المخرج الدنماركي، لارس فون ترير : الخصم اللدود لجميع انوع السلطة الفكرية

 

من هو لارس فون ترير؟ هو ببساطة ذلك المخرج الدنماركي المثير للجدل المولود سنة 1956، والذي لا تعرض أفلامه في أرض إلا ويثار حولها جدل، ولا يحضر هو في مناسبة إلا وأثار من حوله الاهتمام.
ولعل من آخر ثوراته هي واقعته في مهرجان كان 2011، حيث اضطرت إدارة المهرجان الفرنسي العريق إلى اتخاذ قرار بطرد ترير من المهرجان في موقف غير مسبوق، ويحصل للمرة الأولى في تاريخ المهرجان، وذلك على خلفية إعلانه مساندته للنازية، بل قوله إنه نازي، وأن «إسرائيل» ليست إلا شوكة في المؤخرة.
عبقرية ترير

لعل هذا المخرج الدنماركي هو واحد من أكثر المخرجين إثارة للجدل في زمننا الحاضر. بدأ يخرج أفلاما وعمره 11 عاماً فقط، ولم يتوقف عن ذلك أبدا حتى اليوم.
عرف عنه أنه مولع بالأفلام التي تحرك الوعي والفكر، وفي الوقت نفسه عرف عنه أنه مولع بالغرافيك في الصورة السينمائية، وبدا ذلك واضحاً في دراما الجريمة التي جسدها فيلمه «عنصر الجريمة» (1984)، وأيضاً في أحد آخر أفلامه «ضد المسيح أو المسيح الدجال» (2009).
وترير هو واحد من مؤسسي الحركة الطليعية المسماة «دوغم 95» والتي تهدف إلى تنقية صناعة الفيلم من خلال رفض استخدام المؤثرات والخدع التي تلجأ اليها الأفلام عالية التكاليف.
ربما يبدو مستغرباً ان يظهر ترير في الفيلم الوثائقي المنتج عنه عام 1997 والذي اخرجه سيغ بيوركمان وهو يقول «انني اقول بكل سرور ان كل ما قيل وكتب عني وعن افلامي هو مجرد أكاذيب».
لكن هذا هو ترير… يرى أن ما سيقال في المستقبل عنه، وعن أفلامه يشبه ما سبق أن قيل.. وهو غير معني به.. ويمضي ترير في وصف حياته بأنها «حياة مصطنعة»..هكذا باختصار ووضوح. فيما يقول عنه صديقه ومنتج أفلامه لزمن طويل بيتر جينسن «ترير هو الشخص الذي لا يكذب ابداً».
ربما يبدو هذا التناقض مقبولاً ومفهوماً بمجرد ان قبول كل من حياة وافلام ترير على انهما معاً تقدمان قصة درامية سلسة ولكنها مصطنعة وحمالة لأوجه متعددة من الفهم والتفسير. فيما يصفه مونتير أفلامه وزميل دراسته توماس جيسالسون أنه «فتى لعوب»، فيما يقول عنه صديقه ارنست هوغو ـ جيريغارد «إنه الخصم اللدود لجميع انوع السلطة الفكرية».
أما ترير نفسه فيكرر أن افلامه «استفزازية وتحريضية»…ويعود زميله جينسن إلى القول «إن نقاءه ووفاءه هو من ذلك النوع الذي يعود إلى العصور الوسطى، إنه باختصار فارس، قد يكون فارساً صغيراً».
ربما كانت هذه السطور الأخيرة تعرفنا أكثر على ترير بالقول إنه «ذلك المثالي المؤمن الذي يعاني من مخاضات العقيدة الصافية والصادقة، والذي يدافع بلا هوادة عن ثوابته الخاصة «.
وعلى النقيض من المخرج السويدي «برجمان» الذي تتحدث قسم من أفلامه عن القلق الذي يساور الناس من «غير المؤمنين»، والتوق إلى الإيمان، فإن أفلام ترير جميعا تتحدث عن قلق «الناس المؤمنين» وتقديم حالة انتظار لعدم الإيمان».
كسر المفاهيم

