الحُلم من خلال زجلية بلا عنوان للشاعر والزجال كبور فرتاد

هو النبع الذي لا ينضب، يتجدد كما الشمس، فكلما أصيب الحرف بالدوار وأصبح عاجزا عن الحركة والبناء، إلا ونرى صاحبنا يمده بشحنات من البهجة والحيوية. حتى تصير الدماء في شرايينه معلنة ساعة الانطلاق فيصبح الحرف حرا طليقا يتمختر كما يشاء من فوق صهوة الكلم. هكذا هي كينونة شاعرنا التي لا تعرف غفوة عن المعنى، وبالتالي فهو من يعطي الكلمة قيمتها يجعلها تتوهج ينفث فيها روحا لتتشكل كائنا هلاميا يفعل بالذات فعل الدواء. أوَ ليست الكلمة طلسما لا يفك شفرته إلا ذو إحساس متقد؟.. أو كما قال الدكتور معراج أحمد معراج الندوي بأن «قوة الكلمة تعادل أو ربما تتفوق على أي قوة أخرى، لأنها تمس الروح والعقل والقلب». هكذا تصبح الكلمة منتجة لردود أفعال قد تكون ظاهرة أو خفية، يشارك في نسج خيوطها كل مشاعر الذات. إنه الشاعر الزجال كبور فرتاد الذي قال في «الكلمة»:
جات الكلمة
بلا سوالف
بلا رقاص
فيقت شحال من هبيل
فيقت ليل من النعاس

وفي شذرة أخرى:
من ضلوع لبحر..
غزلت…كلمة
بَرْدَت البَرْد…دَفَّات المَا
وسخنات لقصيدة

الزجال كبور فرتاد فيلسوف الكلمة ومروضها، مجدوب الحال والأحوال، فهو مجدوب الحال حينما يغرق في يم الدهشة التي سرعان ما تتحول إلى صحوة ويقظة. يقظة من نوم تظنه بلا أحلام فإذا به يفاجئك بما لم يخطر ببال. ومع ذلك يجعلك تقبع في قمة الإدراك والحيرة، بحرف تراه حرفا وما هو بالحرف لكنه سحر لجي عنيد يجعلك تهيم دون إرادتك في عالمه الشعري الخاص. ومجدوب الأحوال لأنه لا يستقر على نمط ولا يتكرر كالملل، ففي كل قصيدة تجده غير الذي كان في سابقتها، لم يكن قط حربائيا حتى يأخذ لون المكان بقدر ما أنه هو من يصبغ اللون على المكان. وحتى أكون منصفا فإني لا أدعي بأنني قد قرأت جل قصائد الزجال والشاعر كبور فرتاد حتى أستطيع أن أُكَوِّنَ عنه فكرة شمولية قد تعين على القراءة والنقد. ولكني استمتعت ببعض ما جادت به قريحته من متون وشدرات. فراقني من نسجه المتن التالي:
عاود تاني
هاد الحلمة
يمكن تفسر سر العشق
المدفون تحت نخلة الكون
جاتني ف ليل
لابسة شربيل لحفا
من الثلج رزة
ريح مريبة خيمة لكلام
رعدة مهيجة لبحر
عاضة ف قنانف لغمام
صابغة شفار لحروف
صرفات لون عمود الزيت حضرة
يمكن كانت سحابة دايزة
حكايتها موال تحت تراب
دفعت من جلايل الشمس ظلها عربون
سرحت مسجون من جلابة الكون
بلا ما تكون…بلا ما نكون
تفسرات الحلمة تحت طابك ظلام
قصيدة بوهيمية الطبع بلا عنوان فتبا لذاك العنوان الذي غالبا ما يقيد القصيدة ويفرض عليها شروطا قد لا تسعفها بل تخنقها أحيانا، علما أن القصيدة بصفة عامة تكره التقوقع و التسلط ولا تخضع لمنطق الحدود، باعتبارها إبداعا تتحكم فيه قوانين الطبيعة الممجدة للامتداد الكوني واللا نهائي.
والمتن الذي نحن بصدد قراءته يشعرك هو الآخر بأنه لا يحيد عن القاعدة كونه يشكل امتدادا لبدايات سابقة، وإلا فما معنى:
عاود تاني
هاد الحلمة
يمكن تفسر سر العشق
المدفون تحت نخلة الكون
أي أن في ثنايا عبارة «عاود تاني» ما ينبئ بأن الشيء نفسه يتكرر من جديد، وهذا الشيء هو الحلم، والحلم حينما يتكرر يصبح أمرا مزعجا إلى حد الإيمان بأن هناك شيء ما يحتاج إلى توضيح أكثر وتفسير مقنع. ونحن أمام هذا الحلم الذي عاود صاحبنا مرة أخرى نحتار في أي خانة يمكن أن نصنفه، هل في خانة الرؤى أم في خانة الآمال والأماني؟ فحسب سيغمونذ فرويد أن « الأحلام تنتج عن الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تسعى لكبت هذه الرغبات اللاشعورية، وبالتالي فإن الحلم عبارة عن حل وسط أو محاولة للتوفيق بين هذه الرغبات المتصارعة.»1
لكن الأمر يزداد صعوبة إذا علمنا أن لغة الأحلام هي لغة باطنية وليست لغة تعبيرية، وبالتالي فإن فهم رموزها وجعلها قابلة للتفسير هو أمر فيه خلاف. دون إغفال الظروف الاجتماعية التي تحيط بالرائي والتي غالبا ما تؤطر الرغبات والميولات التي قد يكون من المستعصي تحقيقها على مستوى الواقع، فيتحول بذلك الحلم من فاعل إلى فعل ليصبح سندا معاونا ومساعدا على تفسير ما استعصى تحقيقه في الواقع. أي أن «الحَلْمَة»:»
يَمْكَنْ تفَسَّر سَر العَشْق
المدفون تَحْت نخلة الكون
وهنا مربط الفرس أي حينما يتحول الحلم من عنصر يحتاج لتفسير إلى عنصر مفسر لسر من أسرار العشق المتعددة، والإحالة هنا تجعلنا نجزم بأن الزجال كبور فرتاد يتمشهد من خلال متنه بفرضية يُستَشفُ من خلالها أن الحلم في حد ذاته ليس بغاية قابلة للإدراك بقدر ما هو مجرد عنصر مساعد ومحفز على تحقيق هدف خفي وأساسي من الحلم ذاته، هذا الحلم الذي يصبح مجرد عنصر مثير لشهية البحث والتمحيص من أجل الوصول إلى حقيقة ما، وهكذا تصبح الأحلام كمن يطرح فكرة للنقاش والتداول ليس إلا. لنخلص في النهاية إلى أن الفكرة والحلم هما سيان عند زجالنا خاصة وأنه يوحي من خلال متنه إلى أن الحياة تظل مملة ومقيتة بدون أفكار أو أحلام، إذ بهما يصبح للحياة معنى. ومن خلالهما قد تنكشف لنا بعض أسرار العشق التي منها أنه (أي العشق) قد يسمو بالعاشق إلى مرتبة من النقاء الدنيوي فَتُصَيِّرُهُ مُضغة لا تنضب من رحيق المحبة النورانية، تسع كل جميل وبديع مما فضل الله به خلقه وخليقته. ويزداد الأمر صعوبة حينما يخبرنا المتن الزجلي بأن سر هذا العشق» هو مدفون تحت نخلة الكون»والمكان الوحيد المخصص لدفن أسرار العشق في كل الذوات البشرية التي خلقها الله بنظام وترتيب هو القلب المُعَبَّرِ عنه في هذا المتن ب «نخلة الكون» فالإنسان كون والقلب نخلته
جاتني ف ليل
لابسة شربيل لحفا
من الثلج رزة
ريح مريبة خيمة لكلام
رعدة مهيجة لبحر
عاضة ف قنانف لغمام
صابغة شفار لحروف
صرفات لون عمود الزيت حضرة

