كيميائية اللون في أعمال سناء الغوت

 

يحتاج التعامل في جل الحالات مع اللون إلى دراية تقنية وعلمية في بعض الأحيان لفهم ما يمكن أن يفرزه من انعطافات مرئية تحمل من الخدعة أكثر مما تحمله من الحقيقة المرئية التي هي في حد ذاتها إلا تمثلات لانعكاسات ضوئية أو تفاعلات كيميائية.
فهذا ما حصل مع تجربة فتية لفنانة تشكيلية واعدة سناء الغوت، حيث انصب اهتمامها في أعمالها الأخيرة التي عرضتها بأحد الأروقة الفنية بمراكش، على حصيلة كل التفاعلات الممكنة التي اكتسبتها من دراستها وتجربتها في المجال الكيميائي، لتفرز عملا بطعم اللون واشتقاقاته المتفاعلة مع الموضوع المطروح ثقافيا ومحيطه الفيزيائي، في محاولة رصد بعض التحولات المتقاطعة مع مشروعها الفني بدلالاته السردية في طرح تساؤلات جمالية تصب في انشغالاتها الذاتية، فكان للون في عملها حضور رمزي بنسب متفاوتة على مستوى الأفكار المطروحة.
إن حضور اللون في ملون اشتغال سناء الغوت اعتمد الاختزال، بطابع ذاتي وخصوصي، لا يمكن أن تصادف انفعالاته إلا في تجربة هذه الفنانة، ولا يمكن أن تجده إلا بالحصول على التركيبة السرية لصاحبته، التي اعتمدت الشفافية واستعمال الألوان الترابية بمزيج من خضاب ذهبية حققت توازنات مرئية تقاطعت التقنية فيه بالموضوع.
فالموضوع عند الفنانة سناء الغوت كان عتبة وجسرا للعبور إلى اكتشاف تقني يبرر بقوة العلاقة الباطنية بين تساؤلات ثقافية وأخرى فيزيائية، تتعلق بفضاء الاشتغال، واختيار نوعية المشروع وامتداداته الزمنية، فكان لتقابلات هذا الاختيار بين التجريد والتشخيص نقطة تقاطع بين الحقيقة والخيال وبين المرئي واللامرئي وأخيرا بين العقلاني واللاشعوري، وبهذا تكون هذه الفنانة قد استوعبت جدية اختيارها لتجعل من شكلين مختلفين (تجريد/ تشخيص)، محط اهتماماتها الأولية في نزع اللبس عن ما يمكن أن يشكل وحدة متناسقة ومتكاملة للوصول إلى التوازنات الممكنة في تجربتها.
عاملان أساسيان يوحد بينهما رغبة الاشتغال عندالفنانة سناء الغوت، هما (المرأة والحرية)، كموضوعين لا يمكن التفريق بينهما باعتبارهما متلازمين منذ بداية الوجود، فكان لجسد المرأة بجميع تموضعاتها وطريقة معالجاتها فنيا، حضورا اكتساحيا للسند، مع مراعاة ذاتية لطابوهات لا زالت تفرض نفسها في المجتمعات المحافظة، خاصة من زاوية محتشمة لا يظهر فيها إلا ظهر هذه المرأة تفاديا لأي تأويلات سلبية، اقتناعا من المبدعة سناء الغوت بأهمية طرح مثل هذه التساؤلات انطلاقا من كونها أنثى، بحثا عن حرية هاربة لم يتم القبض عليها، من خلال صور الخيول الجامحة التي حددت أشكالها بخطوط كرافيكية سوداء واضحة، تعبيرا عن ذلك الانفلات الذهني من واقع معاش لواقع افتراضي مفتوح على جميع التأويلات الممكنة.
لقد سلكت الفنانة سناء الغوت مسلكا مرحليا بدأ من التشخيص للتجريد مع الحفاظ على الخيط الرابط بين أسلوبين مختلفين تحولت فيه كل العناصر التشخيصية إلى رسوم كرافيكية ولطخات صباغية تجريدية، تعبيرا عن خوالج هلامية لا يمكن إفرازها إلا من جانبها الرمزي والدلالي الذي تحبل به نفسية الفنانة، لتسجل انتقالا من نوع آخر في مسار تجربتها إيمانا منها بضرورة البحث عن أشكال تعبيرية مختلفة لضمان سيرورة إبداعية تمتح من الواقع وتصب في إحساساتها الداخلية.
فجل أعمالها تحيلنا على مونوكرافيات، أي ثنائيات لونية تخضع لتقابلات ضوئية مختزلة ضمن نسق حواري بين الشكل واللون، باختزال شديد في محاولة التركيز على الموضوع المحوري الذي يشغلها، وهو موضوع الحرية بجميع أشكاله، فتارة تحضر الأشكال بقوتها وعنفوانها، وتارة أخرى تكاد تغيب بشكل غامض، أي أنها تخفي ما تبدي، للحفاظ على عذرية طرحها للقضايا التي لم تناقش بعد بجدية، لتبقى في الأخير تجربة الفنانة سناء الغوت من التجارب الفتية كما ذكرنا سالفا التي تبحث عن ذاتها ضمن التراكم الحاصل على مستوى الإنتاج والإبداع في المشهد التشكيلي المغربي، كتجربة حالمة جعلت من السؤال هدفا، اقتناعا منها بأن الفنان بقدر ما يطرح التساؤلات فهولا يجيب عنها في الأخير، ليترك باب الاجتهاد والتأويل مفتوحا على مصراعيه كل حسب مرجعيته ومورد ثقافته.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 28/01/2023