عندما تستمع إليه وهو يتحدث عن أفلامه تدرك أنه منذ البداية وابان دراسته لفن الفيلم كان مهموماً بالخروج على المألوف وان يكسر القواعد كلما وجد الى ذلك سبيلاً.
لقد صنع أفلامه المبكرة بسبب إيمانه بالقصص المبهمة وخطوطها المتشعبة، ولهذا وظف الخطوط القصصية المتعددة، الوعي واللاوعي، الاضطرابات النفسية، والتتابع غير المألوف للصور والأصوات كما يريدها هو.
في أفلامه الأخيرة كان يجذب مشاهديه بشكل لافت للنظر مستخدماً الكاميرا المحمولة التي تتحرك بشكل حر ومرن، الحوار المرتجل، ثيمات ليست من الميلودراما ولاتنتمي اليها بشكل مباشر، خليط من الأداء التعبيري والتمثيل المسرحي وصولا الى مشاهد جنسية غير مثيرة ولا مريحة حتى مع مضي في تقديم مزيد من الفن في بنى السرد الفيلمي.
من الجانب الآخر وبالرغم من تميزه بالتفكير الحر ونزعة الرفض الا ان تأثير العقيدة الكاثوليكية واضح في تفكيره وحتى في استعارته اسم «دوغم» لمجموعته السينمائية المأخوذة من بواطن العقيدة الكاثوليكية وأدبياتها.
ومن تناقضاته ايضاً مواقفه من العقيدة الايديولوجية لوالديه فقد رفض عقيدتهما الايديولوجية الشيوعية وكان مختلفاً معهما وقد ظهر جانب من حواراته الفكرية معهما في عدد من افلامه من خلال ذلك الحوار المتصاعد الذي ينطوي على التناقضات ايضاً التي هي سمة ترير الشخصية.
في فيلمه «عنصر الجريمة» (1984) يجمع ترير بين اجواء كافكا وبورخيس القاتمة والمتوترة من خلال شخصية «فيشر «المحملة بالرمزية، يعمد ترير الى التنقل بمشاهديه في اجواء شديدة القتامة والذاتية: بحث في الأنحراف والجريمة والبغاء وتحولات في شخصية تكاد تنطمس معالمها ثم ماتلبث ان تبدو اكثر تطرفا مما نتوقع وفي كل ذلك كان ترير يوجه خطابه المبطن ضد كل اشكال التطرف، كان يبحث عن ذات صافية واستثنائية مجهولة انه باختصار نقد لكل اشكال التزمت واللا منطق وضد الأنانية انه نقد للتطرف الديني، السياسي، الفني في اطار من السخرية المبطنة حاملاً كثيراً من نزعاته وتصوراته الشخصية التي القاها على شخصياته المتوترة والقلقة التي تدور في فضائها اليومي المعتاد.
لا يعمد ترير إلى أن يرينا سفكاً للدماء او مشاهد لمذابح، ولكنه يعتمد على قوة المشهد واللون، تلك الأماكن المهشمة والخانقة والألوان الدالة على الأبادة والقتل الوحشي الذي تستشعر به من دون ان يصرخ فيك في اشكال مستهلكة ومعتادة.
في المقابل، نجد أننا في فيلم «وباء» (1987) نمضي عميقاً في فلسفة ووعي ترير بل ان هذا الفيلم بالذات يجمع عليه النقاد على انه الفيلم الفذ الفريد الذي كشف مبكراً عن عمق رؤية ترير وجنونه وتفرده وهو في الحقيقة يكشف عن طريقته وأسلوبه الخاص سواء في الإخراج أو الفكر الذي يحمله فيلمه او الشخصيات التي يقدمها.
في هذا الفيلم سنشاهد ترير نفسه يظهر في الفيلم إلى جانب صديقه الحميم وشريكه في كتابة عدد من افلامه «نيلز فويرسل» حيث شارك معه في كتابة افلامه: زويتروبا، عامل الجريمة، المملكة بجزئيه الأول والثاني والفيلم عن شخص يدعى الدكتور «ميسمر» الذي يكرس جهده لمعالجة شخص مصاب بوباء غير مبال بإمكانية تسرب ذلك الوباء وانتشاره، فكرة فيها تمحور للذات في مقابل تطلع الآخر وسجالات وحوارات تدور في هذا الفضاء التعبيري وكل ذلك تم وضعه في سياق الأحداث الفيلمية في نوع من السرد الفيلمي المتداخل حتى ظهور الفتاة وتحولها الى محور مهم في مسار الأحداث وبذلك اصبح الفيلم ذا شكل اكثر واقعية.
