من حوارات الخطيبي 11- التمييز بين الذاكرة العابرة والذاكرة المخزنية

تساءل دولوز، في كتاب يحمل عنوان “حوارات” Dialogues، ما هو الحوار؟ وما فائدته؟ -فأجاب- ينبغي ألا يتم الحوار بين الأشخاص، بل بين السطور والفصول، أو بين أجزاء منها؛ فهذه الحوارات هي الشخوص الحقيقية” ، وهو في هذا مثله مثل صمويل بيكيت، متحفظ من جدوى الحوارات، ومثلهما أيضا، عبد الفتاح كيليطو، في تردده من إجرائها، لكنه استجاب لها واعتنى بها، وجمعها في كتاب “مسار”.
الكاتب عبد الكبير الخطيبي رجل حوار، أجريت معه حوارات ومقابلات تضاهي ما ألفه من مؤلفات، في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل حظيت بتأليف مستقل مثل كتاب” La beauté de l’absence” للباحث حسن وهبي، وكتاب” Le chemin vers l’autre” . ونجد من محاوريه، الصحفيين والكتاب أنفسهم: غيثة الخياط، والطاهر بنجلون، وبختي بن عودة، وعبد الله بنسماعين، وعبد المجيد بنجلون، وبول شاوول…
إن انتعاشة الحوارات مع المفكرين والمبدعين لمشير على أنهم أفلحوا، أو يسعون إلى ذلك، في إبداع متلقيهم وصناعتهم، بتعبير الخطيبي نفسه. وهو الذي كان يقول “مطلوب من الكتاب أن يقدم نفسه”. لكن الحوار يضمن شروط نجاحه، إذا تناظمت مهارة حذق السائل وخصلة ثقة المسؤول.
في ما يلي الحوار الذي أجراه معه برنار ستيغلر :

 

