ودعنا المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008. رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
نعيد بعضا من سيرته الذاتية التي أنجزها الزميل والكاتب حسن نجمي بعنوان ” المغرب الذي عشته ” عَبْرَ سَرْدِ رَجُلٍ ملتزم، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي…
حين انتُخِبْتُ رئيساً لمجلس النواب، لأَول مرة في 6 يناير 1998، أحسستُ بمسؤولية كبيرة. كنتُ أعرف أن هذا الموقع لن يكون سهلاً، فأَن تصبح على رأس مؤسسة تشريعية، رمز الديموقراطية، وأن تكون مُطَالَباً بالإِشراف على سَيْرها، وأن تجعلها قادرة على القيام بعملها وأَداء وظائفها ومهامها، وأن تحرص على القيام بواجبها، وأن تحافظ على سلطاتها، وأن تتجه في خطواتها بكيفية خاضعة للمنطق والعقل والنزاهة، وأَن يتم ذلك طبقاً لروح الديموقراطية، ولم يكن ذلك سهلاً. لم يكن سهلاً على الإطلاق، خصوصاً في بلد مثل المغرب لا يزال في طريق البناء الديموقراطي، والذي لا يتوفر على تجربة ثقافيةٍ وتقاليد ديموقراطية كافية.
حين انتخبتُ إِذن كنتُ أجُرُّ ورائي خبرة طويلة تمتد لأكثر من عشرين سنة بدون أن نحتسب سنوات مرحلة الاستثناء التي أَوْقَفَت أول تجربة تشريعية مُنْتَخَبة في سنة 1963.
لقد كانت هذه المرحلة التي انتخبتُ فيها مرحلة انتقالية في اتجاه التناوب، وبالتالي كانت صعبة جدّاً بالنظر إِلى طبيعة وحجم المناورات التي كانت تعارض التغيير، تلك المناورات الظاهرة والمُضْمَرة التي كانت تتوفر على قدرات كبيرة على الإِيذاء لإِفشال الأفق الجديد. وإِلى جانب ذلك، كان عليَّ أن أدبِّر التعايش ما بين أكثر من عشرين حزباً ممثلاً في مجلس النواب موزَّعَة على إِثنَيْ عشر فريقاً ومجموعة برلمانية. هذه الفرق التي كانت غير مستقرة من سنة لأُخْرى بل من دورة لأخرى.
عَلَيَّ أن أشير إِلى أن مجلس النواب كان قد عرف منذ سنة 1993 جملةً من التغييرات الكمية والنوعية، منها تزايد عدد البرلمانيين بل وعدد الأَحزاب السياسية الجديدة من أربعة أحزاب في سنة 1963 إلى ما يفوق عشرين حزباً في سنة 1993، فضلاً عن تزايد الفرق (من ثلاث فرق سنة 1963 إلى 12 فريق سنة 1993) والمجموعات داخل المجلس. كما تراجع مستوى الانضباط داخل الأحزاب واستفحلت ظاهرة الترحال التي أضعفت المؤسسات وأَضرت بصورتها وسمعتها.
في هذه الفترة، كنا قد بدأنا نلاحظ موجة من الأشخاص الذين يُغَيِّرون فرقهم البرلمانية كل سنة ويلتحقون بفُرق أُخْرى أكثر أريحية! وكان ذلك يحدث أَثناء تقديم لوائح أعضاء الفرق وبإعادة انتخاب الأَجهزة الداخلية المسيِّرة للمجلس، مما كان يسمح بأنواع من الإِغراء بالمواقع والمسؤوليات على مستوى هذه الأَجهزة.
وما ساعَدَني على استيعاب هذه الفترة وإِدارتها هو التجربة الطويلة التي كنتُ أَتوفر عليها.
