تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه مع بول شاوول :
– ولكن كيف؟
– يمكن أن نقول إن الغزالي هو الذي نظر لتقهقر الحضارة العربية بطريقة واعية أو غير واعية، لأنه استطاع التغلب على الفلسفة باسم التصوف وباسم اللاهوت، ثم تغلب على التصوف بوسيلة اللاهوت. اما ديكارت، وهو الفيلسوف الثوري الذي فتح أبواب الثقافة الغربية لفهم الحضارة العصرية، فقد اتبع طريقة أخرى: استطاع تجاوز اللاهوت باسم العلم ومن ثم فتح الباب للتقنية وللعلوم وللحضارة العصرية. فإذا حاولنا تحليل هذا الجانب الأول يكون هو تحليل الحضارة العربية بصفة عامة، وبخصوص بعض التقهقر في القرون الوسطى. جانب ثان: هو أن العالم أصبح كذلك ماركسيا وأن الأيديولوجية الوحيدة التي استطاعت الانتشار بقوة هي الماركسية. هذا السؤال مطروح على الجميع: سواء كنا ماركسيين أم غير ماركسيين. لأن بعض الخبراء في الاستراتيجية العالمية وبعض الأمريكيين، وكذلك بعض العلماء المضادين للماركسية، يستعملون بعض مفاهيم الجدلية الماركسية، وذلك بعد افتقار الأيديولوجية الليبرالية إلى إيجاد إيديولوجية تكنوقراطية بمعناها المطلق ولها أسس عملية وإحصائية فعالة.
هناك جانب ثالث، وهو المسالة المطروحة عند هيدجر ونيتشه وبعض الفلاسفة، ومن قبل عند كانت، والمسألة: هل الجدلية تستطيع تجاوز اللاهوت أم لا؟ مثلا بعض الأنظمة العربية أو غير العربية التي تدعي الاشتراكية على الجدلية الاجتماعية نجدها ما زالت متعلقة بالهياكل القديمة، سواء في ما يتعلق باستبعاد المرأة أو الطبقات الفقيرة أو بالقيم. ولهذا نجد في الهوية وفي المجتمع العربي انفصاما بين المستويات الثلاث: الواقعي والرمزي والخيالي. إنه نوع من الهروب من الواقع او تغطية له. ولهذا نرى المسؤول السياسي يتكلم عن شيء ويفعل شيئا آخر. هذا هو الانفصام في الهوية. غنه هروب من الواقع. والواقع كما قلنا أن يكون كل شيء في موقعه.
– فلننتقل قليلا إلى الكتابة، أي الكتابة الإبداعية، هناك ما يطر باسم الحداثة. وباسم تأسيس اللغة…هل تعتبر أن مثل هذه الطروحات سواء كانت نظرية أم إبداعية، تشكل فعلا كتابة جديدة؟
-نقول «الجديد» ولكن كيف؟ ما هو هذا الجديد؟ هنا يبدأ المشكل. لأن الجديد، يجب ان يتم داخل «الأرضية» حتى لا نسميها التقليد او الكتابة التقليدية. نجد بعض التعبيرات الطبيعية ولكنها لا تمس الأرضية، إن الكتابة في هذه الحالة تغير الواقع. لكنها تنبثق وتبقى في حدود هذه الأرضية. وهذه الأرضية ملك للقديم والجديد، هنا المشكل الصعب، الكتابة الجديدة تنطلق دائما من القديم (الأرضية)، وكنه يريد أن يغيرها ويبقى فيها، دون أن يكون خاضعا لها، هذا صعب. هناك من يريد أن يجدد فيخرج عن هذه الأرضية الموجودة في الأدب العربي الآن هو بمعنى غربي جديد. يأخذ التيارات الجديدة في الغرب ويحاول تطبيقها. يرى مثلا أن الكتاب يضعون سهما فيقوم بنفس العملية، ولكن الكاتب العربي لا يعرف هذا. في رأيي ان ما يجب أن يدخل إلى اللغة العربية يجب أن يدخل عن طريق نفس اللغة. فمفهوم الجديد ينبغي أن نوضحه، والجديد ليس خارجا من الأرضية الموجودة، بل هو من داخل وخارج اللغة العربية. إنه نوع من العنف الذي يتجاوز حدود الداخل ويمكن أن ينتج هذا العنف جديدا ولكن لا يمكن أن نقول مسبقا بأنه جديد. هناك مثلا أشياء كثيرة جديدة في الأدب الفرنسي أسميها «النقوش الأثرية» ولكن لا قيمة لها. لأن ضرورتها غير موجودة ولهذا أفضل الكتاب الذين يملكون قوة الكتابة. نجد كاتبا مثل «جان جينيه» جديدا منذ ثلاثين سنة، بينما كتاب آخرون يكتبون مثل موريس روش في القرن السادس عشر، لأن بلاغة هؤلاء الكتاب قديمة بالرغم من أنهم يعيشون في القرن العشرين. إذن، فهذا التكسير للغة يجب أن يكون على هامش الأرضية أي بين خارج وداخل هذه الأرضية. ولكن إذا أدخلنا قيما جديدة غربية وغريبة في اللغة العربية دون ان تكون ضرورية داخل اللغة المستعملة، يكون هذا التجديد نوعا من التبعية السطحية لنظريات خارجية. ولهذا فتكسير اللغة المقدسة يجب ان يتم كنقد داخل هذه اللغة نفسها، بالرغم من أخذنا لبعض القيم الغربية.