«جَاتْنِي فْ لِيلْ»…إنها الحلم أو الفكرة، فهي غالبا ما تتصف بالبغتة والمفاجأة والحلول دون سابق إخبار، الأمر الذي يضع المرء في دهشة وذهول وتعجب، وكلها عناصر يمكن أن تشكل أساسيات لخلق ثورة نفسية تُعَجِّل بإعمال العقل وتوابعه من أجل وضع استراتيجية مضادة لتحليل وتفكيك هذا الحلم/الفكرة. بهدف تحقيق غاية مفادها الخروج من الورطة بنجاح أو بأقل خسارة وهكذا نجد أن الأحلام والأفكار تتخذ مجازات أخرى. في المتن المذكور فهي ثارة عبارة عن ريح وثارة أخرى عبارة عن رعدة، وكلها عوامل طبيعية موسومة بالخطورة والبغتة والفجائية التي قد تكون مفيدة أحيانا ومضرة أحيانا أخرى. وهنا نعود للتذكير بأن الإنسان شبيه في تفاعلاته بالكون وفق ما ورد من مجازات في هذا المتن الزجلي بعد ذلك يقحمنا الشاعر الزجال كبور فرتاد في دوامة العبثية من خلال عدة توصيفات تضمنها المتن الزجلي من قبيل:
لابسة شربيل لحفا / من الثلج رزة / مريبة خيمة لكلام / عاضة ف قنانف لغمام/ صابغة شفار لحروف/ مصرفة لون عمود الزيت حضرة.
فكل هذه الجمل تبتدئ بأفعال تتصف بالعنف والقوة والحركية مثل:
لابسة / مريبة / عاضة / صابغة/ مصرفة.
‏وكلها أفعال تؤكد داك الصراع النفسي الناتج عن العوامل المحيطة والمؤثرة بإنسان هذا الزمن الغريب، زمن الضياع في بحر الافتراضية وسجن الفردانية، إنه الضياع بعينه «ضياع الإنسان الذي لم يعد لسلوكه معنى في هذه الحياة مما يؤكد أنه فقد القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي. إنها مرآة العبث التي تعكس وبشكل مُكبَّر ما يعانيه إنسان هذا العصر»2
من هنا نُقِر بأن زجالنا هو على صواب فيما ذهب إليه من تصورات مجازية، لأن جل أفكار وأحلام عصرنا الراهن لا تكاد تخرج عن إطار العبثية التي طبعت هذا المتن الزجلي في عمومياته، وإلا فما معنى كل هذه الحمولة التي اثقلت كاهل هذا الحلم العابر:
يمكن كانت سحابة دايزة
حكايتها موال تحت تراب
دفعت من جلايل الشمس ظلها عربون
سرحت مسجون من جلابة الكون
بلا ما تكون…بلا ما نكون
تفسرات الحلمة تحت طابك ظلام
فالتركيز على الواقع الافتراضي في فترة اليقظة يكون له أكبر تأثير على تغذية الأحلام وتوجيهها، هذه الأحلام التي ترى بعض الدراسات أنها بمثابة يوغا لترييح النفس والدماغ من ضغوطات الحياة، وتساعد على خلق نوع من التوازن النفسي وهي فعلا كما أورد زجالنا:
يمكن كانت سحابة دايزة..
هكذا هي الأحلام تمر كالسحاب ولا تترك وراءها إلا سرابا، لأنها لا تترسخ في الأدهان بشكل واضح بعد اليقظة من النوم:
حكايتها موال تحت تراب..
«حكايتها موال « أي حكاية الحلم، وهنا يشبه شاعرنا حقيقة الحلم بموال إلا أنه موال مدفون تحت التراب لم يتبق منه سوى ذاك الصدى البعيد،، وكذلك تكون الأحلام التي لا نتذكر منها بعد الاسم سوى تلك الإشارات والتهيئات والأفكار المجنونة:
دفعت من جلايل الشمس ظلها عربون
سرحت مسجون من جلابة الكون

