دارُ المغرب في باريس إذ تحتفلُ بسَبعينيّةِ مَجدٍ غابِر!

أحمد المديني

أردت أن أضع لهذه المقالة عنوانا صادما، كأن أكتب» دار المغرب، من المجد إلى الّلحد» يوافق تاريخها من بداياتها وولاداتها العسيرة والحوافز السياسية لإنشائها، فتصاميم بنائها، والميزانيات المرصودة، وصولا إلى افتتاحها في مطلع الخمسينيات، وتولِّي الإدارة الفرنسية تسييرها وبداية معارك الإيواء فيها وعديد المناورات بين المديرية العامة للمدينة الجامعية بباريس والدولة المغربية من خلال سفارتها في العاصفة الفرنسية، والمديرين الذين عينتهم لتسييرها وفق تصور يناسبها ويختلف جذريا عن الذهنية الفكرية للطلاب المغاربة الذين أوجدت الإقامة الفرنسية الدار لإيوائهم ومراقبة أنشطتهم بينما هم مدجّجون برؤية إيديولوجية معادية، من جهة، للاستعمار ومشروع تكريس ديمومته بواسطة نخبة يرعاها للمستقبل، ومن جهة ثانية، مناهضة للحكم في المغرب عقب الاستقلال وبعدها في صيرورة معارضة جذرية باسم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM) غطاءً وقناةً للحركة التقدمية بالداخل؛ هذا كله وعبر المراحل التي اجتازتها منذ النشأة، جعلها دارا عاشت أمجادا انتهاءً بما آلت إليه ستحتفل بالذكرى السبعين لتأسيسها(1953)، يليق بها صفة «ناعسة جميلة»، وضعُ أحياء كالأموات.
وتلزمني الأمانة العلمية الحفاظ على العنوان الأصلي الذي وضعه الباحثان مصطفى بوعزيز وGuillaume Denglosلكتاب كُلّفا رسمياً بإعداده مقابل مبلغ باهظ يعرفانه، قدّماه أخيراً في باريس بعنوان» La Maison du Maroc à la cité U-Lieu de mémoire des étudiants à Paris»(Riveneuve 2022) (دار المغرب في المدينة الجامعية ـ مكان لذاكرة الطلبة المغاربة في باريس) ونعتاها فيه هذه بنعت أقلّ فجاجة مما ذكرت، وصفا ما آلت إليه ب» La belle endormie» كنايةً عن مدن عرفت مجدا تليداً وغرقت في السّبات بديلا عن القول إنها في موات. ليست المرة الأولى يتم الانتباه إلى هذه الذاكرة ومحاولة التنقيب عن أصولها ومكوناتها وجَسِّ نبض قلب خفق سنين طوال بمجد حقيقي للنخبة/النخب المغربية، طلابي وسياسي نضالي، وثقافي، واستشرافي لمستقبل مغرب زاهر متحرر مبنيٍّ على فكرة الوطن.
هذه الفكرة أو المفهوم يتبلوران أطروحة للباحثين ونسقاً من وراء تشخيص ورسم أُطر الذاكرة وعرض محتواها، ليبرزا، لا أعرف بالضبط الأقرب إليها، المغربي أم الفرنسي، أن الطلبة المغاربة في فرنسا وباريس تحديداً عبر أجيالهم كانوا يستقون تفكيرهم ويعملون بإيديولوجية وهي استقلالية واتحادية ويساروية من أجل بناء وبلورة صيغة هذا الـ «wattan»، لن نعثر على امتداد البحث والعرض على ترجمتها إلى الفرنسية، ثم بعد ذلك بالانتقال منها، أي من جوهر النضال الطلابي في (دار المغرب) إلى ما سمّياه الدولة الأمة، في فترة غفلة تسلّل الإسلامويون إلى تسيير الدار وزرع توجهاتهم بعلاقة مع تحولات الداخل المغربي. إذ هكذا تمضي إعادة تشكيل وتأريخ هذه الذاكرة جاعلين دار المغرب بباريس، ليس بؤرة مركزية في النضال الوطني والديموقراطي في المغرب وله فحسب، بل بوصلته، ومُنظّره ومخطّطه ومنفّذ برامجِه وأفعاله، أي بما يتعدى التنسيق والتمثيل في الخارج، وكأنما هذه الدار من خلال تمثيلية الاتحاد الوطني للمغرب الذي حولها مركزا له رسمياً ومخفياً أيضا هي وإقامات أخرى (مبنى 115 في شارع سان ميشيل المقر القديم لجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين، ومقرا في rue La serpente، وكذلك في 43 Le rue des écoles لأمر ما مسح الكتاب وجوده تماما(!) أصبحت الوطن البديل، لا، بل مقر حكومة في المنفى، لنتأمل مثالا ما ورد في الخلاصة: «من 1960 إلى نهاية 1970 تهيكلت دار المغرب في صورة مغرب آخر، مغرب الغد» (ص 304).