في هذا الفيلم يتمثل اسلوب ترير المميز في معالجة الأحداث فمن جهة هنالك ذلك البناء المتقن لتتابع الأحداث وبناء اللقطات في داخل الفيلم وخلال سير احداثه وفي الجهة المقابلة كانت كاميرا ترير الحرة والمرنة محمولة باليد او على الكتف وهي تتنقل في مسار الأحداث، يضاف الى ذلك استخدام الأضاءة الطبيعية وكل ذلك يعطي مساحة زمنية امدها خمسة ايام كرسها السيناريو من اجل عرض قصة اولئك الكتاب.
في فيلمه «كسر الأمواج» (1996) الذي جاء ضمن ثلاثية تتصدى للجدل حول القناعات الشخصية التي تصل في بعض الأحيان الى حد الدوغمائية، فمثلا هنالك امرأة تضحي بكل شيء من اجل ان تصل الى مرحلة النقاء التام في مقابل «جان» الذي وجد نفسه غريباً في مجتمع لا ينتمي اليه وهو المجتمع السكوتلاندي وكان قد تعرض الى حادث غير مسار حياته وها هو يتغلغل في وعي وسلوك زوجته المحافظة داعياً اياها إلى أن تنام مع رجل آخر ثم لتأتي وتخبره شعورها من جراء هذا الفعل، كل ذلك سيكون دافعاً مدمراً لموتها الفاجع في مقابل زوج ضائع ومشتت بل ونصف مجنون ونصف منحرف.
والحقيقة ان ترير ان كان قد لامس قضايا اجتماعية عديدة فإنه في هذا الفيلم توسع الى قضايا تتعلق بالمعتقد وبالكنيسة، فالأفكار والمواقف التي ترتبط بالكنيسة كانت محور اهتمامه وهو يزج بشخصياته لكي تبحث لنفسها عن مواقف ما.
إن الملاحظ على ترير أنه يذهب إلى ما هو أبعد كثيراً من الحقيقة المجردة، إلى الوجه القبيح والجدلي من الحقيقة ويرى بعض النقاد أن هذا نوع من التوجه المبكر للسينما الأوربية أن تبحث لها عن مكان ورؤية مختلفة عن سينما هوليوود، وكان من ذلك الخوض في موضوعات تبتعد عنها هوليوود او ليست من اهتمامها بينما اصبحت علامة مميزة للسينما الأوربية وهو ما يحرص عليه ترير كثيرا.
ومما لا شك فيه أن فيلم «كسر الأمواج» قد يلامس او يحرك مشاعر الكثيرين مخلفاً ردود افعال شتى ولكن من الناحية الفنية والسينمائية يعد عملاً فنياً متكاملاً عالي الأحتراف لكن ليس مستغرباً ان يقابل الفيلم وهو في مهرجان «كان» السينمائي بصرخات الاستهجان وهتافات الترحيب في آن معاً.
إنه ترير في «كان» ولا يناقش «الدين» كمفهوم مطلق، ولكنه يناقش المعتقد المجرد ولا يتخلى عن نبرة السخرية وهو يتعاطى مع هذه القضايا الجدالية.
أما فيلمه «راقص في الظلام» (2000)، فرغم أنه لا يتصدى لقضايا العنف والجنس بشكل صارخ ومباشر، ولكنه ليس فيلماً مريحاً لأولئك المتحسسين لمواضيع الضنك والصعوبات والأزمات الاجتماعية والإنسانية الخانقة.
في هذا الفيلم سنشاهد سلمى وهي تنتقل من شقاء الى شقاء ومن ازمة إلى أخرى من أجل ابنها، وهنا سنشعر بالقسوة التي تضغط على المشاعر والعاطفة ورغم ان الفيلم يدور في فضاء موسيقي مجرد، إلا أن الأحداث تتطور فيه دراميا الى درجة تقترب من الميلودراما ثم ما تلبث ان تنحو منحى تعبيرياً مجرداً ومؤثراً لا تملك وانت تشاهد سلمى وهي تتألم وتحزن الا ان تشعر بمزيد من التعاطف معها.
الجنون

