كتب «السي» محمد بوخزار فقال: لحظة التأسيس مع الحبابي، والاستمرارية مع عبد الكريم غلاب
منذ أواخر الخمسينيات، شرع فيلسوف الشخصانية محمد عزيز الحبابي، أول رئيس لما سمي آنذاك “اتحاد كتاب المغرب العربي”، في البحث عن ثقب في جدار الجمود، بإجراء اتصالاته مع الرموز الثقافية المغربية القليلة لخلق “اتحاد كتاب المغرب”.
ويروي الصحافي محمد بوخزار أن “الحبابي ربما استلهم الفكرة من رغبة كانت راودت الزعيم السياسي الراحل عبد الخالق الطريس في مدينة تطوان (شمال المغرب) أيام فترة الكفاح ضد الاستعمار الإسباني، مدفوعا بالحركية الثقافية التي عرفتها مدينة تطوان منذ أواسط الاربعينيات الى منتصف الخمسينيات، بفضل صلاتها المباشرة بالشرق عن طريق البريد البريطاني، الذي كان يؤمن وصول المجلات والجرائد والمطبوعات المشرقية لمستهلكيها في شمال المغرب، وحرصا من الطريس، وهو قطب إصلاحي ثاقب الرؤية في وقت متقدم، على حشد المثقفين في معركة الاصلاح”. ويتابع بوخزار أن اتحاد كتاب المغرب خرج في لحظة التأسيس “مكتمل الملامح والقسمات مع بداية الستينيات، حيث ستصطبغ مرحلة التأسيس وما بعدها بشخصية الرئيس المؤسس محمد عزيز الحبابي، ابن مدينة فاس العائد من فرنسا بفقه جديد هو الفلسفة، التي انتقى من مذاهبها تيار الشخصانية، فصار يروج له ويضفي عليه البهارات الفكرية العربية، والإسلامية، صاغها في مؤلفات، واتخذ ابداعاته الشعرية والقصصية والروائية، مطية للتعبير عن مذهبه الفلسفي الأثير، الذي نهله عن مؤسسه الفيلسوف الفرنسي “مونيي”..”.
وقال بوخزار إن الحبابي كان متشبثا بالإنجاز الثقافي الذي حققه، فهو نواة واجهة وحدوية مغاربية، ولذلك أشرك كتابا جزائريين في العملية مثل مولود معمري، الذي اعتبره احد المؤسسين، ليكون المولود الثقافي الجديد منبرا يطل منه المثقفون الجزائريون الذين كانوا انذاك محاصرين تحت نير الاستعمار الفرنسي. وقد اتاح الموقع الأكاديمي الموازي الذي كان يحتله الحبابي (عمادة كلية الاداب)، وصفة الفيلسوف التي يحملها وحده في المغرب انذاك، أن يستقطب الأسماع والأنظار والعقول، لذلك كثف درجة حضوره في وسائل الإعلام، خاصة الصحافة والإذاعة التي كانت ذات مستوى محترم، تتولى تغطية أنشطة اتحاد الكتاب وأمسياته الادبية والفنية، الرائقة مفسحة المجال لضيوفه الأدباء المغاربة والأجانب، هذا عدا إصدار مجلة (آفاق) التي أصبحت فضاء آخر لكتاب وحساسيات أدبية مختلفة، لكنها في ذات الوقت كانت السباقة للتبشير بأسماء أدبية جديدة، سواء من خلال التشجيع على النشر أو من خلال وسيلة المسابقات الأدبية التي سنها الاتحاد، وكافأ الفائزين معنويا أكثر من ماديا.
وفي مؤتمر عام عقد في الرباط في يوليوز 1968، انتخب الروائى والقاص والإعلامي عبد الكريم غلاب رئيسا، بينما آلت نيابة الرئيس لمحمد برادة ممثل الحساسية الثقافية الجديدة. وقد كان غلاب مساندا من فئة واسعة من الكتاب المحسوبين على حزبه (الاستقلال)، والمنتسبين والمتعاطفين مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الاتحاد الاشتراكي لاحقا)، مما أدى إلى انخراط اتحاد الكتاب في معركة مواجهة السلطة التقليدية كسلطة نقدية واعية تسعى، عبر تعبيراتها الفلسفية والفنية والجمالية، إلى تحقيق الديمقراطية وإدراك التنوير والتحديث، وهذا دفعها إلى الوقوف ضد النهج السياسي العام.
