هل نحن جادون في مراجعة علاقاتنا مع باريس؟

أحمد نورالدين

ليست مجرد توصية برلمانية بمبادرة فريق أو مجموعة هي ما يغير التحالفات الاستراتيجية أو يطوي علاقات قوية استغرق بناؤها سبعة عقود من الزمن، على أقل تقدير، بين المغرب وفرنسا. فرغم كل الغبار الإعلامي الذي أثير حول الأزمة الصامتة بين البلدين، ظلت كل التصريحات الرسمية من الرئيس إلى الدبلوماسيين الفرنسيين تؤكد أن العلاقات مع المغرب متميزة وأن هناك حرصا على تطويرها وتعزيزها في كل المجالات. بل إن وزيرة الخارجية الفرنسية خلال زيارتها الأخيرة إلى الرباط منتصف دجنبر 2022 قالت إنه «بإمكان المغرب الاعتماد على فرنسا في ملف الصحراء..» وهذه رسالة واضحة وفي نفس الوقت تحمل إشارة مشفرة إلى من يعنيهم الأمر.
حين نتحدث عن فرنسا لا يجب أن ننسى أنها كانت سباقة على كل الدول الأوروبية وعلى الولايات المتحدة أيضا في دعم موقف المغرب ومقترحه لحل النزاع في الصحراء المغربية. ولطالما وقفت سدا منيعا أمام أي تحركات معادية للمغرب داخل مجلس الأمن حتى من طرف «حليفتنا» الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تقدمت بمشروع قرار لتوسيع صلاحيات المينورسو سنة 2013 بواسطة مندوبة واشنطن لدى مجلس الأمن الدولي آنذاك سوزان رايس.
لا ينبغي إنكار هذا الواقع، لكن من حق المغرب أن يطالب فرنسا بتطوير موقفها بناء على مسؤوليتها التاريخية في تقسيم أراضي المملكة مع إسبانيا، وبناء على تورطها في دعم الاحتلال الإسباني في الصحراء المغربية وإطالة أمده بسبب قصفها جيش التحرير المغربي في معركة «ايكوفيون» الشهيرة.
من حق المغرب أن يطالب فرنسا بموقف أكثر وضوحا على ضوء المتغيرات الدولية وخاصة بعد اعتراف واشنطن بالسيادة المغربية على الصحراء، ولكن يجب أن يأتي الطلب من الجانب المغربي وعلى الخارجية ان تتحلى بالشجاعة السياسية والدبلوماسية للمطالبة بذلك بشكل مباشر خلال المباحثات والاجتماعات وعبر القنوات الرسمية، وحينها سيكون رد فرنسا بنفس الوضوح، وعلى أساسه نبني مواقفنا وخياراتنا وفقا لمصالحنا الوطنية.
لا ينبغي أن تتستر الخارجية وراء الصحافة أو خلف الأزمة الصامتة، بل يجب الإفصاح وطرح الملفات على الطاولة. ولا يجب أن ننتظر المبادرة من فرنسا للاعتراف بمغربية الصحراء لأنه «ما حك جلدك مثل ظفرك»، والمبادرة يجب أن تكون مغربية، وبكل ثقة ووضوح وقوة، ولدينا ما يكفي من الحجج والبراهين والوثائق للقيام بذلك.
لقد تعامل المغرب دائما بالحكمة في سياسته الخارجية ولم يتعامل بمنطق الرجم بالغيب أو الرجم بالحجارة. البوصلة في ذلك هي مصالح المغرب أولا وأخيرا، وأي قرار استراتيجي يجب أن يتم إنضاجه بناء على دراسات رصينة ونقاش عميق وحوار سياسي هادئ حتى لا تكون له آثار كارثية على التوازنات الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى للوطن. لسنا جمهورية موزية ولا جمهورية عسكرية تتخذ فيها القرارات بعشوائية وتنقلب فيها المواقف بين عشية وضحاها.
