«المعري… ومتاهات القول»


كيليطو يعبر متاهات المعري

 

‎استمرارا منه على النهج الذي يبدو أنه عاهد نفسه على السير عليه، أتحفنا عبد الفتاح كيليطو بمؤلفه «أبو العلاء المعري أو متاهات القول»(1) في رحلة جديده لبسط ثنايا الذاكرة العربية.
‎كعادته في القراءة، وبأسلوبه المشاكس لهذه الذاكرة، يقوم كيليطو بإعادة قراءتها واكتشافها، مما يعطي للمتلقي فرصة الاستمتاع بعودة الروح الى صور محنطة في حقائب الذاكرة ومساءلتها وربما مناوشتها، ولكن من موقعها. فكلما كان الحوار محافظا على خصوصيه زمن قائليه، أصبح أكثر إمتاعا وسلاسة وأعمق تواصلا. لا شيء يقتل التراث أو يزيده جمودا، أكثر من جره قسرا إلى زماننا، والعبث في جسده ومحاوله تفصيله على أذواقنا.
‎تعودت دائما ومنذ قراءتي لأول كتاب لعبد الفتاح كيليطو، أن أشعر دائما برغبة جامحة في العودة الى الجزء الذي تحدث عنه في التراث لأعيد قراءته.
‎تعود أول معرفتي بكتابات كيليطو، إلى مرحلة الباكالوريا. أذكر أن أستاذ اللغة العربية، أشار علينا بقراءة أحد كتبه. وكنت حينها في بداية حماسي للتعرف على الكتاب المغربي، متململة ومغتمة من الغزو الثقافي المشرقي الذي كان يحاصرنا في جميع مجالات الإبداع، من شعر، رواية ودراما.
‎رغم ذلك، لم أستطع إتمام الكتاب. وربما شعرت بنوع من الملل الناتج عن عدم الفهم بالتأكيد. لم أستطع حينها أن أستوعب عملية التفكيك وإعادة التركيب التي يمارسهما المؤلف على الحكايات «المقدسة» التي كنت لا أراها إلا معززة، مكرمة، بين دفتي مجلدات ضخمة تتربع على عرش مكتباتنا- نائمة بفعل ساحرة شريرة-(2) أو على شكل «امْرادْ»(3) من أفواه جداتنا. ربما لم أتحمل أن أراها تهتز وتتناثر ليعاد جمع شملها على أوراق خفيفة يحتويها غلاف أنيق في طبعة جميلة من الحجم المتوسط، يكاد يقترب من الحجم الصغير. لم أقف طويلا عند دوافع رفضي، كل ما أتذكره أنني فضلت راحة فكري ولم أتمم الكتاب.
‎نسيت أمر الكتاب وصاحبه، وبعد اجتيازي للمرحلة الثانوية وانتقالي للدراسة في مدينه الرباط، غصت في مقررات الأدب العربي، وماراثون الاطلاع على أكبر قدر ممكن من المصادر والمراجع. كنت أتذكر الكتاب بين الفينة والأخرى، كلما صادفت الأستاذ كيليطو بين ردهات كلية الآداب بالرباط. ولم يكن أستاذنا الجليل –ظاهريا – شخصا بشوشا، ساعد على ذلك عدم وضوح ملامحه التي تكاد تختفي تحت نظارتيه. ولا أخفي بأن لقائي به لم يدفعني الى إعادة التفكير في إتمام كتاب سبق أن بدأته.وكان أول لقاء مباشر لي مع كاتبنا، في ندوة حول الكتابة «السير-ذاتيه»حسب ما أذكر، مناسبة مكنتني من معاينة وجه آخر لكيليطو. لاحظت خلال عرضه الشيق، العشق الكبير، أو لنقل، الافتتان الواضح بالتراث العربي. انجذاب يجعل منه مرجعية ثابتة في حديثه. لا يغفل أبدا هذا الخيط الرفيع والمتين الذي يصل الأمس باليوم دون تجنٍ ولا قسوة ولا تعسف. فجأة تستولي على الوجه «اللابشوش» تعابير مرحة، كلما كان يحيل على حكايات الماضي ودلالاتها. تواطؤ خفي يجعل الفصل بين كيليطو والتراث، أمرا صعبا للغاية. كل منهما يضفي على الآخر هذه المسحة من البشاشة واللطف. عاطفة متبادلة تسمح له بأن ينقله إلينا بعد أن يشتغل فيه نبشا واستفزازا ومساءلة وشكًّا.