كنتُ، قبل تحمل مسؤولية رئاسة مجلس النواب، قد مررتُ بجميع مراحل المسؤولية داخل البرلمان. في المجلس سنة 1963 كنتُ رئيس لجنة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، ومنذئذ عرفت معنى اللجنة النيابية ودورها وطرائق اشتغالها. وفي تلك الولاية النيابية، كنت نائب رئيس فريق (الفريق الاتحادي الذي كان يرأسه المرحوم الدكتور عبد اللطيف بن جلون)، ومن ثَمَّ تَدرَّبْتُ إِلى جانب سي عبد اللطيف، وكنتُ أحضر ندوة الرؤساء مع كل من كان يحضرها آنذاك من رئيس المجلس ورؤساء الفرق النيابية ورؤساء اللجن والوزراء. وفي سنة 1977، أصبحت رئيساً لفريق المعارضة الاتحادية في عمق سنوات الرصاص حيث كان يُنظر إلى من ينتمي إلى الاتحاد الاشتراكي على أنه ضد النظام السياسي، فما بالك بمن عليه أن يصبح ناطقاً رسمياً باسم الاتحاد في البرلمان؟ وهذه مسؤولية أخرى أتاحَت لي حضور ندوة الرؤساء وتحمل عدد من المسؤوليات وخوض العديد من المفاوضات والمناقشات والمعارك، فضلاً عن البعد السياسي لهذه المسؤولية وأنت تمثل حزباً أساسياً في تاريخ المغرب المُسْتَقِل، في المعارضة وفي الحياة السياسية الوطنية، وعليك أن تبلغ الرسالة التي انتدبت إِليها، وأن تحافظ على المكاسب وتراعي المصلحة العليا للبلاد. وأما هذه الرسالة التي كان علي أَداؤها فهي مواجهة الاستبداد والتنديد بسياسة القمع، وذلك دون السقوط في أحابيل التأويل السهل، إِذْ كان عليَّ تفادي النظر إِلى خطابي كما لو كان متطرفاً وغير مسؤول لدى البعض أو كما لو كان خطاباً مُهَادِناً لدى البعض الآخر.
وفي سنة 1993، انتُخِبتُ نائباً أولَ لرئيس مجلس النواب. وهذه مسؤولية تضعك في صورة مكتب المجلس من داخله، وتتعرف على الطريقة التي تتم بها إدارة هذا المكتب ومجريات المجلس ككل من حيث المراقبة والتشريع والدبلوماسية البرلمانية، وجوانب التسيير المالي والإداري والمعنوي.
وخلال مسؤوليتي كرئيس فريق في الفترة ما بين 1977 إلى سنة 1983 (تاريخ تعييني من طرف جلالة الملك الحسن الثاني وزيراً للتعاون) أتيح لي أن أَطلع على جانب آخر له أهميتُه وهو العلاقات الخارجية لمجلس النواب والدور الحيوي الذي يمكن أن تنهض به الدبلوماسية البرلمانية في خدمة مصالح المغرب وقضاياه الوطنية. فقد ترأستُ عدة وفود نيابية إِلى الخارج في إطار اللقاءات والمؤتمرات الدولية والجهوية أو في إطار تبادل الزيارات ضمن العلاقات البرلمانية الثنائية مع البرلمانات الشقيقة والصديقة. وفي سنة 1993، كنائب رئيس مجلس النواب كنت أُشْرِف مباشرةً، على ملف العلاقات الخارجية للمجلس. ومعناه أنني كنتُ قد أصبحتُ أكثر حضوراً في مختلف المنتديات البرلمانية الدولية، سواء داخل الاتحاد البرلماني العربي أو الاتحاد البرلماني الأفريقي أو البرلمانات الجهوية مثل جمعية الحلف الأَطلسي، ومنظمة الأَمن والتعاون الأوروبي، وجمعية مجلس أوروبا، أو الاتحاد البرلماني الدولي. وهذه مرحلة خصبة بالنسبة إليَّ، إذ تعلمتُ خلالها الكثير من الأشياء وقدمت جهداً ملموساً في الأَداء وتحقيق المردودية الإيجابية للمؤسسة التي كنت أمثلها ولبلادي. ولعل تجربتي السابقة كوزير للتعاون، وأيضاً كأمين عام للاتحاد العربي الأفريقي، وكعضو في لجنة العلاقات الخارجية لحزبي الاتحاد الاشتراكي، هذه اللجنة التي ترأست أشغالها عدة مرات داخل مؤتمراتنا الوطنية، أصبحت بمثابة رأسمال رمزي.
