المفكِّر الفرنسي كريستيان بونو: الغرب قد حقَّق تقدماً في معرفة الموجودات
المعروف أنّ المفكر الفرنسي الراحل كريستيان بونو حائز على شهادة الدكتوراه في حقل العرفان الإسلامي من جامعة «السوربون» الفرنسية، وله مؤلّفات فكرية في الإسلاميات، مثل: (التصوّف والعرفان الإسلامي)، و(الإلهيات في الآثار الفلسفية والعرفانية للإمام الخميني)، (تأليف وترجمة وتفسير القرآن الكريم باللغة الفرنسية) ولم يكتمل بعد. الحوار الذي أجراه معه الدكتور أمير عباس الصالحي تركَّز حول هذين البعدين معاً وإن كان المنطلق هو الوقوف على رؤيته حيال غربٍ آيلٍ الى الاضمحلال والتهافت.
– هل يمكن العمل على تقديم بعض المقترحات والنصائح على أساس الأفكار الفلسفية لصدر المتألهين في إطار إحياء الحضارة الإسلامية؟
– يمكن القيام بذلك قطعاً؛ لأن إحياء الثقافة أو أساس ثقافة ما، إنما يقوم على أرضية عقلية. ومن هنا فإن الدعوة إلى العقل بمنزلة المرحلة الأولى والأخيرة في مثل هذه الغاية. ومن بين جميع الروايات المأثورة بشأن ظهور إمام العصر f، نجد أن الأكثر أهمية هي الرواية التي تقول إن المهمة الرئيسة التي سوف يقوم بها الإمام بعد ظهوره هي إكمال عقول الناس، وأن سائر الأمور والمهام الأخرى سوف تكون بمثابة المهام الثانوية. وإن القرآن الكريم بدوره يدعو إلى التفكير والتعقل، وأن لا نقول بأن ثقافتنا هي الأفضل لأن أسلافنا كانوا يعتقدون بهذه الثقاقة، وأن آباءنا كانوا يعتنقونها. إن منطق القرآن هو التعقل والإدراك العقلي. من هنا، فإن البداية والمتمم لجميع الأعمال بأسرها يجب أن تقوم على التعقل والتفكير. ومن هذه الناحية، يمكن لفلسفة صدر المتألهين أن تكون مفيدة ونافعة.
حريٌّ القول أنه لا يوجد لدينا إلى الآن نتيجة أقوى وأكثر استدلالاً من فلسفة صدر المتألهين، وأرى أن هناك مثل هذه الإمكانية في هذه الفلسفة. ربما لو لم يأتِ صدر المتألهين لكنا ما نزال نعيد اجترار فلسفة ابن سينا. لقد مضت قرون حتى ظهر شخص مثله ليقدم لنا مسائل أساسية من قبيل: اتحاد العاقل والمعقول، ومسألة أصالة الوجود وما إلى ذلك، وأثبتها بالأدلة العقلية. من هنا، قد لا تكون فلسفة صدر المتألهين مفيدة في مسألة من المسائل، بيد أنها مفيدة في مسألة أخرى. وعلى كل حال وفي ما يتعلق بالنقل عن ابن سينا يجب علينا جميعاً أن نكون من «أبناء الدليل».
– كيف يمكن للجمع بين المعنوية والعقلانية أن يكون بمثابة الوجه البارز لفلسفة صدر المتألِّهين في مواجهة الحضارة الغربية؟
– إن البحث حول الجمع بين المعنويات والعقلانية بحث أساسي وهامّ للغاية، غاية ما هنالك لا ينبغي الوقوع في سوء فهم، والاعتقاد بأن المسائل العقلية على درجة واحدة من الاعتبار؛ إذ ليس هناك في الأمور النظرية من دليل ومرشد غير العقل. من الممكن أن نكون في المرتبة النظرية قد وصلنا إلى نتيجة عقلانية، ولكننا في مقام التنفيذ نفتقر إلى الناحية المعنوية. من ذلك أن أعلم على سبيل المثال أني لا أمتلك مقومات القيام بهذه المهنة، وأفتقر إلى القدرة اللازمة للاضطلاع بها؛ ولكني في المقابل أحتاج إلى راتبها لكي أتمكن من دفع نفقات دراسة ولدي في الجامعة. ولذا، فإني أقبل العمل فيها. إن هذا الاختيار لا يحتوي على مشكلة عقلية، ولكنه يحتوي على مشكلة عملية. والمعنوية يتمّ طرحها غالباً في مقام العمل، ولهذا السبب ترتبط بحقل السلوك والعمل. نحن نعلم أن أكثر المسائل المطروحة في الوحي من المسائل العملية، وهي بطبيعة الحال مسائل عملية ذات أرضية نظرية. عندما يسأل الإمام الصادق. عن معنى العقل، نجده يقول: «العقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان»؛ إن الجزء النظري يشتمل على معرفة لله، والجزء العملي يشتمل على اكتساب الجنة. فبحث معرفة لله مسألة نظرية، واكتساب الجنان يستلزم القيام بالكثير من الأمور. وبعبارة أخرى: في ما يتعلق بالبُعد النظري يجب أن نؤمن بوجود لله. ثم في البُعد العملي علينا التوجّه إلى الكثير من المسائل. وينبغي القول أن المسائل العملية هي أضعاف المسائل النظرية، وهذه النقطة تشتمل على أهمية بالغة في ما يرتبط بمواجهتنا مع الغرب؛ إذ أن البحث النظري يمثل الأساس لجميع سلوكياتنا وممارساتنا العملية.