وخلصت إلى أنه رغم ما يمكن أن نشعر به في بعض الأحيان من تردد أو ربما عجز عن الصولان والجولان معه كيفما يشاء، إلا أننا لا نسلم من شوكة الرغبة في العودة إليه، وكذلك كان. فوجدتني مشدودة الى عالمه مع «الكتابة والتناسخ» «الغائب»، «الحكاية والتأويل». ومع كل جزء أصاب بالمس، وأعود الى مجلدات التراث، علني أعيد اكتشاف مقامات الحريري، شخصية الجاحظ، دروب كليلة ودمنة…واليوم يشدني الحنين بصحبته الى شيخ المعرة.
في كتابه «أبو العلاء المعري أو متاهات القول» يجد كيليطو أمامه مساحات كبيرة للتنقل بحرية في متاهات حياة هذا الرجل. ذلك أن أبا العلاء بشخصياته المتعددة وحياته المريبة، التي نغصت عيش معاصريه – الذين ذهبوا الى حد اتهامه في عقيدته- يتيح لكاتبنا فرصة فتح كل الأبواب والاحتمالات، بل أكثر من ذلك، ربما نشعر أن هناك تواطؤا وتوافقا بين قراءة كيليطو للتراث وحياة المعري كما أراد لها أن تكون. كما لو أن المعري بكل ما عُرف عنه من بديهة وذكاء، كان يعرف أو يحدس أنه سيأتي زمن له شيوخ يجيدون اللعب بأدواته . ورغم أن القارئ يبدأ رحلته في متاهات أبي العلاء برغبة كبيرة وحب استطلاع متزايد لمعرفة ما كان يدور بخلد شيخ المعرة، إلا أنه يكتشف أن استمتاعه بالتفاصيل الصغيرة ينسيه الإلحاح على معرفه جواب السؤال الكبير الذي أقلق الكثيرين: من هو أبو العلاء المعري؟ ويصبح الجواب بدون معنى، لأننا سنكتشف أن المعري كان على درجة من الدهاء والخبث مكنته من النجاح في شَغل كل من عرفه، بغموض شخصيته. وبذلك استطاع أن يتغلب على هامشيته التي ربما شعر بها جراء عاهته، واستقطب اهتمام معاصريه ومن أتى بعدهم، وضحك على ذقون مؤيديه الذين جاهدوا في البحث له عن مبررات، قبل الضحك على معارضيه الذين كادوا أن يقضوا كمدا من كتاباته المستفزة. وكانت النتيجة أن اشتغل الكل بشخصية المعري، أكثر من فكر المعري. ولذلك تمكن من تحقيق معادلة صعبة إن لم نقل مستحيلة، فكلما بالغ في الزهد والابتعاد عن الناس، شاع ذكره وكثر أنصاره وأعداؤه، وأصبح حديث المجالس. وبما أن المعري لم يكن شخصا عاديا، يصعب أن نحكم باعتباطية هذا النوع من ممارسة الوجود. وسنرى من خلال بعض المحطات التي وقف عندها كيليطو أن شيخ المعرة لم يكن بريئا مما مر به وقاساه، بل ربما وصل إلى مبتغاه.
‎من كتابه «سقط الزند» يورد له كيليطو بيتا شعريا يبدو أنه يمثل درجة عالية من الصدق في تعبيره عن نفسه ومكانته بين الناس، كما يؤمن بها، رغم أنه تراجع عن الكثير مما أورده في الديوان واعتبره ميناً ورياضة.
يقول:
