شهادة للمرحوم عبد الرحمن اليوسفي في حق عبد الواحد الراضي، أثناء تكريمه من قبل وزارة العدل : ما تفعله النباهة والحكمة، حين تتعاضد مع التكوين العلمي الرصين، ومع الوضوح في الرؤية السياسية

احتضنت المكتبة الوطنية بالرباط في شهر نونبر 2018، تكريما للأخ عبد الواحد الراضي، نظمته وزارة العدل المغربية وفعاليات وطنية متعددة. وهي المناسبة التي بعث خلالها القائد الإتحادي المرحوم عبد الرحمن اليوسفي بكلمة – شهادة في حق رفيقه الكبير، ألقيت بالنيابة عنه خلال ذلك التكريم. وهي الكلمة التي جاء فيها:
شكرا، بداية، لمن فكر وحقق هذا التكريم المستحق لأخينا عبد الواحد، سواء من داخل وزارة العدل المغربية أو من خارجها. فهو العنوان على أن قيمة الوفاء، من شيم أهل العدل ببلادنا. وشكرا، ثانيا، أن منحتموني شرف المشاركة معكم في هذا المحفل المحترم، ولو بكلمة من بعيد، ظنت ظروف خاصة، علي من مشاركتكم إياها مباشرة، وأتمنى أن تجدوا في صدق كلماتها رسالة محبة وتقدير وعرفان لكم جميعا، ولأخي عبد الواحد.
إنني حين، أستعيد قصة علاقتي بالأخ الراضي، الممتدة على أكثر من نصف قرن، أستعيد فيها تفاصيل قصة جيل من المغاربة، لم يخطؤوا موعدهم مع التاريخ، من باب انخراطهم بوعي وبإصرار، في حركية النضال من أجل المساهمة في بناء مغرب المؤسسات والحرية والعدل والديمقراطية. بكل ما كلفهم ذلك من تضحيات وصبر، شحذ فيهم يقين الثبات على المبدأ، والوفاء للمشروع الوطني والتقدمي. ذلكم المشروع الذي مكن، ليس فقط أجيالنا، بل كل بلادنا، أن تقطع طريقها للتحول من زمن الإستعمار إلى زمن الإستقلال وإعادة بناء الدولة المغربية، بروح الإلتزام بحماية السقف الوطني وإعلاء قيمه سياسيا، الذي ظل مقرونا بمبدأ الوفاء للوطني المشترك في الدولة وفي المجتمع. مما جنب بلادنا، ووطننا جميعا، ويلات الإنزلاق إلى متاهات لا أحد يمكنه إنكار مخاطرها.
إن الحكمة التي ميزت دوما شخصية أخينا عبد الواحد الراضي، تقدم الدليل الأنصع على ذلك الخيار، الذي ميز جيل الحركة الوطنية المغربية، في شقيها الوطني والتقدمي. وكم تحتاج فعلا، أجيال اليوم، تمثل قيمة تلك التجربة في كامل أبعادها وتفاصيلها، بامتحاناتها ونتائجها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، أي بدروسها الغنية في نهاية المطاف. ولعل في كتاب مذكراته التي صدرت منذ شهور، ما يكفي من الأجوبة حول الكثير من الأسئلة المرتبطة بأمتنا وبلدنا، وبصيرورة النضال الذي انخرطنا فيه جميعا كأجيال، من أجل بناء دولة المؤسسات والقانون والعدل والحريات بالمغرب. لأنه في مكان ما، جيلنا أدى رسالته كاملة، ومن واجب الأجيال الجديدة، أن تتمثل حصلية وطنهم، من باب التراكم، ذلك الذي يوسع من الإيجابي فيه، ويقلص ويتجاوز أسباب العطب وأخطاء الطريق. لأن الغاية الأسمى، هي خدمة الصالح العام، وحماية بلدنا وأهلنا، وابتكار أسباب الرقي بهم، بالتوازي بين حق طموح التنمية وواجب دولة المؤسسات والحريات والديمقراطية.