هذا الرصيد إِذن كان عليَّ أن أستند إِليه كقاعدة انطلاق في تَحمُّل المسؤولية الجديدة رئيساً منتَخَباً لمجلس النواب المغربي في سنة 1998. ولكن الرأسمال القوي، في الحقيقة، الذي كنتُ أرتكز عليه هو ثقة النواب من مشاربَ سياسيةٍ وفكرية مختلفة، ثقة الاتحاد الاشتراكي بمناضلاته ومناضليه ومسؤوليه، ثقة الكتلة الديموقراطية، ثقة الأَغلبية، وبطبيعة الحال ثقة الملك الحسن الثاني الذي كان يتعرفُني جيداً ولي معه رحمه الله علاقات ثقة متبادلة منذ سنة 1983 بل وكنْتُ أَعتبره خَطَّ دعمٍ قوي لي ولأفق اشتغالي البرلماني، وفي العمق كان يدعم تجربة التناوب التي كنتُ جُزْءاً منها. ولكن أيضاً كنْتُ أعتمد على إِرادتي في أن أنجح في هذه الخطوة، وعلى شَغَفي بأَن أخدم بلدي بأفضل ما أتوفر عليه من طاقة وإمكانيات ذاتية.
هكذا، توفرت لي شروط أساسية لم تكن متوفرة للآخرين.
وطبعاً، ستعترضُني عدةُ مشاكل لم تكن تُطرح على الآخرين، مشاكل مُصْطَنَعَة، خُصُوصاً في البداية من طرف أَشخاص مدفوعين من خارج المؤسسة، وهو أمر آخر على كل حال. ولكن بالرغم مما تَوفَّر لديَّ من رصيد وشروط، بقيتُ أستَشْعر ثِقْلَ المسؤولية على كاهلي. فكنت أطلبُ من نفسي المزيد من العمل والعطاء، وكنتُ أستنفر كل ما لديَّ من إِمكانيات وعلاقات لأكون في مستوى هذه المسؤولية، لاسيما وقد قررتُ أن أقوم بعدة إِصلاحات داخل المؤسسة النيابية، وأن أجعل هذه الإصلاحات السياسية والهيكلية والقانونية والإِدارية تؤثر إيجابياً في تحويل الذهنيات والمسلكيات السياسية التي كانت سائدة.
وآثرت أن أَتصرف – وهو اختيار شخصي- بطريقة كانت تعيد الأمور إلى نصابها دونما عواقب على المؤسسة.
وحين تحملتُ المسؤولية، لم أجد أثراً لمحاضر اجتماعات مكاتب المجلس عن مختلف الولايات السابقة. كما لم أعثر على أي أثر من محاضر اجتماعات ندوة الرؤساء. هيأتان أساسيتان في المجلس كانت تُتَّخذ فيهما أهم القرارات السياسية والإدارية المتعلقة بسير المؤسسة التشريعية. ومن ثَمَّ حرصتُ على وضع نظام لأرشيف المجلس وصيانة ذاكرته. فقمت بإجراء دراسة لمعرفة الوضعية القائمة والحاجيات الأساسية والمستعجلة للمؤسسة. كما تابعتُ وضع آليات تكنولوجية وإلكترونية للتواصل والأداء البرلماني الداخلي.
وبما أنني كنتُ عضواً في اللجنة الدولية التي أسسها الاتحاد البرلماني الدولي لمراقبة التحضير لإعداد كتابٍ بعنوان «البرلمانات والديموقراطية في القرن الواحد والعشرين»، فقد عملتُ على إِدماج المعايير الدولية لاشتغال البرلمانات في عملنا البرلماني المغربي.
ومن جانب آخر، أمكنني أن أقْنع الفرق البرلمانية بتشكيل لجن دائمة ومتخصصة أثناء الولاية التشريعية كلِّها لضمان الاستمرارية ومتابعة الملفات في الدبلوماسية البرلمانية مُتَعدِّدة الأَطراف، وذلك لتفادي الممارسة البرلمانية غير الاحترافية و«السياحة البرلمانية».