من أين نبدأ؟ ذلك هو السؤال المهم..افلام ترير تضم غالباً نوعاً من الصور الغرافيكية مع مشاهد جنس مباغتة كما في فيلمه «المغفلون» (1998) و»المسيح الدجال» (2009).
شركته «زينتروبا» تعد واحدة من أكبر الشركات في العالم لإنتاج الأفلام، بما فيها الأفلام الإباحية. ولهذا ليس مستغرباً أن يظهر ممثلوه في عدد من أفلامه وهم عراة تماما أمام الكاميرا، ويمارسون حياتهم أو يعبرون عن موقف ما. ومع ذلك فتروير معروف عنه أنه ذلك الكاثوليكي المتدين الورع.
إن حواره مع الكاثوليكية يعد بحق نقطة تحول مهمة في حياته فهي التي ألهمته لتأسيس مجموعته «دوغم 95»، وذلك من أجل تأسيس أسلوب فيه وفاء للعمل الفيلمي الخالص.
الانضمام الى «دوغم 95» هو تعبير عن وجه آخر من الجنون المرتبط بالعبقرية، وذلك بالخضوع إلى قواعد محددة في أثناء صناعة الفيلم، ومن ذلك التصوير في أماكن حقيقية، استخدام الكاميرا المحمولة المتحركة بمرونة، وعدم الثقة المطلقة والتسليم بما يقوله المخرج.
ترير غير معني بتكامل الأشياء في المشهد بالشكل المثالي المعهود. هنالك اعاقات معتادة ومتعمدة فمثلاً فيلمه «أوروبا» صور مشاهده على أرضيات خشبية تصدر أصواتاً لدى السير عليها وفيلمه «دوجفيل» صور مشاهد منه على خشبة مسرح وحيث تسمع اصوات السير على الخشبة.
ومن الجانب الآخر، فإن ترير مولع باستخدام الكاميرا الرقمية مع وجود صعوبة في تصوير موضوعات محددة بتلك الكاميرا، فمثلاً في فيلمه «راقص في الظلام 2000»، هنالك مشاهد موسيقية صورت بواسطة حوالي 100 كاميرا رقمية.
وبعيداً عن السينما، وفي الحياة، فإن ترير يتمتع بخصوصيات غريبة، منها أنواع من الفوبيا أو الخوف المرضي. ولعل من أسوئها على الإطلاق هي الخوف من الارتفاعات العالية، وبالتالي الخوف من السفر بالطائرة، ونتيجة ذلك ظل ومايزال يصور أفلامه مابين السويد، وبلده الدنمارك، متنقلاً بسيارته بالرغم من تصوير مشاهد يفترض أنها في الولايات المتحدة.
ولدى ذهابه للمشاركة في مهرجان «كان» بجنوب فرنسا، كان يقطع الطريق جيئة وذهاباً قاطعاً مئات الكيلومترات بسيارته، الخاصة لكي يتجنب السفر بالطائرة رغم مشاق السفر الطويل بالسيارة.


الكاتب :   الصافي مسعود

  

بتاريخ : 11/02/2023