-ع.خ- ثمة أحيانا التلاعب بالطزاجة. وثمة أيضا الطزاجة المغلوطة: المشكل اللبناني، مثلا. ومن جهة اخرى، يتبدى لنا المذيع أنه متحرر في كلامه من دون توجيه…
– ب.س- تماما. مقدم الأخبار في التلفزيون ينظر في عيني ليخلق مفعولا من التلقائية والقرب…إنه مفعول «المباشر».
– ع.خ- يستمد الكلام الوسائطي، في نظري، شفراته اللغوية من الأدب الموازي.
– ب.س- فعلا، قضية «تروتمان» في تقديري، هي أيضا أهم في تاريخ الصحافة مثل قضية «دريفوس». وهي قضية يعود تاريخها إلى 1864، فقد قام أحد الأشخاص -حدث هذا بفرنسا- باغتيال ثمانية أشخاص بطريقة رهيبة. وأنجز أحد الصحفيين -يشتغل بـ» Petit Journal «- تغطية للحدث، امتدت حلقاتها إلى ثلاثة أشهر، انشد إليها القراء في متابعة مشوقة. وكانت هذه الحلقات إنجازا مهما؛ فمبيعات « Petit Journal « تضاعفت إلى 500000 نسخة (خمسمائة ألف). إنه البعد الوسائطي للحدث. في الواقع، هذا الحدث تحول إلى سيرورة، تضفي بلبوسها على الحدث.
إن طموح كل جريدة هو رفع رقم مبيعاتها، ولهذا السبب يُفَضَّل بصورة ثابتة، كل ما يرفع من القيمة التجارية، للخبر وطريقة معالجته.
وخلال ستينيات القرن الماضي، تبين للصحافة أن الحدث يمكن إنتاجه، وخلقه كما يراد له. وهذا هو الخط الرئيس للصحافة الحديثة. أما الميزة الأخرى لهذه الصحافة، فمع الأنظمة التناظرية والرقمية، فإن الخبر يعالج بسرعة الضوء (الخبر بالكتابة الخطية يتحول إلى مجموعة من الإشارات). ومن جهة ثانية، فإن ما يميز الصحافة المكتوبة، عن الصحافة السمعية-البصرية، أنه في الأولى يوجد تباعد، وتأخر أساسي بين الحدث وسرده، بينما في الثانية يمكن تصوير الحدث لحظة وقوعه. وهذا ما نسميه المفعول الواقعي (وهذا ينسحب كذلك على السينما والفن الفوتوغرافي).
– ع.خ- أي معنى نعطيه لمعرض «ذاكرات المستقبل» الذي أقيم في «بوبورغ»Beaubourg (برنار ستيغلر هو صاحب الفكرة).
– ب.س: أنا اميز بين شيئين، الذاكرة العابرة والذاكرة المخزنة. فالأولى مكونة من آثار لا تملك إلا أن تروج عبر الشبكات، ثم تنمحي، بعدما طرقت الآذان واخترقت الأعين. أما الثانية فهي مُشَكَّلَة من كل الآثار المخزنة (مكتبة المرئيات، ومكتبة الصوتيات، وبنك معطيات، إلخ.). إن هذا الرصيد عرف اليوم تصنيعا مكثفا. وهذا ما أدعوه بتصنيع إنتاج الذاكرة، الذي يفسح المجال للتكنولوجيات التي تنتج الخبر وتدبره وتجعل منه استثمارا اقتصاديا. لننتبه إلى أنه في العشرين سنة القادمة (حسب توقعات منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية L’OCDE والبنك الدولي لباريسBIPا) سيتبوأ هذه الصناعة (صناعة البرامج، الصناعات الثقافية، صناعات معدات الحاسوب، الصحافة، إلخ.) صدارة الصناعات العالمية، قبل صناعة السيارات التي تشغل حاليا هذه المكانة. إن مستقبل الإنسانية بما فيه جانبها الاقتصادي محدد بهذا الأفق. فكرة الانطلاق هي عبارة عن سؤال: كيف ستكون مكتبة المستقبل؟ إن التكنولوجيات تغزو شيئا فشيئا المكتبات (تكنولوجيات رقمية وتناظرية) التي تضم أنماطا من الأسس: صور ثابتة، صور متحركة، مكتبة للصور المتنوعة، بنوك معطيات، إلخ. وباختصار، آثار بصيغة مغايرة لا علاقة له بصيغة الكتابة التقليدية. والحال أن الجمهور المتمدرس تلقى تكوينا يؤهله لولوج عالم الكتب، ولا يمكنه من استعمال الأشكال الجديدة للرقمنة. إن الصورة الجديدة للمكتبة تقطع مع صورتها الكلاسيكية، والصورة الأكثر قدامة، مكتبة الإسكندرية. فيما مضي، كنا نجمع مؤلفات، نعدها متضمنة قيمة دائمة، ومطلقة وهذا يندرج في خانة التراث. كانت للمُؤَلَّفٍ قيمة لا تقدر بثمن أو حساب. في مقابل الخبر، الذي له قيمة محسوبة، محددة أساسا بالزمن. وهنا بالضبط يتعارض مبدآن: الأساس التراثي (الثقافي) والأساس التجاري. لأن الآثار من الآن، إلى مجال الاستثمار الاقتصادي.
– ع.خ.-هذه الذاكرة التلقائية التي تتشكل تحت أعيننا، وبسرعة مفرطة في الزمن، ماذا تثير في نفسك، وماذا تستشكل؟
– ب.س.-إن التكنولوجيات اليوم، في جوهرها، تجنح إلى تلافي التأخر، وتضعنا في حاضر دائم. فقد صارت وسائل الإعلام أفقنا المباشر. فهنا يولد الزمن، وهنا، بوصفنا مثقفين، نجد ما نفكر فيه. فسواء كان هناك متلاعبون (أرباب الصحافة، كما وصفهم «أرسن ويلس»، المجموعات …إلخ) أم لا، فنحن في كل الأحوال، ضحايا تلاعب بفعل هذا التحول في الزمن، الناتج عن التقنية. لقد فُتٍحَتْ أمامنا جبهة للمواجهة.


الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 04/04/2023