توفيق مصباح قلم انتصر على الانكسارات

صديقي توفيق العزيز
أمس.. قبل أن أخلد للنوم، دون مقدمات أو محفز معلوم، تقافزت الحروف على شاشة هاتفي، وجدتني أكتب «مرثية لطقس البكماء»، تسابقت الكلمات دون تخطيط مني، وحرضتني على كتابة قصيدة تدين وقتنا الصامت، واليوم أيقظني صوت الهاتف من نومي المتأخر، وبمجرد ما قرأت اسم المتصل صديقنا الميلود عثماني، توجست خبرا مفجعا.
خمنت أنه سيخبرني عن حالة توفيق الصحية، كنت من أصدقاء قلائل يعرفون حقيقة مرضك القاهر، وكان لدي أمل في أن تتجاوز محنة الغيبوبة، خصوصا بعد قراءتي لتدوينة العزيز منير باهي عن عودتك من حالة اللاوعي والغياب، ومواعدته لك باستعادة شغبنا الرياضي والفني المعتاد، ولكن.. سألني الميلود عن علمي بخبر رحيلك، مؤكدا أن الصديقة حفيظة الفارسي قد أعلنت ذلك في تدوينة فايسبوكية، تمنيت أن يكون الخبر كاذبا، فما زال في الوقت متسع للبوح العنيد والكتابة عن ما يحزننا وما يجعلنا نحلم بالجميل المستحيل.
والآن أعترف لك، عشت هذا الأحد بإحساس حزن قاس، ذهبت لبيت الوالدة لتقديم العزاء، تعرف على شقيقك، أبكاني بتذكره لتفاصيل صداقتنا، هو الذي لم يكن يعرفني سوى بما كنا نختلف فيه حين يتعلق الأمر بشغفك بالرجاء وعشقي للوداد، لم أتحمل رؤية دموع والدتك، وعانقت ابنك وهو لا يزال تحت تأثير صدمة الفراق.

عزيزي الطيب..
موتك المبكر آلمني كثيرا..

كنت تقويني وتمنحني الأمل في تجاوز هواجس إصابتي بداء القلب، ما زلت أتذكر بالتفصيل المفيد إلحاحك علي بعدم الاستسلام لرعب ما بعد إجرائي لعملية القسطرة، كنت تقول لي دائما :» ما تخافش ستبقى حيا وتعود لعافيتك شريطة توقفك عن التدخين! «.
أول ما تجاوزت رعب ما بعد العملية، هاتفتك واقترحت عليك شرب قهوة بإحدى المقاهي المجاورة لسكناك، وفي الطريق إليك أخذت معي صديقنا عثماني، ثم غيرت اقتراحي وطلبت منكما أن نذهب لشاطئ المحمدية، غلبني الحنين للبحر، وطاوعتما رغبة مريض قد يخونه نبض القلب في أي وقت.
أعرف أنك كنت منشغلا بمهامك الصحفية كسكرتير تحرير لأسبوعية « الوطن ــ الآن « وموقع «أنفاس بريس»، لكني كنت دائم العتاب وألومك على وضع اهتماماتك بجنس القصة القصيرة جانبا، في أوقات كثيرة كان عشقك لحسناء الكلام يفتر وتأخذك طاحونة الصحافة إلى مواضيعها المتلاحقة، لن أكذب عليك، كنت أحس نقصان حماسك تجاه معشوقتنا السردية لاعتبارات مختلفة من بينها غياب التفاعل الجاد مع إبداعاتنا، وسيطرة منطق العصابات والشللية في الملتقيات المسماة ظلما وعدوانا بالوطنية والعربية، ونظرا لثقتنا في ذائقتنا الأدبية والفنية، كنا نتبادل في ما بيننا نصوصنا القصصية الجديدة قبل نشرها، كنت من بين الأصدقاء المقربين الذين أعتز بملاحظاتهم الذكية.
كثيرا ما اختلفنا حول مواضيع آنية لها علاقة بأحزاب المغرب وبشخصيات الحكومة وقراراتها غير الشعبية، وكثيرا ما نطلع بعضنا البعض على مقالاتنا الصحفية والمفتوحة ومواقفنا مما يستجد في الساحة السياسية والاجتماعية والرياضية .. لكننا كنا نتفق دائما حول حسناء الكلام / القصة القصيرة رغم أنك كنت مقلا في كتابتها.
وكم كنت أفرح حين أقرأ لك قصة منشورة على صفحات الملحق الثقافي لجريدة « الاتحاد « أو « العلم الثقافي» أو ملحق «بيان اليوم» الثقافي، أجهز نفسي لقراءة نص «مخدوم» لقاص يمتلك موهبة جميلة وؤية حكيمة للعالم ومرجعيات فنية ونقدية تتقن فن البوح والاعتراف، وتدرك جيدا ضرورة التمييز والتفريق بين المقالة الصحفية والنص القصصي وإن التقيا واشتركا في تقنية السرد والحكي.
في كتاباتك الإبداعية انتقال غير متكلف من القصة الواقعية التسجيلية ــ الإثنوغرافية إلى النص القصصي الغرائبي والعجائبي، إلى النصوص الكوميدية الساخرة الموغلة في فضح عبث العالم وقسوة إيحاءاته الحمقاء.
في القص الواقعي، يسهل على القارئ اللبيب الانتباه لقدرتك على انتقاء أوصاف تمنح لفضاءات نصوصك هويات وبطاقات تعريف بها تركيز دال على التفاصيل الدقيقة، وتعبير عن ذكاء حاد في التقاط الإشارات المعبرة، وانتصار جلي للطبقات الكادحة، وإدانة جريئة لذئاب الافتراس الجشعة.