وفَتَحتُ برنامجَ تعاوُن بين مجلس النواب وعدد من المنظمات الدولية في البلدان الصديقة المتخصصة في الدعم التّقْني والمعنوي للديموقراطيات الفتية مثل مؤسسة إيبرث ومؤسسة وستمنستر للديموقراطية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية L’USAID.
كانت المشاكل قد تفاحَشَت بل وكانت هناك تراجعات في البرلمان، وعلى مستوى العَمل البرلماني، وذلك بالرغم من الجهد الملحوظ الذي بذله سلفي السيد جلال السعيد، وهو ما ينبغي أن نصونه له.
في برلمان 1963، كان هناك حضور لسياسيين ولزعماء وطنيين كبار من الضفتَيْن معاً كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وفي برلمان 1977 (لكي أَتخَطَّى تجربة برلمان 1970 حيث لم يكن ثمة لا أحزاب ولا فرق برلمانية ! كان هناك ما كان قد أصبح يُسمَّى بـ«برلمان أوفقير» فقط)، جاء التكنوقراط وضمنهم عدد من الوزراء السابقين الذين تحملوا المسؤوليات في فترة حالة الاستثناء، وبعض كبار موظفي الدولة الذين دفع بهم إلى الاشتغال بالسياسة، فكان ينبغي مجازاتهم وإيجاد خانة معينة لهم. فضلاً عن بعض رجال الأعمال الذين كانت تحركهم مصالحهم، والذين كانوا مُعَيَّنين خارج أي تنافس انتخابي. وكان ينْبَغي إيجاد خانة وأرباب العمل والأعيان فشكلوا أغلب النواب بينما انخفض عدد المناضلين والفاعلين السياسيين في تشكيلة المجلس.
في برلمان 1984، تناقَصَ عدد أرباب العمل وظل التكنوقراط حاضرين إِلى جانب الأَعيان القادمين من البادية والمدينة.
وابتداء من التجربة البرلمانية لسنة 1993، ظهرت فئة جديدة من ذوي النفوذ المالي والأثرياء الجدد. ففي مرحلة كنا فيها نُمارس ضغوطاً هائلة على الدولة لكي لا تتدخل في العملية الانتخابية ولا تعبث بالنتائج عن طريق التزوير والتدليس، جاءت هذه الفئة الجديدة من أصحاب الأموال والمتعاونين مع الإدارة لتخلف الإِدارة؛ فإذا ما تركت الإدارة مساحة فارغة يتَولَّوْن هُمْ مَلأَهَا، الشيء الذي سيُساهم أكثر فأكثر في إِضعاف الأحزاب السياسية التي ستصبح خاضعة لأهواء هؤلاء «السياسيين الجدد»، والذين سيذهبون إِلى أبعد من ذلك، إِذْ ستصبح الأحزاب بدورها رهائن لهم! ثم سيذهبون إِلى مدىً أَبْعَدَ من ذلك. وبالتالي، فإن تركيبة مجلس النواب التي تشكلت في إثر الانتخابات التشريعية لسنة 1997 كان يمكن أن تكون أَفضل. وهذا لا يمنَعُني من القول إِنها تركيبة كانت تتوفر على بعض العناصر الجيدة مع ذلك، إِذْ لا ينبغي للمرء أن ينكر عدداً من الكفاءات والمناضلين الخَيِّرين من مختلف الأَحزاب السياسية، لكن كان من الممكن أن تكون التركيبة أفضل وبِعَدَدٍ أَوْفَر.
ولا أنسى هنا الإِشارة إِلى أن الإِدارة الترابية، خلال تلك العملية الانتخابية، قامت بعملية تزوير مكشوفة ضد الاتحاد الاشتراكي، وفي الوقت نَفْسِه لم تتردد في أَنْ تُزَوِّر النتائج في بعض الدوائر الانتخابية لفائدة بعض مرشحي الاتحاد الاشتراكي مثل محمد حفيظ والمرحوم محمد أديب، وذلك بهدف بث الشك في قيمة الانتصار الانتخابي الذي حققه حزبنا. وسبَقَتِ الإشارة إلى أن حزبنا رفض هذا التصرف وعبَّر عن موقفه بوضوح. كما لم يلتحق حفيظ وأديب بالبرلمان، ومع ذلك ظل حزبُنا يتَصَدَّرُ الأحزاب الوطنية في هذه الانتخابات.
