لبنانيو المغرب.. عن مدينة الدار البيضاء، يحكي صالح أبو رزق

شكلت وفادة نخب ممتدة من مثقفي بلاد الشام واستقرارها بمدن مغربية مختلفة خلال العقود الأولى من القرن 20، علامة فارقة على جهود إحداث النقلة النوعية نحو وضع بنيات ثقافية وإعلامية وإبداعية حداثية، استطاعت خلخلة الكثير من القيم الرمزية المتوارثة في إطار سكون الواقع المغربي. لقد اختارت هذه النخب المغرب موطنا، وتوجهت نحو حواضره الكبرى مثل طنجة وفاس ومكناس والرباط والدار البيضاء ومراكش، لتفتح دوائر ممتدة من العطاء الذي أثمر تجارب تحديثية رائدة، تجاوزت أنماط التدبير اليومي لمعيش الناس، إلى مستوى التأصيل لمنطلقات فكرية عميقة في تطوير رؤى «الذات» تجاه «الآخر»، المسيحي أو الأوربي أو المشرقي، وفق قاعدة الانفتاح والاستيعاب التي وضعت أسسها دهاليز الإدارة الاستعمارية ببلادنا منذ مطلع القرن 20. في هذا الإطار، ومنذ مطلع القرن، برزت الكثير من المشاريع الفكرية والإعلامية والسياسية الرائدة التي لازال تراثها يشكل منجما لا ينضب بالنسبة لمؤرخي المغرب الراهن في سعيهم نحو تشريح خطابات موجة الحداثة التي اجتاحت المغرب خلال هذه المرحلة، إلى جانب وضع التقابل الضروري بين عطاء هذه الموجة من جهة أولى، وبين انتكاسات خطابات «الحداثة المعطوبة»، حسب التعبير الأثير للشاعر محمد بنيس، من جهة ثانية. ساهمت هذه النخبة اللبنانية في بلورة أول وثيقة دستورية ببلادنا والمعروفة بدستور «جماعة لسان المغرب»، مستغلة أجواء الانفتاح التي وفرتها مدينة طنجة، من موقعها كحاضن للديبلوماسية المغربية في تواصلها مع الخارج خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، ثم كمنطقة دولية شكلت نافذة المغاربة المشرعة على عوالم أوربا وعلى ضفاف «الآخر» الممتد خلف سديم ستار حديدي موروث عن قرون طويلة من الانغلاق ومن العزلة الداخلية الاختيارية. وعلى المستوى الإعلامي، يعود للنخب الشامية الفضل في وضع أسس مقاولات إعلامية مقروءة، قبل ظهور آليات التواصل السمعي البصري، وهي المقاولات الإعلامية التي تباينت في أهدافها وفي مراميها بحسب درجة قربها أو ابتعادها من دوائر التأثير الفرنسي الذي كان يتربص بالبلاد تمهيدا لغزوها ولاحتلالها.
في هذا الإطار، برز اسم جريدة «السعادة» التي واكبت جهود الاحتلال الفرنسي للبلاد منذ سنة 1903 وإلى تاريخ الإعلان عن استقلال المغرب سنة 1956. ويمكن القول، إن هذه الجريدة توفر مادة خام هائلة للبحث في مختلف تلاوين تاريخ «المغرب الفرنسي» في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية. وإذا كان الحديث عن الأهداف الكولونيالية الفاقعة الكامنة من وراء مجمل مرامي المواد المنشورة بجريدة «السعادة» أضحى متجاوزا بالنظر لما استطاع البحث التاريخي الوطني المعاصر بلورته من رؤى علمية وإجرائية في البحث والتقييم جعلت منطق التنقيب يتجاوز سقف أسئلة الأطروحات الكولونيالية، فإن العودة المتجددة لتقليب صفحات جريدة «السعادة» يشكل مدخلا أصيلا لتفكيك أسئلة الاحتواء الاستعماري وإعادة موقعتها داخل سياقاتها التاريخية «الطويلة المدى» التي أفرزت الظاهرة الكولونيالة بأسئلتها المركبة وبإسقاطاتها على بنية التحول بالمناطق التي شملتها هذه الظاهرة بمجمل أصقاع عالم ما وراء البحار.
