من حوارات الخطيبي 3- النقد المزدوج تقويض للاهوت الأصل

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه عبد الله بنسماعين :

 

-خصصتم بعض نصوصكم، للثقافة الشعبية، عن أية ثقافة تتحدثون؟ ماذا تشجبون بهذا السؤال؟
– لنبدأ، إذا سمحتم، بهذا التمرين اللساني، انطلاقا من اللغة العربية. فكلمة شعب يحيل في الأصل إلى فكرة التقسيم والتشعب. شعب هو قسم الشيء وفرقه. فجميع الدلالات الاصلية تذهب إلى نفس الحزمة الدلالية. فمن الناحية اللغوية، إن الشعب هو تقسيم وتفرقة وتراتبية واختلاف، والحال أنه عادة ما نعتبر الشعب بوصفه كلية وحدة مجموعة. هذا الأمر صحيح بطريقة ما، لكن بعض التمثلات تزيح سؤال الاختلاف. فهنا تنبجس قراءة لاهوتية ووطنية: وحتى لا ننسى فإن كل القراءات تحمل طابعا تاريخيا وإيديولوجيا. وبما أني وجهت اهتمامي نحو فكر الاختلاف، فليس بوسعي سوى أن أتلقى كلمة “شعب” بما تحمله من معنى غير قابل الاختزال.
– كبحته الثقافة العربية الكلاسيكية الارستقراطية، التي تحجم الشعب في إطار السحر، والخرافة والوثنية المقنعة.
– اختزلته وفق النظام اللاهوتي السائد. الشعب، وجود الشعب، جسده ومتخيله كل هذا يحمل آثار ذاكرة بعيدة. فهذه الأركيولوجيا لكل هذا المنسي-وهو في اشتغال دائما- فهذا يستهويني في الشعب المغربي.
حينما أقول الشعب، فأنا أقصد تفرقه بوصفه وجودا تاريخيا واجتماعيا وثقافيا. فإذا كان المغرب هو المكان التأريخي لشعب، فالمطلوب التفكير فيه كطوبولوجيا لفكر الاختلاف.
– النقد المزدوج. النقد المزدوج بوصفه نهجا لتفكيركم: أي بعد استراتيجي تقترحونه لهذا النقد الثقافي لبلدان العالم الثالث؟
– كثيرا ما تم اختزال هذا التعبير. سيكون الأمر بديهيا لو أن الأمر ارتبط بنقد عام يشمل المعرفة التي نشأت في الغرب، وتلك الآتية من مجالنا التقليدي. لكن من نحن على وجه التحديد؟ وعن أي غرب نتحدث؟
يسعى النقد المزدوج إلى تقويض كل لاهوت للأصل. هو مزدوج لأنه يأخذ مكانه بين لغتين، وبين أرضيتين تاريخيتين، وميتافيزيقيتين. فلربما بين لغتين، يكون الفكر ممكنا اليوم.
إن البعد الاستراتيجي لنهج ما يتبدى لي حاسما. فهو يتيح للبلدان التي- بشكل أو بآخر- يسيطر عليها الغرب، يتيح لها إذا، أن تفهم جيدا أسس هذا التحكم، وأن تشق طريقها، بعيدا عن كل أصل، نحو سؤال أتمناه أن يكون غير مسبوق.
– الهوية/الاختلاف. هل من الممكن أن تحددوا هذه الإشكالية بتموقعها خاصة في كتاباتكم، وفي علاقتها بالحوار الذي تقيمه مع الأفكار المختلفة التي تقدمونها؟
– سبق لي أن قلت في السنة الماضية، إنني لا أعد نفسي فيلسوفا، أو مفكرا، وبدرجة أقل فيلسوفا. فرغبتي هي رغبة في الكتابة.
أحاول بالأحرى أن أفهم فكر الأغيار. وفكر الهوية والاختلاف ضارب في القدم، لا تنسوا هذا الأمر. فمنذ الفلاسفة ما قبل السقراطيين (كانوا فعلا كائنات رائعة) إلى مارتان هيدجر والمجموعة الدريدية الفتية مرورا بالميتافيزيقا الغربية كلها، فإن السؤال لم يستنفد أغراضه. وإن أدرس فلسفة الوجود فلأحيط جيدا باللامفكر فيه في كتاباتي، وليس أبد سعيا للتفكير فلسفيا. وهذا ينطبق على كل المعارف التي أوظفها. أوظفها مثل عنصر، شذرة في الكتابة، أو مثل مصدر إلهام إذا أردتم. هذا ما يلهني مسألة الوجود، والهوية والاختلاف، هو من الزخم إلى درجة أنني في مرحلة التعلم والاكتساب. فما أتعلمه أضعه في أزمة داخل كتاباتي ودائما من دون احتساب للبعد الفلسفي. إن الكتابة تنسى مصادرها في الإلهام، تمحوها وتحذفها وتحجبها، وتنثرها في حضرة إيقاع جذبتها.
فمثلا في الذاكرة الموشومة (كتبت هذه السيرة الذاتية ما بين 1969-1970) ستجدون كلمتي “اختلاف” و”هوية” مستعملتين غالبا.
أثناء قراءة هذه العبارات من جديد، لا أفلح في فهم جيد لرهان استعمالها. ما معنى النسيان؟ ألا تكون الكتابة فقدانا للذاكرة؟ وارتياعا على وجه التحديد-على حافة الجنون!
حاولت في الذاكرة الموشومة متعقبا أثر العلامات والأحداث التي تترك صداها في الجسد وتسمه بميسمها بشكل نهائي. وفيما بعد، بلورت -أعتقد جيدا- ذلك السؤال عن الاختلاف، انطلاقا من نيتشه ودريدا، بمجاوزة الأخلاق والميتافيزيقا. إن تقرأوا “الاسم الشخصي الجريح”، تلاحظوا أن الجسد الإسلامي فصلت عنه لحمته اللاهوتية.
– من الواضح أن مسالة الهوية تطرح قضية الوجود. كيف يمكن تحديد الوجود التاريخي حسب حركة فكركم؟ وهل لهذه الهوية أساس متعدد؟
– إن التاريخانية فرضت على العرب، فينبغي حسب قوانين التاريخ، فهم الأسباب التي أدت إلى تأخرهم وتوسع الغرب. التاريخانية هي مرحلة ضرورية، تناسب مرحلة الهوية الوطنية المطلقة، وتلائم فترة نعتقد فيها استعادة الكيان الوطني لشعب أو بلد.
غير أن التاريخانية اليوم هي متجاوزة بوصفها حركة فكرية. فقد آن الأوان لتوسيع مجال فكر اختلافي حقيقي:
-اختلاف اجتماعي: تقويض النظام التراتبي، وأسسه الأخلاقية؛
-اختلاف ثقافي: تثمين الثقافات المكبوحة في العالم العربي؛
-اختلاف سياسي: إعادة التفكير في الأقطاب الحاسمة في التغيير وإحداث القطيعة، بالنظر إلى الوضعية العالمية، وبالنظر إلى التقسيم الجديد للسلطة المحلية؛
-اختلاف تأريخي للوجود العربي عبر انتشاره، من جذوره إلى راهنيته.
اختلاف كل الاختلافات، ليس هو مجموعها، بل هو حركة فكر يصعب اكتناه ماهيته…


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 25/03/2023