*
مع تعديل الدستور سنة 1996، عدنا إلى العمل بنظام الغرفَتين، لكن للأَسف بدون تهييء الشروط الضرورية لإِنجاح هذا الإِصلاح. في هذه الظروف، كان مجلس النواب مضطراً ليقتسم مع مجلس المستشارين الجديد المكاتب والموظفين وأدوات العمل. بل حتى القاعة الكبرى وقاعات الاجتماعات الأخرى أصبحنا نستعملها بالتناوب بين الغرفتَيْن. وستُصَعِّب هذه الوضعية من مهامي، فقد كان لها تأثير على سَيْر مجلس النواب وألقت بثقلها لفترة طويلة على إيقاع عملنا في مجلس النواب وعلى وتيرة الإصلاحات.
انْكبَبْتُ إِذن على جُملَةٍ من الإِصلاحات التي كانت ضرورية لتحسين عملنا البرلماني، وللرفع من وتيرة الحضور والمواكبة والأَداء، وللارتقاء بصورة البرلمان ومصداقيته.
وكانت البداية بالهياكل المُسَيِّرة للمجلس، فقد كان مكتب المجلس يتكوَّن على أساس التمثيل النسبي. وكان هذا التمثيل يتيح لأصغر الفُرُق أن تكون ممثلة في المكتب، مما كان يجعل عدد أعضاء المكتب يتجاوز أحياناً العشرين، وهو عدد لا يسمح بالتسيير المحكم وباتخاذ القرارات في أفضل الشروط.
كذلك مشكل آخر كان مطروحاً، وهو شرط حصول أي حزب على إِثنَيْ عشر (12) نائباً ليُشَكِّل فريقاً، فكان الحزب الذي يحصل في الانتخابات على تسعة برلمانيين، يبذل جهداً للحصول على ثلاثة برلمانيين من أَلوان سياسية أخرى كي يشكل فريقاً. ومن هُنَا، بَدأَتْ تنتشر ظاهرة الترحال السياسي ضدّاً على الالتزام الحزبي والأَخلاق السياسية والتعاقد الانتخابي النَّزيه مع المواطنين، وذلك سَعْياً للحصول على منصب داخل مكتب المجلس أو ترؤس إِحدى اللجن أو ترؤس فريق.. وما إِلى ذلك.
ولمحاربة هذا النوع من الفساد السياسي، تَوفَّقْتُ في رفْعِ عدد النواب اللازم لتكوين فريق برلماني من 12 إلى 20 نائباً والذي ما زال هو العدد المعمول به حتى الآن، رغم عدة محاولات لتخفيضه من جديد. وهو الإِصلاح الذي أدى تدريجياً إِلى تقوية نهج التحالفات السياسية بدلاً من الترحال. كما ساعد على تقليص عدد الفرق البرلمانية من إثني عشر إِلى سَبْعَةِ فرق آنذاك.
كان هناك مشكل تَعدُّد اللجن أَيضاً من أجل الترضيات الشخصية، فقد كان المجلس يتوفر على إِثنَتيْ عشر لجنة لكي يكون لِكلِّ فريق برلماني إمكانية ترؤس إِحدى هذه اللجن. وبالتالي كانت هناك لجن لا تجد ما تفعله على امتداد السنة. فكان ينبغي إِذن إِعادة بناء التصور حول هوية اللجن ووظائفها ومردوديتها على مستوى التشريع والعمل الرقابي، والسعي إلى إِخراج العمل البرلماني من الجو غير العقلاني الذي كان سائداً.