وفي هذا الصدد يجب أن نستحضر أن فرنسا أول مستثمر أجنبي بالمغرب بحجم تراكمي تجاوز 12 مليار دولار، وأن مفخرة الصناعات المغربية اليوم هي صناعة السيارات التي تجاوز حجم صادراتها السنوية 11 مليار دولار، وهي نتاج شراكة وتعاون مثمر وبناء لإنتاج ماركات فرنسية بالأساس، ولا يجب أن ننسى أن فرنسا تشكل الجنسية الأولى في عدد السياح الوافدين على المغرب وبحصة تقترب من 35% من السياح الأجانب، وأنها تستقبل فوق أرضها جالية تفوق المليون مغربي، هذه بعض المؤشرات وإلا فالأمر يستدعي مجلدا لتعداد حجم التعاون بين البلدين في كل مناحي الحياة.
لست ضد مراجعة علاقاتنا مع أي دولة كانت، إذا كانت مصلحتنا الوطنية تقتضي ذلك. ولكن على أولئك المسؤولين الذين يطلقون فقعات كلامية حول مراجعة العلاقات مع هذا البلد، أن يعطوا المثال من أنفسهم على صدقية كلامهم بأن يتوقفوا قبل ذلك عن إرسال أبنائهم إلى مدارس البعثات الفرنسية بالمغرب، التي تستقبل كل سنة 40 ألف تلميذ من أبناء المسؤولين وكبار الموظفين ورجال المال والأعمال وعلية القوم وجزء من الطبقة الوسطى في هذا الوطن العزيز، وعلى المسؤولين أن يتوقفوا عن الوقوف في طوابير مهينة أمام القنصليات الفرنسية للحصول على التأشيرات لقضاء عطلهم في فرنسا حيث يصرف السياح المغاربة سنويا حوالي مليار دولار.
ثم كيف لمسؤول أن يتحدث عن مراجعة العلاقات ونحن مازلنا نستعمل اللغة الفرنسية في أغلب المراسلات الإدارية ونتحدث بها في الاجتماعات الرسمية، وندبج بها الكثير من البلاغات الوزارية؟!. والأدهى من كل ذلك أن هناك من كبار المسؤولين من يستعملون لغة موليير في مخاطبة أبنائهم داخل بيوتهم، وهو استلاب حضاري وثقافي ما بعده استلاب، بل هي سبة ووصمة عار على جبين المسؤولين والكبراء في بلد حافظ على استقلاله كدولة مركزية خلال 12 قرنا على الأقل، وكانت له إمبراطورية امتد حكمها من حدود مصر شرقا إلى جبال البرانس في أوربا شمالا، إلى غانا جنوبا.
نعم، قبل أن يتحدث مسؤول عن فك الارتباط ومراجعة العلاقات بين البلدين، عليه أن يفك ارتباطه هو أولا بكل ما سبق، وأن يحترم لغة الوطن في مخاطبة أبنائه وفي اجتماعاته ومراسلاته الإدارية. إنها أشياء بسيطة ولكنها تحمل معاني ودلالات ثقيلة كجبال الأطلس الراسخة والشامخة.
إن فك الارتباط أو مراجعة العلاقات مع دولة تربطنا بها علاقات استراتيجية متشعبة لا ينبغي أن يكون مزاجيا، أوبسبب أزمة عابرة، ولا يجب أن يكون موضوع تراشقات خطابية وكأننا في سوق عكاظ. وحتى إذا افترضنا أنه تم اتخاذ قرار في هذا الاتجاه لأسباب معينة قد تكون خافية أوذات طبيعة سرية، فالأمر يتطلب خطة استراتيجية لتنفيذ وتصريف قرار كهذا له تبعات اقتصادية وجيوسياسية ثقيلة. وأعتقد أن فك الارتباط بشكل جدي مع فرنسا إذا أريد له أن يتم فسيستغرق 20 سنة على الأقل، باستحضار العلاقات المتشابكة على كل المستويات الاقتصادية والعسكرية والثقافية واللغوية والإنسانية والتقنية بين البلدين، عدا ذلك سنكون أمام مزايدات فرزدقية تضر بمصداقية المغرب أكثر مما تنفعه.

الكاتب : أحمد نورالدين - بتاريخ : 16/02/2023

التعليقات مغلقة.