و «الحَلْمَة» التي هي العمود الفقري لهذا المتن الزجلي يبدو أنها قد أدت مهمتها وبنجاح حيث أنها:
..«دفعت من جلايل الشمس ظلها عربون» ‏
‏ و»الجلايل» مصطلح دارجي يأتي دائما في صيغة الجَمْعٌ ولا مفرد له، بحيث تفيدنا المقولة المشهورة « اجْمَعْ اجْلَايْلَكْ « في فهم معناه، أي كل الأطراف المتدلية من اللباس. من هنا استقى شاعرنا جملة «جلايل الشمس» وجعل منها ظلا للحلم، هذا الأخير الذي ضحى بظله، فقدمه كعربون من اجل تسريح «مسجون من جلابة الكون…» والمقصود بالمسجون هو ذاك الشخص الذي يكون في حالة حلم. أما «جلابة الكون» فهي مجموع الضغوطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكل ما ينتج عنها من التفاعلات التي تؤثر يوميا وبشكل تعسفي على نفسية الإنسان. فيصبح الحلم بذلك نافدة نطل من خلالها على ما يحدث في حياتنا الشخصية.
الملاحظ أن هذا المتن الزجلي قد اجتمعت فيه كل خصائص ومراحل ومقومات الحلم، فهو أولا قصير كالحلم تماما لأن الأحلام لا تدوم أكثر من دقائق، ثانيا نرى الإنسان النائم يدخل في الحلم مباشرة دون مقدمات، كذلك هي قصيدة كبور فرتاد تبدأ بحالة الاستيعاب أي مرحلة دخول النائم مباشرة في سديم الأحلام، ثم حالة الاضطراب التي يبلغ الحلم فيها دورته، ثم حالة الهدوء التي تكون نهاية الحلم وتتصف بالسكينة والراحة، وبعدها الاستيقاظ من النوم بعد أن يكون الحُلم قد فُسِّرَ لكن: تحت طابك ظلام
أي أن الحلم حسب المتن قد يفسر نفسه بنفسه في نهاية المطاف، إلا أن ذلك يكون « تَحْتْ طَابَكْ ضْلَامْ…» بمعني أن الحالم يجد نفسه في حالة من الشرود والتيه عند استيقاظه من النوم، معلنا عجزه الصريح عن فهم ما وقع في الحلم وما سيقع بعد الحلم.
هكذا كانت «الحَلْمَة» الزوبعة عند زجالنا الشاعر كبور فرتاد، والتي شخص المتن الزجلي كونها مجرد حياة صاخبة نقضيها عبثا ونودعها غموضا.
وفي الختام أتمنى مخلصا، أن أكون قد تفاعلت مع متن الزجال كبور فرتاد بعميق الإحساس، مستحضرا من خلاله بشكل متواضع، ولو نزرا مما يحيط بهذا العالم العجيب والغريب، عالم الأحلام. وما يترجمه من مشاهد لهذه الحياة الصاخبة، التي ينام على وقعها كل ليلة إنسان هذا الزمن البئيس
المراجع:

1) علم الأحلام ل سيغموند فرويد، دار المعارف/مصر
2) المذهب العبثي


الكاتب : ذ. أحمد قيود

  

بتاريخ : 30/01/2023