ولعل في تأمل سيرة أخي عبد الواحد، منذ انتبه إلى نباهته وكفاءته أخونا الشهيد المهدي بنبركة، وكلفه بمهام حيوية ضمن مشروع طريق الوحدة، ما يكفي من الدليل على أن من مميزات ذلك الجيل، هي مزاوجته بين الوضوح في الرؤية السياسية وبين الكفاءة المهنية والعلمية، وعمله بإصرار على التأثير إيجابيا في مسار بناء وطنه. وليس مستغربا، أنه بسبب من ذلك، بفطنته السياسية واحترافية تقنيات تواصله العمومية وصدقية سلوكه العمومي، أنه قد أصبح أكثر الإتحاديين والسياسيين المغاربة فوزا في الإنتخابات التشريعية والمحلية، وأن يكون عميد البرلمانيين المغاربة، وهو حالة نادرة، لا تتحقق عادة سوى في الديمقراطيات الراسخة. وأن السر في ذلك الإستفتاء الشعبي حول شخصه، في ذات المنطقة الإنتخابية بسهل الغرب الفلاحي، هو النزاهة والثقة التي نسجها مع المواطنين، أي فوزه بمصداقية راسخة لديهم.
لهذا السبب، لم تخطؤه نباهة الملك الراحل المغفور له الحسن الثاني، حين قدمه كنمودج للشباب الوطني التقدمي المعول عليه لإعادة بناء المغرب، أثناء لقاءاته مع قيادة الإتحاد بزعامة فقيدنا العزيز عبد الرحيم بوعبيد، مباشرة بعد بروزه اللافت ضمن تدخلات الفريق الإتحادي أثناء مناقشات ملتمس الرقابة بالبرلمان المغربي سنة 1964. وأن مساره النضالي ذلك، سيتعزز إيجابيا من خلال أدوراه الواضحة في التأسيس لدور تنويري للجامعة المغربية، من خلال دروسه القيمة التي كانت منارة للطلبة، وكذا مساهمته القوية في تأسيس النقابة الوطنية للتعليم العالي، ثم دوره في كل المراحل النضالية لترسيخ خيار استراتيجية النضال الديمقراطي، التي بلورتها الحركة الإتحادية في مؤتمرها الإستثنائي سنة 1975. مرورا بترأسه لفريق المعارضة الإتحادية بالبرلمان سنة 1977، والذي برز فيه كقائد فريق محنك ورجل سياسة من الطراز الرفيع. وصولا إلى مساهمته الوازنة في التأسيس للإنتقال الديمقراطي وميلاد حكومة التناوب، من خلال تمكنه من حيازة ثقة أغلبية برلمانية بوأته أن يكون أول مسؤول وطني اتحادي يفوز برئاسة البرلمان، الأمر الذي مهد الطريق لخروج حكومة التناوب إلى الوجود. وأن التتويج السياسي لدوره ذاك، المسنود دوما بحكمة رصينة، قد كان في تحمله مسؤولية وزارة العدل من موقعه الحزبي، مما شكل لحظة متميزة ضمن أدوار الوزارة، وأيضا في مساره السياسي، بالتوازي مع تحمله مسؤولية قيادة حزب الإتحاد الإشتراكي، في مرحلة دقيقة من تطور الفعل السياسي الحزبي ببلادنا.
لا أريد أن أطيل عليكم، أيتها السيدات والسادة، لكنني في الختام، أعترف أمامكم، أنه حين أتأمل سيرة أخينا عبد الواحد الراضي، فأنا أرى فيها دوما مثالا، عن معنى ما تفعله النباهة والحكمة، حين تتعاضد مع التكوين العلمي الرصين، ومع الوضوح في الرؤية السياسية. وأنه ظل يشكل إلى جانب أخينا الراحل الدكتور محمد جسوس، نماذج اتحادية تحسن استيعاب الإنصات لصوت كل الشرائح المغربية، مما كان يغني الخطاب السياسي للحركة الإتحادية وكذا المشهد السياسي المغربي، بمصطلحات من بنات أفكارهما، ظلت مميزة إلى اليوم.
وإذ أشكركم كثيرا، على حفلكم التكريمي هذا، فلأنه في العمق هو تكريم لذلك المسار في شموليته. أي أنه ليس تكريما لشخص الأخ عبد الواحد فقط (وهو مستحق تماما)، بل إنه تكريم أيضا للجيل الذي ينتمي إليه، ولما ظل وسيظل يرمز إليه من عنوان لمدرسة في الوطنية المغربية، من موقعها التقدمي.
شكرا لكم جميعا.
والسلام عليكم ورحمة لله تعالى وبركاته.


بتاريخ : 28/03/2023