مقالٌ للذّكرى: الورطةُ الجزائرية والمواجهةُ المغربية
أحمد المديني
هذا مقال كتبته لجريدة» المحرر» وأنا عضو في هيئة تحريرها، ونشر بتاريخ 25 دجنبر لسنة 1976 عقب مشاركتي في المؤتمر الخامس لاتحاد الصحفيين العرب المنعقد يومي 16 و17 دجنبر 1976 في الجزائر، قصر المؤتمرات نادي الصنوبر بالضاحية الساحلية للعاصمة. كان الوفد المغربي مكونا من عضوين، الصحفي القيدوم الراحل محمد العربي المساري، وكاتب هذه السطور. قررنا المشاركة في المؤتمر واعين بالعداء المعلن للبلد المضيف لقضية وحدتنا الترابية وكل ما يمكن أن يُحاك من تآمر ضد المغرب، وكي نُبعد تهمة المقاطعة وشَقَّ الصفِّ العربي (كذا). بعد مرور 47 عاما على هذا الحدث، بكل ما عشناه في تلك المناسبة، كأن التاريخ لم يتزحزح قيد أنملة، رأيت مفيداً للجيل الحالي إعادة نشر أهمّ مقاطعه كي يعلم أن كفاحنا بقضيتنا الوطنية بعيدُ الجذور وأننا أوفياءُ لتاريخنا، وليتبينوا أكثر بأن عداء الجار الشرقي مستحكِمٌ مما يدعونا اليوم لمزيد اليقظة والتعبئة من أجل صحرائنا، مغربية إلى الأبد.
«اتجه اهتمام الصحفيين العرب إلى إثارة وبحث قضايا أوطانهم الجوهرية على رأسها القضية الفلسطينية والأزمة اللبنانية وأبعادها وانعكاساتها والموقف من الصهيونية في الشرق الأوسط. وجدت القضايا العملية والمهنية مكانا رحباً في جلسات المؤتمر أبرزُها قضية الحريات الصحافية تعتبر بحق شاغلا أساساً من شواغل الصحفي العربي بالنظر لما تعرفه الصحافة العربية من صنوف القهر المادي والضّيم المعنوي. على أن أخصب نقاش وأحدّ جدال عرفه المؤتمر الخامس لاتحاد الصحفيين العرب هو الذي عاشته اللجنة السياسية، نظراً لطبيعة القضايا والمواضيع التي سُجلت في جدول الأعمال منها القضية الفلسطينية ومخططات التسوية.
القضية الثانية التي استأثرت بأعمال اللجنة، هي ما اصطلح على تسميته بـ(المحور المعادي في المغرب العربي). وقد قُصِد بهذه التسمية وأريدَ لها أن تتجه رأساً إلى الوضعية الناجمة عن استرداد المغرب لصحرائه واستكمال وحدته الترابية، كما أريد منها أيضا الإيهامُ بأن المغرب، تبعا لنظام الحكم فيه، يشكل تهديداً للبلد المجاور، أي الجزائر، وما حققه نظامُها من منجزات. لقد كان توجه وفد النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى الجزائر، وبعد تلقّي دعوتين من الأمانة العامة للاتحاد والثانية من النقابة الجزائرية، تعبيراً عن استعدادنا للمشاركة في أعمال مؤتمر الصحفيين العرب رغم الخلافات القائمة بيننا والجزائر وأن الحوار بين الأشقاء لا ينبغي أن ينقطع. وتوجهنا بنِيّة تجنّب كل صدامٍ وجدلٍ عقيم.. ودعا الكاتب العام لاتحاد الصحفيين الجزائريين إلى تجنب الخلافات الهامشية..غير أن أملنا ما لبث أن خاب فالنّية كانت مبّيتةً والقصدُ واضح، والجزائر قدمت أكثر من دليل على ضرورة طرحها لما تسميه مشكل الصحراء»الغربية» وهذا ما حدث في مؤتمر الصحفيين العرب، وقبله في مؤتمر الحقوقيين الديموقراطيين المنعقد بعاصمتها أيضا، إذ ما لبث المندوب الجزائري أن طرح على اللجنة السياسية مشروعَ توصية يدعو فيها إلى استصدار قرار يُدين بلادنا ويؤكد على تقرير المصير لـ»الشعب الصحراوي». انكشفت اللعبة وارتفع كلّ لبس عن حقيقة النوايا المبيتة..اكتفينا حصراً للمشكل بتقديم توصية بديل تدعو إلى إجراء حوار بين الحركة الوطنية والتقدمية في البلدين وإلى حثّ المسؤولين على إيجاد حلٍّ عادل ودائم للقضية، ولم يجد اقتراحُنا أذنا صاغية من لدن رئاسة اللجنة ولجنة الصياغة والتي فاجأتنا بالعجب العجاب، فما هي الحكاية، بالضبط؟
حدث أن لجنة الصياغة حين انتهائها من إعداد التوصيات لتلاوتها على أعضاء اللجنة قصد التصويت والمصادقة أو عدمها؛ حدث أن فوجئنا نحن الوفد المغربي بمقرر اللجنة يتلو على مسامعنا مذكرة طويلة عريضة بمثابة صكّ اتهام لبلادنا وإدانة لاستكمال سيادتنا ودعوة لتأييد «البوليزاريو» والأدهى من ذلك دعوة للاعتراف بما تسميه الجزائر وشرذمة من أتباعها بـ» الجمهورية الصحراوية». وكان واضحاً تماما تواطؤ لجنة الصياغة مع الوفد الجزائري في ما يخصّ إدراج هذه المذكرة العجيبة، وهنا كان لابد أن تبدأ المباراة نظرا لما عشناه من أشواط.