لكل ذلك، أضحت العودة لتقليب صفحات جريدة «السعادة» مطلبا أكاديميا رفيعا، له رواده وله رؤاه وله انتظاراته، وقبل ذلك، له أسئلته المرتبطة بتجارب الذوات التي صنعت تجربة جريدة «السعادة»، وجعلت منها رائدة آليات التواصل داخل دهاليز الدولة والمجتمع المغربيين خلال مرحلة الانتقال الكولونيالي. ولعل هذا ما أدركه الأستاذ رشيد العفاقي، عندما خاض تجربة البحث في سيرة صالح أبورزق، الكاتب اللبناني الذي ارتبط اسمه بجريدة «السعادة» من موقعه كمراسل لها بمدينة الدار البيضاء خلال الفترة الزمنية المتراوحة بين سنتي 1914 و1938. لقد استطاع الأستاذ رشيد العفاقي تقديم نتائج مجهوده التنقيبي المتميز بعد أن اتخذ شكل تجربة ثرية في تجميع مواد توثيقية غزيرة، أثمرت عملا تركيبيا صدر سنة 2019، تحت عنوان «صالح أبورزق- لبناني في الدار البيضاء (1914-1938)»، وذلك في ما مجموعه 400 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن الكتاب يساهم في إثارة أسئلة كبرى حول قضايا مركزية تحكمت في رؤى المشارقة، وأهل لبنان تحديدا، تجاه الواقع المغربي خلال عهد الاستعمار، ثم تجاه دولة فرنسا التي فتحت أحضانها لاستقبال «أبنائها اللبنانيين» قبل إدماجهم داخل نسق المشروع التدجيني الكولونيالي، وتحويلهم إلى آلة للاستيعاب وللتدجين وللاحتواء. وبخصوص الإطار العام الموجه لمضامين كتاب «صالح أبورزق- لبناني في الدار البيضاء»، يقول الأستاذ رشيد العفاقي في كلمته التقديمية: «هذا الكتاب هو جزء من كتاب كبير… يبحث في تاريخ اللبنانيين الذين عاشوا في المغرب من أواسط القرن 19م إلى منتصف القرن 20م، في العاصمة الرباط ومدن طنجة وتطوان والدار البيضاء ومراكش والصويرة،… أحببت أن أخرج هذا السفر المتعلق بالحضور اللبناني بالعاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، وأدرس فيه خاصة حياة الصحفي اللبناني صالح أبورزق الذي عاش في الدار البيضاء من عام 1914م إلى عام 1938م، وكان طوال هذه المدة يعمل مراسلا ل»السعادة»، الجريدة التي أنشأتها سلطات الاحتلال الفرنسي أولا في طنجة عام 1903م، ثم تابعت الصدور بالعاصمة الرباط بداية من عام 1913م. وحتى بعد مغادرته للمغرب إلى فرنسا، ظل صالح أبورزق معتمدا لدى جريدة «السعادة» كمراسل خاص من باريس إلى بداية الحرب العالمية الثانية…» (ص.5).
يقدم الكتاب تفاصيل غزيرة حول تاريخ استقرار الجالية اللبنانية بمدينة الدار البيضاء، إلى جانب معطيات دقيقة حول سيرة الكاتب الأديب صالح أبورزق، معززا ذلك بنشر جدول تركيبي لكل المقالات التي نشرها الشخص المذكور على صفحات جريدة «السعادة» بين سنتي 1917 و1940، مع ترتيبها حسب عناوين مواضيعها وأرقام أعدادها وأرقام صفحاتها وتواريخ صدورها. ومعلوم أن أعداد هذه المقالات تجاوز رقم الثلاثمائة، اختار منها المؤلف مائة مقالة أعاد نشر نصوصها كاملة ضمن مضامين الفصل الرابع من الكتاب.
تكشف هذه المقالات عن غزارة استثنائية في تقديم تفاصيل دقيقة حول واقع مدينة الدار البيضاء وعموم أصقاع منطقة الشاوية خلال الفترة المعنية. يتعلق الأمر بتتبع صحفي يومي لجزئيات حياة المجتمع اليومية، ولدواليب عمل مصالح الإدارة الاستعمارية، ولثمار «السياسة الأهلية» التي وضع أسسها الجنرال ليوطي في محاولة للتأسيس لقواعد مرجعية لاستقطاب النخب المغربية، ولتكييف تطلعاتها مع مصالح إدارة الاستعمار، ولاستيعاب طموحاتها داخل قوالب التدجين التي أطرتها معاهدة الحماية. ينتصب صوت صالح أبورزق عاليا مبشرا بالمغرب الجديد، أو المغرب المشتهى. وفي سياق هذا المغرب المشتهى، تبرز وجوه وأسماء ومعالم وفضاءات ووقائع، أحسن صالح أبورزق التقاط خباياها التي لم تلتفت لها الإسطوغرافيات الكولونيالية المسكونة بهواجس الإخضاع والتطويع، ولا الإسطوغرافيات الوطنية المهووسة بأسئلة تميز الذات في مواجهة المشروع الاستعماري. باختصار، يتعلق الأمر بمادة توثيقية غزيرة ومتنوعة، غطت مجمل اهتمامات النخب والمجتمع، من أسئلة الغزو والاحتلال، إلى ظروف الحرب العالمية الأولى ومشاركة المغاربة فيها، مرورا بمجمل التحولات الاقتصادية والاجتماعية للمغاربة، ثم بحمولة ذهنيات الناس ومعالم التحول في خطاباتهم وفي مواقفهم، وانتهاءً بأرصدة الإبداع اللامادي والتراث الشعري المواكب للسياق العام المؤطر للأحداث وللتفاصيل.
هي كتابة تُجاري المشروع الكولونيالي، مع الاحتفاظ لنفسها بالمسافة الضرورية التي تبعدها عن غلو الخطابات الوطنية المفرطة في حماسها عند الانتصار لقضايا علاقة «الأنا» المغربي ب»الآخر» الغازي والمحتل. هي كتابة تعيد طرح أسئلة المشروع الكولونيالي من خلال تمثلات نخبه المحلية المنخرطة فيه، بالمغرب وبباقي أقطار العالم العربي الواسع.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 22/02/2023