استوعب كتاب البوعزيزي Denglos ما كُتب قبله، بدءاً من توفير ببليوغرافية شمولية للموضوع، واعتماد وثائق، والنبش في خزانات وملفات صعبة المنال، كما اتكأ على شهادات عدد من الفاعلين، الطلاب، قطنوا الدار وتقلبوا في مراحل تمثيلياتها وصراعاتها، وآخرين من مجالسها الممثلة، وأفراد من المنظمة الطلابية، زيادة على بعض العاملين المسؤولين فيها، غلب حضور بعضهم وأقواله بإفراط مُريب على حساب غياب آخرين أبناء الدار، ويُعدون من علاماتها، أذكر منهم، مثالا فقط اتحاديان عتيدان، حيّان يُرزقان، خالد عليوة، وعبد الرحيم جلدي. وبُني العرض اعتماداً للتمثيلات السياسية للأحزاب والتيارات التي اعتبر الدارسان أن كان لها الحضور الأقوى داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وبعلاقة مع الوطن الأم، منظوراً إليه أحيانا كأنه فرعٌ وذيلٌ تابع لا أصل. لذلك، فهذه الشهادات جزئيةٌ ومُعَدّةٌ بتصور سابق عليها وليست بالطبع وثيقة تاريخية، ويجب إغناؤها من طرف وجوه بارزة أقامت حقا في الدار لا عبرتها خِلسةً، وكان لها نشاط حيوي وتأثير فعّال في مؤسسة محتقنة بالغليان، خاصة وأن كثيرا من الملفات والوثائق ضاعت أو محفوظة، وهو ما تزود به الباحثان من الدار مباشرة.
بعض المواد، المسرودة والموصوفة في الكتاب، سعت لتقديم صورة بانورامية عن المشهد الطلابي المغربي النضالي في باريس، متقاطعاً مع القضايا الوطنية عشية الاستقلال وعقبه، حتى بدايات الألفية الجديدة، أبرزت الدينامية الطلابية عبر خمسة عقود، وقدمت سجلا لنخبة مغربية ستتولى مسؤوليات كبيرة في ميادين مختلفة بتنوّع تكوينها بين العلوم والطب والهندسة والعلوم الإنسانية، ذكوراً وإناثاً، بما جعل دار المغرب مختبرا حقيقياً لتخريج النُّخب، أجدني مضطرا لحجب الأسماء لكثرتها وكي لا أقع في زلة الإقصاء، إنما لن يفوتني اسم الشهيد عمر بنجلون، نيابة عن الجميع ورعيل الاتحاديين خاصة كانوا الأصلبَ عوداً والأكثر تمثيلية وفعالية في أغلب حِقب الدار، شططٌ محوُ هذا، شهدت بعضها وعرفتها عن كثب. لنسجل أن العمل الثقافي من أهم ما تختزنه ذاكرة هذه المؤسسة الفرنكو مغربية، فهي مزدوجةُ التأسيس والفعل والأثر تاريخُها مشترك بين بلدين وثقافتين، أرسلت لنا نخبة فرنكفونية وفرنكوفيلية مدّد بها الاستعمار السابق عمره، وأخرى من معدن وطني صرف صنعت مغرب الاستقلال.
لا يتسع المجال للحديث عن الندوات المنظمة على امتداد عقود، والأعلام مفكرين وسياسيين مشاركين من آفاق شتى. لا يتسع كذلك لعرض ما في الكتاب المذكور من مراحل البناء والتفكيك والتخريب والاحتلال والفوضى والصراع المستدام بين القاطنين والإدارة، بين ممثليهم والسفارة، بين سياسة رسمية تجاهها وأخرى لها بالمرصاد. تشبه دار المغرب في باريس إلى حدّ طائرَ الفينيق، كلما احترقَ يولد من رماده، وهي منذ تأسيسها إلى اليوم تعرف ولاداتٍ وانهياراتٍ متكررة، أسهم الملك الراحل الحسن الثاني في تجديدها، والملك محمد السادس في بعثها بعد خراب، ونراها أخيرا ترسو إلى برّ الأمان، تاركة وراءها زوابع النضال وذاكرة الثقافة النضالية التي خبت في الداخل قبل الخارج، من طلاب كانوا يأتون للدراسات العليا ويتخرجون قادةً وحملة مشاعل وأطرٍ عليا أيضا، تحولت إلى شبه داخلية دقيقة التسيير بضوابط صارمة يقطنها طلاب الماستر وعلوم التدبير والتقنيات الحديثة ينصرفون إلى تعليمهم، تمثيلهم شبحي في مجلس الإدارة، وبكل ما تبذله هذه من محاولات لإنعاشها فنيا وثقافيا كلٌّ يغنّي على ليلاه. ما قاد الباحثين إلى ما وجداه ختاما ملائماً، ويا للمفارقة، لمنهج وحصيلة ذاكرة كُلّفا بتدوينها، القول: «لم تعد الدار معلومة بقاطنيها، ولكن بإدارتها فقط، لقد تمأسَست»(295) و«لِكلِّ أجلٍ كتاب».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 08/02/2023