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم*** بإخفاء شمس ضوؤها متكاملُ
‎هكذا يرى المعري نفسه، وهذا ما سعى لإثباته من خلال طريق صعب وشاق، بدأه بالرجوع عن هذا الاعتراف، وتغيير مجرى شعره الى ما هو بعيد عن المين والمبالغة. وكان في كل خطوة يخطوها يعمل جاهدا من أجل إثبات ما نفاه من تميزه. فالمعري وهو مبتعد عن الناس ومنغلق على نفسه، زاهد في الدنيا، يعيش بين الحياة والموت مثل الجنين في بطن أمه (4)، كان يسعى الى أن يسير ذكره في البلاد، وأن يكون الشمس التي ضوؤها متكامل، وهذه حالة لا يحتاج فيها الى عينين يبصر بهما فهو البصر ومركز الضوء، من تطمح الدنيا كلها لرؤيته وتتجه صوبه وليس العكس.
‎إن شيخ المعرة، الذي يعرف قيمة العلم والأدب في مساعدته على تجاوز عاهته، كان يريد أكثر من مجرد تكرار ما سبقه إليه آخرون من الذين تغص بهم الكتب والذاكرة. ويبدو أنه طرح على نفسه أسئلة مقلقة:
هل يكون مثل من سبقه من العلماء والأدباء؟
‎هل يمر بهدوء من هذه الدنيا التي ما أحبها يوما بل جاءها مكرها مجنيا عليه؟
‎لقد عرف شيخ المعرة قيمة الكلمة وقوتها وقدرتها على قلب الأمور، لهذا كان وعده وصدقه في لزومياته، الأكثر استفزازا في كل كتاباته .»وهكذا فإن سقط الزند الذي يدين بالكذب، قوبل بالترحاب والتقدير، بينما أثار لزوم ما لا يلزم، الذي يدين بالصدق أو يدعيه، ردود فعل عنيفة بسبب ما فيه من أقوال مشبوهة». (5)
‎وبما أننا مع المعري وبتحريض من كيليطو، لا يمكن أن نترك شيئا للصدفة، فإننا نتساءل عن المغزى أو دلالة البيت الذي افتتح به المعري لزومياته
يقول:أولوا الفضل في أوطانهم غرباء*****تشد وتنهى عنهم القرباء (6)
‎هل كان المعري يصور حالته الخاصة؟ هل هناك علاقة بين هذا البيت والذي أوردناه من سقط الزند؟
‎إن المتتبع للكثير من أحوال المعري وأقواله، خصوصا الواردة منها في متاهات القول، يشعر بأن شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، يعطي نفسه حقها قدرا. وبما أن الغربةإحساس بالوحدة والعزلة، فإن هذا الغريب لا يستبعد أن يكون هو النور، هو الفاضل العزيز، الذي قرر النأي والاختفاء عن الأنظار بعيدا عن أوطان لا تعرف قيمه عظمائها، فيصبح هذا البيت قنطرة العبور بين «سقط الزند» و»لزوم ما لا يلزم». فليس عجبا إذا، أن يكون معبرا للضفة الأخرى، التي قرر الانتقال إليها، كأنه يؤكد سبب اعتزاله وتغيير أسلوبه.
‎لقد عمل المعري من خلال شعره بوجهيه، «الصادق والكاذب»، على إثبات تميزه وعظمته من خلال ردود الأفعال الكثيرة والعنيفة. لقد استطاع أن يكون محور الاهتمام، وفي هذا المقام نستطيع أن نفهم دلالة إعجابه الكبير بالمتنبي وتحيزه الشديد له (حكايته مع الشريف المرتضى) (7) إنه لقاء على مستوى الإحساس بالعظمة. ألم يُتَّهم كلاهما بمحاوله تجاوز المقدسات (ادعاء النبوة ومحاكاة القرآن). بالتأكيد يصعب علينا أن نغفل أوجه التشابه بين الرجلين فبيت المتنبي المشهور:
