت تتمتع به مكونات هذه السلطة من مجلس أعلى للسلطة القضائية ونيابة عامة من اختصاصات وصلاحيات، يتعين أن يحرص القانون المنظم للمهنة على إعادة تعريف مهنة المحاماة باعتبارها رسالة ذات أبعاد حقوقية وإنسانية، واعتبارها شريكا للقضاء في إنتاج وتحقيق العدالة وسيادة القانون. وهذه الشراكة تستلزم تقوية وتمنيع استقلالية المهنة وحصانة الدفاع.
ثانيا: ضرورة استحضار مقتضيات الفصل 19 من الدستور بشأن المساواة بين الجنسين، وما تقتضيه المواثيق الدولية بشأن مقاربة النوع، من خلال التنصيص في القانون المنظم للمهنة على وجوب تمثيل المحاميات في المؤسسات المهنية بتناسب مع عددهن في الهيئة في أفق المناصفة.
ثالثا: وتأسيسا على معطى لزوم تمثيلية المحاميات في المؤسسات المهنية، يتعين تقييم النظام المعتمد حاليا في انتخاب النقيب وأعضاء المجلس، وما إذا كانت تمة مقترحات لتجويده بما يضمن الانسجام بين مكوناته ويتيح فعالية أكثر في معالجة القضايا المهنية التي تزداد باستمرار مع تزايد عدد المحامين.
رابعا: إن الأوضاع المستجدة في المهنة، وتزايد الإقبال عليها، وتوفير شروط استقبال تحفظ كرامة المحامين، لا بد من توسيع مجال احتكار المهنة. كما يتعين اعتماد مقاربة المباراة على قاعدة الاحتياجات الفعلية للمهنة عوض منهج الامتحان المعتمد حاليا مع ما يخلفه من آثار.
خامسا: وتفاعلا مع النقاش الجاري بشأن إحداث مجلس وطني للهيئات؛ لا بد من التفكير الجدي في وجود حاجة فعلية لمثل هذا الإطار، وفي هذه حالة وجودها، يتعين التفكير مليا في تركيبته واختصاصاته، بالشكل الذي يحفظ للنقباء ومجالس الهيئات اختصاصات تدبير الشأن المهني.
• سادسا: من المؤكد أن مهنة المحاماة توجد في قلب تطورات حادة بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وحتى يتمكن المحاميات والمحامون من مواكبتها، لا مناص من الاهتمام بضرورة تحديث مكاتب المحامين وأساليب الاشتغال، كما يقتضي العناية بالتكوين والتكوين المستمر لمواكبة المستجدات وتملك الثقافة القانونية والعامة، ما يفرض على الدولة تحمل أعباء إعداد مراكز للتكوين الجهوية، تقدم خدماتها للقضاة والمحامين، باعتبار أن العدالة تعتبر صمام أمان المجتمع، وعنوانا لاستقراره المؤسساتي، وقطاعا فاعلا في مجال تشجيع الاستثمار.
هذه وغيرها من القضايا المطروحة على هذا المنتدى العلمي، الذي يزخر بالطاقات والكفاءات، وبغنى التجربة الميدانية التي اكتسبها قطاع المحامين الاتحاديين لأزيد من نصف قرن من الحضور الجاد، الفاعل، والمتميز في مختلف مؤسسات، ومنتديات، ومؤتمرات المحامين وطنيا ودوليا.
علينا في كل هذه القضايا ذات الصبغة الآنية، أن لا نغفل التفكير أيضا، في قلب مناقشة إصلاح قانون المهنة وحوله، سواء في هذا اليوم الدراسي أو بعده، في أوضاع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، هذا الإطار العتيد، الذي شكل منذ تأسيسه على يد رواد المحاماة ببلادنا، قوة دفع حقيقية في النضال من أجل الديمقراطية ودولة الحق والقانون والمؤسسات، وحصنا منيعا لحماية الحقوق والحريات في أصعب الظروف، وجامعا لكلمة المحامين المغاربة وحاميا لمكتسباتهم ومنافحا من أجل استقلال وحصانة المهنة واستقلال السلطة القضائية. علينا أن نكون كمحاميات ومحامين اتحاديين مدافعين أشداء على وحدة هذا الإطار، والتمسك به ممثلا شرعيا وحيدا للمحامين المغاربة، وأن نناهض كل ما قد يؤدي إلى إضعافه أو تفتيته، والعمل طبعا، مع كل المحامين المغاربة على تطوير بنياته، وتجويد أساليب اشتغاله، وأن يظل وفيا لأدوراه في حماية المهنة والدفاع عن الحقوق والحريات الفردية والجماعية.
وختاما أتمنى لهذا اليوم الدراسي التوفيق والنجاح، وننتظر خلاصاتكم التي لاشك أنها ستكون حاضنة لانشغالات زميلاتكم وزملائكم في المهنة، وزادا يستعين به حزبكم في إغناء مشروع قانون المهنة عند إدراجه في المسطرة التشريعية، من خلال الفريقين البرلمانيين، وينضاف إلى ما راكمه القطاع من أفكار وأدبيات خلال المراحل السابقة.
ولا يفوتني أن أجديد الشكر للسيد وزير العدل على حضوره افتتاح هذا المنتدى الدراسي، والشكر موصول للأخ رئيس وأعضاء وإدارة فريقنا بمجلس المستشارين على استضافة هذا اللقاء وتوفير الشروط المادية لنجاحه.
شكرا على حسن استماعكم
والسلام عليكم