وهكذا، جئتُ بمشروع إِصلاحي. لكي يتشكل فريق برلماني، ينبغي أن يتوفر على عشرين برلمانياً مثلما في الدول المحترمة. فقد كان يصعب على مَنْ يحصل على تسعة مقاعد أن يصل إلى عشرين برلمانياً عن طريق الترحال. وهذه صيغة للحدّ من هذه الظاهرة السلبية، وذلك في أفق النضال من أجل الوصول إِلى إِقرار قانون يمنعها كما سنحققه بالفعل فيما بعد في دستور 2011. كما وصلنا بمقتضى هذا الإصلاح إلى أن يصبح مكتب المجلس مكوَّناً من سبعة أعضاء خلال تلك السنة (1998)، ممثل واحد عن كل فريق، بدلاً من عشرين أو ثلاثين عضواً كما كان عليه الأَمر من قبل. وبخصوص اللجن، فقد تقلص عددها من 12 إلى 6 لجن بدون أي مساس بنجاعتها. كما قمتُ بإِدماج الوظائف والقطاعات مع بعضها البعض، حسب انسجام الاهتمامات والملفات أو تقارب التخصصات، لتصبح كل لجنة مكلفة بمتابعة ومراقبة ومناقشة عدة قطاعات. وبالتالي، لتجد العمل البرلماني الوافر الذي ينبغي أَن تَنْكَبَّ عليه خلال الفترة التشريعية.
وكما يمكن أن يتوقع المرء في مثل هذه الحالات، فقد كانت هناك معارضة قوية لهذه الإِصلاحات، وذلك لاعتبارات شخصية أو مصلحية، ولكنها إصلاحات كانت ضرورية وكان ينبغي بها عقْلَنة وتطوير أجهزة وآليات العمل البرلماني. ووصل الأَمر بالبعض –بتواطؤ مع بعض الوزراء آنذاك- إِلى حدّ طلب تدخل جلالة الملك الحسن الثاني، لكنه لم يكن يُقْحم نفسه في السير اليومي للبرلمان. وفي النهاية، تمكَّنْت من إِقرار هذه الإِصلاحات.
وبعد حوالي سنتَيْن، سعى بعض مكونات الأَغلبية إِلى طرح مراجعة جزئية لأعضاء مكتب المجلس، فلا يُعقَل –في نظرهم- أن يتمثل كل فريق بعضو واحد، والحال أن الفرق البرلمانية لم تكن متساوية من حيث حجمُ تمثيليتها في المجلس، مع العلم أنه لم يكن هناك –في الحقيقة- مشكل التمثيل النسبي، إذْ في حالة التصويت كان كل ممثلٍ لفريق برلماني مُعَيَّن يظل يحتفظ بحجمه السياسي استناداً إلى عدد أعضاء فريقه. وبعد حوار ونقاش، رفعنا عدد أعضاء المكتب –من باب التوافق- من تسعة نواب للرئيس إِلى ثلاثة عشر نائباً. وهو نفس العدد الذي لا يزال العمل جارياً به.
وأما بخصوص قضية الترحال التي أفسدت المشهد البرلماني والحزبي لفترة طويلة، أذكر أنني توجهتُ لأَلتقيَ جلالة الملك الحسن الثاني في إطار مهامي الوطنية، وكان ولي العهد سيدي محمد حاضراً. وخلال اللقاء، وفي سيَّاق الحديث عن هذه الظاهرة سأَلني الملك هل من إِمكانية لمنع الترحال بالقانون. وكنت قد علمتُ بصيغة قانونية في البرلمان يجري العمل بها في بعض البلدان الاسكندنافية، وأيضاً في الباكستان في حدود علمي، تم اعتمادها لنفس الحالة فأخبرتُ جلالته بها وأكدتُ أن القانون الذي اعتُمِدَ يمنع مَنِ انْتُخبَ باسم حزبٍ سياسي أن يلتحق بحزب سياسي آخر طيلة الفترة التشريعية. فإِذا غَيَّر الحزب، تسقط صفته البرلمانية، ويمكِنُنا أن نمضي في هذا الاتجاه. وهو المطلب الذي لم يتحقق إِلا بعد ما يزيد على عشر سنوات في عهد جلالة الملك محمد السادس من خلال دستور 2011، الشيء الذي يعكس قوة المقاومة ضد الإِصلاح والتغيير.
وبنفس الإرادة والإِصرار على المزيد من الإصلاحات، سهرتُ على أَن تبدأ الاجتماعات في الوقت المحدَّد. كنا نظل في السابق ننتظر ساعة أو ساعة ونصفاً أو أكثر قبل أن ينطلق الاجتماع. فقد يكفي أن يتأخر أو يتغيب أحد أعضاء الحكومة أو أي طرف برلماني لتعطيل الآلية البرلمانية، وكان عليَّ أن أفرض احترام القانون.
