استنفار جياد الكتابة

(إلى روح الشاعر محمد الصباغ)

 

 

لبعض الكتاب ، رهافة الحدائق اليابانية الجميلة: والراحل محمد الصباغ (1929- 2013) أحد هؤلاء. وحين نتذكره ، بعد مرور عشر سنوات على رحيله ، فنحن نتذكر أيضا تلك الطقوس التي ارتضاها لنفسه ككاتب: طقوس الصمت المتعالي، والسير في الممرات الظليلة ، والكتابة بحد ريشة مغموسة في محبرة الشعر. نتذكر فيه اليوم أيضا كاتبا فذا أخلص لكتابته، وثابر في بنائها لبنةً لبنة، سنين متطاولة، بحيث شكّل منها جوهر رؤيته للعالم والناس، وشكلّت منه الشاعر الناثر بامتياز؛ كما نتذكر فيه، من جهة أخرى، أحد أبرز مؤسسي اتحاد كتاب المغرب، هذا الاتحاد الذي يعتبر تراثا وتاريخا ثقافيا وطنيا تكاثفت جهود أربعة أجيال لتجعل منه الحصن الثابت لثقافة يممت وجهها شطر المستقبل، ويمر اليوم ، للأسف ، بأزمة خانقة.
وإذا كان محمد الصباغ في غنى عن أي تقديم، فإن كتابته، شأن كل كتابة، ستبقى دوما بحاجة إلى التأمل والبحث، ولذا يجدر بنا أن نشير، بإيجاز، إلى أن مسيرته الأدبية، التي تمتد لأكثر من خمسين سنة، تبرعمت خلال النهضة الثقافية التي عرفتها تطوان في الأربعينات والخمسينات ، بفعل الزخم الوطني المنفتح على الثقافة الإسبانية الذي وسم تلك الفترة، وأنها تواصلت بعد الاستقلال حين قدومه إلى الرباط وانخراطه في فورة الوعي الثقافي الذي ميز هذه المدينة خلال الستينات والسبعينات والثمانينات.
وعلى امتداد هذه المسيرة أنتج الصباغ أدبا يستمد نسغه من هيمنة الموقف الجمالي المشبع برومانطيكية تعكس تمرد الكاتب «البوهيمي» على نثرية الواقع، وفي نفس الوقت التزامه الذي لا هوادة فيه إزاء مبدأ حرية الكتابة المتعالي. وخلافا لما يمكن أن توحي به نظرة عجلى، فإن هذا الأدب يتجلى عند الفحص بالغ التنوع، مغتنيا بأنساق كتابية تتراوح بين الحوار، والسرد التراسلي، والصور الشخصية، وبنيات الشعر، والتخييل الطفولي.
ولابد لنا أن نقول في هذا الصدد، بكل نزاهة، إن الصباغ، بواسطة كتابه «اللهاث الجريح» (1955)، كتب أول رواية تراسلية في الأدب المغربي الحديث ، وأنه من أبرز من خاض تجربة الكتابة للأطفال بوعي عميق يستوحي براءة الطفولة وحكمتها المنفلتة ، كما أن الصدور المبكر لديوانه «أنا والقمر» (1946) عكس أولى خطوات الحداثة الشعرية في تاريخنا النقدي. وإذا كان مجموع هذا الأدب وليد مزاج الكاتب الشخصي المتفرد في مقاربة الواقع وإدراكه، كما هو وليد قراءاته في أدب المهجر واستيحائه لمجازات جيل «العام السابع والعشرين» الإسباني، فإنه أصبح جزءا لا يتجزأ من المشهد الكتابي الوطني ، يؤثث ذاكرتنا ووجداننا الراهن بزخمه الشعري المكتظ بالألوان والأصوات والأشكال، كما ينتزع خيالنا من المبتذل اليومي بسرده المتألق الذي يستلهم سر أسرار العلاقة بين اللغة والأشياء باحثا عن (كراتيلية) مفقودة.
طيلة حياته، صنع محمد الصباغ لنفسه هالة حضور متوار عن الأنظار، يتلفع بعزلته الثمينة ، رافضا كل خروج لا ينطلق من الكتابة ويحيا فيها: ورغم عبوره بأبرز مواقع القرار الثقافي، ظل الصباغ متشبثا بتواضعه الشامخ وكبريائه الجموح، لا يعلق على الأحداث ، ولا يساهم في أي سجال أو جدال، وينأى بنفسه عن خوض الصراعات الظرفية، ثقافية كانت أو إيديولوجية.
دون كيخوطي كتابةٍ هو: يخوض بفرسها الأرعن ضد مجردات السياسة والمجتمع ، ويؤسس مطلقه الأدبي من نسيان الآخرين له واختصامهم في أنساب النصوص ونسبياتها. كاتب يتشح بالدهشة، ويدرك مفارقة التاريخ.


الكاتب : إبراهيم الخطيب

  

بتاريخ : 21/01/2023