كان لابد من التصدي للأراجيف الجزائرية بما يلزم من حزم وصرامة تتناسب مع مواقفنا المبدئية، انطلاقا من أن ملفّ الصحراء قد أُغلق إلى غير رجعة، ومن ثم فلم نكن في حاجة لتفنيد الدعاوى الجزائرية بسرد الحُجج التاريخية، مكتفين بالردّ على مزاعم تقرير المصير وتحرير «الشعب الصحراوي» من «الاحتلال المغربي» اعتباراً بأن سكان الصحراء قد قرروا مصيرهم بالفعل حين التحقوا بالوطن الأم، وأن التحريرَ قد تمّ مع رحيل المستعمر الإسباني عن المنطقة، واعتباراً أيضا أن دعوى تقرير المصير هي من اختلاق الاستعمار الفرانكوي.
كان حرصنا شديداً على عدم إثارة الجزئيات، ولكننا مع ذلك لم نتوان عن دحر الأباطيل الجزائرية، إلى أن تحولت الجلسةُ إلى سجالٍ بين طرفين، ولم يُخف المؤتمرون استياءهم من الأمر، خاصة وأن أمام اللجنة قضايا أهمّ تريد العكوف على درسها. وكان لا بد للموقف أن يتطور تطوراً معكوساً بعد أن حاول طرفٌ عربيّ تعكيرَ الموقف والتحيّزَ للأطروحة الجزائرية، وساء الأمر أكثر حين أرادت رئاسة اللجنة، وهي جزائرية، إعطاء الكلمة لممثل « البوليزاريو» خارقة قرار الأمانة العامة بأن لا تُعطى الكلمة إلا للوفود الأعضاء في الاتحاد. وأمام تعنّت الرئاسة لم نملك أمام الخرق السافر إلا القيام وإعلان الاحتجاج وإشهاد المؤتمرين على هذا السلوك المعادي لنا، وانسحبنا من القاعة لنعود بعد أن هرولت إلينا عدة وفود للتوسط، وطلبت الأمانة العامة رفع الجلسة لتدرس القضية حالا في جلسة خاصة لرؤساء الوفود.
كان تيارٌ كبيرٌ من المؤتمرين يميل إلى تأجيل النظر في الموضوع، نخص بالذكر لبنان، سوريا، ليبيا ومصر، ومن ثم الاجتماع وبنتيجة التصويت التي جاءت لصالحنا تقرّر عدمُ البت في موضوع الصحراء، وسُقِط في يد الوفد الجزائري الذي لم يترك وسيلة إلا استعملها لانتزاع توصية تؤيد موقفه. وكان نجاحنا أكبر حين طُبعت توصيات اللجنة السياسية خالية تماما من الإشارة ولو بكلمة واحدة، إلى المغرب العربي [المعادي] أو إلى قضية الصحراء. تلك هي الورطة الجزائرية، كان بوسع الجزائر أن تتجنبها بقليل من التعقل وهي البلد المضيف، وإزاءها مغاربة وطنيون لا يمكنهم السماح لها بأي تلاعب بقضية مصيرية أو الاستسلام».
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 22/02/2023