وقد أمضى الرئيس عبد الكريم غلاب ثلاث ولايات متتالية في رئاسة اتحاد كتاب المغرب. كانت سنواتها الأولى، حسب ما وصفها محمد بوخزار، زاخرة بالنشاط والحركية الثقافية. حيث “عادت الحياة إلى دار الفكر، مقر الاتحاد، وأصبحت مقصد مثقفي العاصمة المغربية مرة كل أسبوع على الأقل. كما أقيمت بها تظاهرات ثقافية وإبداعية كبرى، ونوقشت في صالات الدار القضايا الوطنية الحساسة مثل التعليم والسياسات الاقتصادية، شارك فيها فاعلون حزبيون ونقابيون، وعادت مجلة “آفاق” إلى الصدور المنتظم، في ثوب جديد، منفتحة على الأقلام الصاعدة، ومالت محتوياتها نحو ربط الأدب بالواقع، ودافعت عن قدرته على التغيير الاجتماعي”.
وتابع بوخزار: “ظل الحكم مراقبا لنشاطات الاتحاد التي تعدت في نظره النطاق الثقافي الصرف، وصار ينظر إليه، بعد التأكد من ذلك، كواجهة للمعارضة التي تناصبه العداء في الشارع وتطعن في شرعية وجدوى مشاريعه السياسية، وتنتقد أسلوب تدبيره للشأن العام”. وهو ما دفعها إلى النقمة على غلاب، فكان السجن بتهمة “الإساءة إلى الجيش” بسبب مقال انتقادي صغير نشر أصلا في جريدة «الرأي» التي يصدرها ايضا حزب الاستقلال، بالفرنسية، وترجمته العلم بعد يومين، فاستحق، عليه المحاكمة أمام القضاء وأودع السجن من دون الصاق التهمة بالمطبوعة الاصل. وهنا تحرك نائب الرئيس رفقة محمد العربي المساري (الكاتب العام)، لتنسيق عملية التضامن مع غلاب، حيث استنكر الاتحاد انزال العقاب القاسي برئيسه، الذي تعاطفت مع قضيته منظمات وهيئات في الداخل والخارج، وتقاطرت على “العلم” عرائض التضامن والاحتجاج، صارت تزين صدر صفحاتها الأولى مدة سجن غلاب.
وبعد الإفراج عن غلاب، نتيجة الضغوط، تحركت السلطة من أجل إزاحته عن رئاسة الاتحاد. حيث لاحظت اللجنة التنظيمية للمؤتمر، في خضم الترتيبات المادية، أن الاشتراكات تنهال من أعضاء كانوا قد فكوا ارتباطهم مع المنظمة منذ زمان. وتبين أن المبادرين إلى إرسال قسيمة الاشتراك هم موظفون سامون في الدولة، أو محسوبون عليها يحملون صفة العضوية في الاتحاد، طلب منهم ان يستعدوا للمعركة الفاصلة للإطاحة غلاب. ورغم تنبيه غلاب من طرف مثقفي الاتحاد الاشتراكي، فإنه أصر على انعقاد المؤتمر الرابع في حينه، رغم أغلبية التيار الداعي إلى التأجيل المعزز بتوقيعات المؤتمرين على عريضة التأجيل. وبعد مفاوضات ونقاشات، اتفق ما سمي آنذاك بـ”التيار الوطني العريض” على الالتفاف مجددا حول غلاب والتصدي للسلطة والتمسك بالاتحاد منظمة مستقلة، والحيلولة من دون تحويله الى مكتب حكومي.
وقال بوخزار إن الصراع احتدم بين المعسكرين منذ الجلسة الافتتاحية، وكثرت الدلائل على أن التيار الحكومي يريد شيئين: إما إفشال المؤتمر وإيجاد حالة فراغ قانوني، وإذا تعذر ذلك، إزاحة غلاب بأي ثمن الرئاسة. وفي لحظة قايض الحكوميون لجنة تنسيق مصغرة، بالتخلي عن غلاب في مقابل تركهم المؤتمر يسير بكيفية هادئة. لكن التيار المناهض للحكومة قرر التشبث بغلاب كتحد ورفض للهيمنة، وذلك ما تحقق بالتصويت السري، في مدارس محمد الخامس، التي احتضنت أخطر وأشهر مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب، حيث جرت معركة حقيقية بين مثقفين رسميين موالين للسلطة منفذين لأوامرها، ومعارضين حزبيين ومستقلين.