عزيزي توفيق..
لن أخفيك سرا، في حديثي إليك، كم هو مؤلم هذا الفعل الماضي الناقص، هذه الـ « كنت» المثيرة للشجن، قبل أيام كنا نواصل حوارات صراعنا الأبدي واختلاف الإخوة الأعداء، والحقيقة تقال، لم يسبق لي أن تعرفت على عاشق متعصب مهووس بالرجاء، كثيرون كانوا يعادونك بسبب هذا العشق الفادح، وحدي كنت أرد على تدويناتك المستفزة لعشاق عائلة الوداد، وأعترف لك باستغراب بأني لم أتقبل منك هذا الحب الأعمى للخضراء وتقزيمك للفرق الأخرى لدرجة أنك كنت تضع الرجاء فوق الجميع حتى ولو تعلق الأمر بالمنتخب الوطني المغربي .
منذ سنوات، قبل جائحة كورونا وبعدها، خلال شهر رمضان، حيث يحلو السهر والسمر، بعد الفطور، بتعاقد ضمني غير مكتوب، تواطأنا على عادة جميلة، توافقنا على الطواف ليلا وزيارة أحبتنا المشتركين، أغلبهم كانوا من فرسان القصة القصيرة، وها أنت قد رحلت عني ولم يمهلك الموت قليلا حتى ترى مجموعتك القصصية التي كتب مقدمتها صديقنا الرائع الميلود عثماني، وراقني غلافها المقترح من طرف دار النشر، للأسف تأخرت الولادة وتلكأ الناشر في جعلنا نفرح معك بمولودك، فمع من سأطوف ليلا ورمضان القادم على الأبواب؟! يبدو أنني سأكتفي في شيخوختي اللعينة بوحدتي واستعادة ما عشناه جميعا وما كنا نتواطأ على تبادل أسراره والإصرار على تجاوز انكسارات قدر وجدنا أنفسنا نحارب طواحينه ونحلم بغد أجمل

عزيزي المصباح ..
سأتركك تستريح ..
نم قرير العين ..
نلتقي هناك !!!


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 11/01/2023