‎إذا أتتك مذمتي من ناقص****فهي الشهادة لي بأني كامل
‎هذا البيت الذي يحكم في ما مضى وما سيأتي بأن من خالف المتنبي أو ذمه ناقص، يلتقي مع ما يفترضه المعري من عدم قدرة الناس على فهمه أو استيعاب كتاباته واشعاره:
‎ولدي سر ليس يمكن ذكره ****يخفى على البصراء وهو نهار (8)
‎وهذا ما عبر عنه كيليطو، بكل بلاغة بقوله « الكتابة بالنسبة للمعري تعني في آن، الإمساك عن الكتابة أو على الأقل التضحية بقسم منها لا يظهر على صفحات الكتاب، وإن ظل مسطرا في ذهن المؤلف. وبالمقابل فإن قراءة المعري تعني عدم قراءته»(9)
‎يبدو أن المعري يتلذذ بالالتباس الذي يوقع فيه قارئه ويستمتع بالبلبلة التي يزرعها في ذهنه، لأن الفهم في محراب فكره، يرتبط أبديا بسوء الفهم، بشكل يجعل الإنسان يدور حول نفسه في بوتقة من الشك والحيرة التي لا نهاية لها. وهنا يحق لنا أن نطرح علامات استفهام كبيره مع عبد الفتاح كيليطو:
‎هل المعري بريء من كل ما اتهم به؟ أو بالتحديد من كل ما حاول إيهام معاصريه وقارئيه به؟ هل هو القصاص كما أراده؟ ومِمَّن؟ نفسه أم الدنيا؟
‎أسئلة كثيره يطرحها كتاب كيليطو الممتع، ونطرحها جميعا معه لأننا لم نسلم من غمزات شيخ المعرة وسهامه الجميلة والقارصة، ومنها تهديدنا بفقدان آدميتنا إذا لم نعرف للكلب سبعين اسما. ولا أخفي سرا أنني على خطى جلال الدين السيوطي، مرورا بلائحة المحققين والباحثين، وصولا إلى عبد الفتاح كيليطو، أحسست بأنني معنية بالأمر وأخذت على عاتقي أن أفك عن الإنسانية هذه الكربة التي أوقعنا فيها شيخ الشيوخ سامحه الله.
‎وبما أنه قال سبعين اسما، بدون تحديد نوعها وأن ما وجد منها، كان يتنوع حسب الصفات، أو العادة أو الأصل الجغرافي (10)، فقد قررت أن أكمل اللائحة على طريقتي الخاصة.
‎لقد توصل كيليطو إلى سبعة وستين اسما، وهذا يعني أن ثلاثة أسماء فقط، تقف حائلا دون تأكيد إنسانيتنا، وها هي ذي الأسماء التي تمثل صك البراءة وتتجاوزه بقليل…
‎ايدي (11) اقزين (12) رباح (13) قرطاح (14) …
‎لا أظن أننا بهذا الحل نكون أكثر خبثا من صاحب الورطة.

مراجع:
‎(1) دار توبقال للنشر الطبعة الاولى 2000
‎(2) تشبيه مأخوذ عن عبد الفتاح كيليطو في كتابه» الغائب دراسة في مقامات الحريري»
‎(3) الأحجيات في اللهجة الحسانية واصلها يرجع الى
ردد يردد والتي تعني فعل يحكي
‎4) « ابو العلاء المعري أو متاهات القول» الصفحة 17
‎(5) صفحة 46 من الكتاب
‎(6)» لزوم ما لا يلزم» ابو العلاء المعري ج 1 ص 32 تحقيق امين عبد العزيز الخاتمي
‎(7) ص 73 من الكتاب
‎(8) ص 47 من الكتاب
‎(9) نفس الصفحة
‎(10) ص 81 من الكتاب
‎(11) الكلب باللهجة السوسية
‎(12) الكلب باللهجة الريفية
‎(13) أحد أسماء الكلب باللهجة الحسانية
‎(14) الكلب كما يسميه بعض ساكنة هوارة /اولاد تايمة

*من كتابي « في متاهات القول قراءات نقدية»


الكاتب : العالية ماء العينين

  

بتاريخ : 13/01/2023