– هل المواجهة الانتقائية مع الغرب صحيحة وممكنة؟ بمعنى أن نعمل من خلال التفكيك والفصل بين العقائد والتداعيات والمعطيات الغربية في حقل «الحسن» و»القبيح»، على أخذ كل ما هو من الغرب الحسن، ونجتنب كل ما هو من الغرب القبيح؟
– ما هو المبنى الذي يمكن على أساسه التمييز بين الحسن والقبيح؟ نعيد ثانية عرض التوضيح الذي تقدّم بيانه. في الحقيقة، عندما يتمّ الحديث عن الأمور في المسائل النظرية، فإن الكثير من الأشياء سوف تكون متعلقة بها. التقسيم الأولي بين هذه الأمور يعود إلى تقسيمها إلى مادية وغير مادية. ويمكن لنا تقسيم الأمور إلى أشياء موجودة من دون إرادة الإنسان، وأشياء موجودة بإرادته. وبعبارة أخرى: في بعض الأحيان لا تتوفر لدينا سوى إمكانية إدراك الأمور النظرية الأعم من الأمور المعقولة والمحسوسة ويكون تغييرها خارجاً عن إرادتنا. ولكنَّ هناك أموراً أخرى أيضاً توجد بإرادة الإنسان، من قبيل: السياسة والاقتصاد وما إلى ذلك. والإنسان في هذه المرتبة يعمل على إظهار فكره النظري، ويجعل معقوله أمراً محسوساً؛ كما يفعل المهندس على تحقيق البناء المتصوَّر في ذهنه في العالم الخارجي. إن هذه المراتب الثنائية بدورها تعبّ عن فلسفة تقسيم العقل إلى العقل النظري والعقل العملي؛ وذلك لأن عقل الإنسان يعمل من خلال النظر إلى مستويين أو نوعين من الأمور؛ بعضها يعرفه، وبعضها الآخر لا يعرفه. بعبارة أخرى: إن المعرفة تؤدي إلى السلوك، ويكون مستوجباً لتغيير سلوكنا. وهذه المعرفة لا دخل لها في إيجاد الموجود. فلو لم تكن هناك إرادة لدى الإنسان إلى طبخ الطعام، فإنه لن يوجد أي طعام مطبوخ.
وعلى هذا الأساس تؤدي هذه المعارف النظرية إلى العمل، وعندما يتحقق العمل، يتجلى نوع من المعنوية. من ذلك أننا على سبيل المثال نقول في البداية: لا علاقة لنا بتلوّث الماء، غاية ما هنالك أننا بعد إدراكنا أننا نحن الذين يجب أن نستفيد من هذا الماء الملوّث، يتبلور لدينا نوع من المعنوية والداعي إلى المحافظة على طهارة الماء ونظافته. وعندما يتمّ البحث عن عمل الإنسان، تتبلور المعنوية، وتبعاً لها يتم طرح فرضيات من قبيل: العدالة أو المصلحة. وعليه بالنظر إلى سؤالكم نعود إلى مسألة عدم الأرضية الميتافيزيقية. فحتى الافتقار إلى الأساس المعرفي بدوره يعود إلى عدم الأساس الميتافيزيقي أيضاً. وكما سبق وذكرنا، فإن التكنولوجيا تقوم على إبداع، والإبداع بدوره يقوم على الأساس الميتافيزيقي. من هنا يمكن القول أن الغرب قد حقَّق تقدماً في معرفة الموجودات، ولكنه لم يكن موفقاً إلى حدّ كبير في ربط المعرفة بـ «الواجب». والواقع أن هذا التحدي لا يعود سببه إلى فقدان المعنوية فحسب، بل هناك سبب آخر أيضاً هو عدم وجود الأساس النظري أو الميتافيزيقي.