وأَذْكُرُ أن المكتب، بمناسبة دراسة القانون المالي وبالأَخص ميزانيات الوزارات، كان يهيئ –طبقاً لمقتضيات القانون الداخلي للمجلس- برنامجاً خاصاً يُحدِّد التواريخ، الأماكن، الآجال، أشغال مختلف اللجن، فضلاً عن تنظيم المناقشة في الجلسات العامة. وكان جميع أعضاء الحكومة يحترمون قرارات المكتب باستثناء وزير الداخلية آنذاك الذي كان يبحث عن معاملة خاصة ليتميز عن باقي الوزراء، إذ كان يفضل أن تكون ميزانية وزارته هي آخر ميزانية تناقش، وذلك قبل الجلسة العامة للتصويت، وذلك ليستثمر حضور جميع النواب الحاضرين من أجل التصويت على القانون المالي. وكان عليَّ أن أحرص على تنفيذ ما سَطَّرَهُ القانون الداخلي وما قَرَّره مكتب المجلس.
كما وَضَعْتُ حَدّاً أيضاً لعملية الإِخراج الاستعراضي أو للمعاملة الخاصة التي كان وزير الداخلية يخص نَفْسَه بها، وهي تجاوز المدة الزمنية المخصصة له.
واجَهتْني في البداية صعوبات بالتأكيد في كُلِّ خطوة كنتُ أُقْدِمُ عليها على طريق تنفيذ مشروع الإِصلاح، وكان بعضها تحركه خلفية سياسية. وكان بعضها الآخر يحركه عدم العلم بحقيقة العمل البرلماني. وخلال تلك الفترة، وَجَدتُ نَفْسي أَتَلقَّى مكالمات هاتفية أو زيارات من بعض رؤساء وأمناء الأَحزاب يقترحون عَليَّ المجيء ليناقشوا معي هذه المواضيع، وهم ليسوا برلمانيين. وكان عليَّ أن أُفَسِّر لهم بأنني رئيس مؤسسة برلمانية ولا أناقش القضايا البرلمانية إِلاَّ مع البرلمانيين. واستغرب بعضهم كيف لا يحق له أن يناقش هذا الأَمر وهو رئيس حزب، وهو بهذه الصفة يعتبر نفْسَه رئيساً للبرلمانيين الذين ينتمون إِلى حزبه ! وإِلى جانب عدم المعرفة، كان بعضهم مدفوعاً إِلى عرقلة ما كنتُ بصدده. وكان عليَّ أن أوضح لهم بأن مخاطبي الوحيد داخل البرلمان هو رئيس الفريق.
من جانب آخر، كنا نشرع في جلسة الأِسئلة الشفوية ابتداءً من الساعة الثالثة بعد الزوال. وفوجئت مرةً بمكالمة هاتفية، وكان رئيس ديوان أحد الوزراء يتصل بي. وبعد أن أبلغني سلام الوزير، قال لي إِن السيد الوزير سيصل متأخراً، وحبذا لو تم تأخير الجلسة لبعض الوقت إِلى حين وصوله. أجبتُه على الفور: «إِسمح لي، إِن القانون يُطبَّق على الجميع، ولا أتصرف إِلا بالقانون. إِذا كان مسجَّلاً كأول وزير سيتدخل، يمكنني أن أؤخر ترتيبه. أما أَن أؤخر افتتاح جلسة إِلى أن يحضر وزير من الوزراء فهذا ما لا يُقْبَلُ أبداً، لأنه يعطل أشغال المؤسسة». وهكذا، صرتُ أحضر قبل الموعد بقليل، وما إِن تدق الساعة الثالثة حتى أَفتتح جلسة الأسئلة الشفوية. ومن ثَمَّ أصبح الوقت مقدَّساً لدى الجميع، ما من جلسة تنتظر أحداً لم يحضر في الوقت. وهذا ما تَسبَّبَ لي في بعض أنواع العداء العميقة والمستمرة مع بعضهم.